نصوص أدبية
ناجي ظاهر: مجنون طوني حنا
أحبّ ابن خالي الاكبر، المغنّي اللبنانيّ العربي الاصيل طوني حنا حبًّا ملك عليه أيامه ولياليه، فراح يردّد اسمه على الطالع والنازل بمناسبة وغير مناسبة، مستمتعًا بنطق أحرفه، جائدًا على محدثه أيًا كان مِنَ الناس بحركات تذكّر به، وقد تجاوز حدوده هذه يوم شرع بتقليده له في بُسطاره اللافت للنظر ذي العنق الطويلة.. وفي ملابسه التي توحي بالفروسية العربية وما يرافقها من أنفة ورفعة شأن. وكنّا نحن أقاربه نتابع خطواته وهو يضرب بها الارض، متابعة المحبّ المعجب بهكذا حبّ يقطع الحدود الشائكة ويطير إلى حيث يأخذه قلبه وحنينه، غير عابئ بأي شيء سوى ذلك المغنّي وما يجود به من حركات تهزّ قلبه وكلمات تهزّ كلّ كيانه معًا.
عندما وقعت أحداث هذه القصة المؤسية، كان ابن خالي في حوالي الخامسة عشرة من عمره، وكانت أمه مبهورة به وبِحبّه العظيم لرجل يفيضُ رجولةً هو المطرب صاحب الراس المرفوعة طوني حنا بفخر واعتزاز.. وهو ما كان يمكن أن يشحن ابن خالي بالمزيد من المحبّة لرجل فنان رأى فيه العالم.
سألت ابن خالي ذات لقاء لنا: ما الذي يجذبك إلى طوني حنا؟ فردّ بكلام كثير الخصه بعدد قليل من الكلمات، مفادها أن طوني حنا في نظره عربي أصيل، ويوحي دون أي افتعال أو تمثيل بشخصية العربي الجميل الذي يمكننا أن نباهي به العالم.
ابتسمت لابن خالي ومضيت وأنا أكبرُ فيه هذا الحبّ وأشعر أنه إنما نضج وكبر في وقته المناسب.. ومما أتذكره عن ابن خالي هذا أنه كان يطلق صوته بطريقة تذكّر بفنانه المحبوب، ففي الحمّام كان يصدح بأغانيه.. وفي الشارع يفعل ذلك.. بل إنه كان كثيرًا ما يظهر وكأنه ملك العالم.. وهو يعتلي درّاجته الهوائية وينطلق بها صادحًا: " يا با يا با له يا با يا با له.. من شردلي الغزالة". سألته ذات يوم مداعبًا: لو أمكنك أن تسافر إلى أي مكان.. في الدنيا.. إلى أين تكون وجهتك، فنظر نحوي بنصف عين، وردّ قائلًا: وهل أذهب إلى مكان آخر.. غير مكانه؟، عندها حاولت أن أعاييه قلت له مَن تقصد فردّ بتصميم ومَن غير طوني حنا. لقد كنت بدوري أجد متعة في متابعة ابن خالي هذا، لا سيّما وهو يمشور ممتطيًا دراجته تلك ومنطلقًا بها مغنيًا مرددًا.. ما ردّده عشرات ومئات و.. ربّما آلاف المرات لغزالته العربيّة المشرّدة الرائعة.
في أحد الايام وأنا أتابعه متابعة المُحبّ المعجب بحلم يكبر أمامه يومًا بعد يوم وساعةً في أعقاب ساعة، حدث ما لم أكن أتوقّعه، ويبدو أن أغنية الغزالة الهت ابن خالي عن نفسه.. فاصطدم بدرّاجته.. بسيارة خصوصية.. وعندما ركضت باتجاهه لأرفعه عن الارض، طلب منّي ألا أنفعل كثيرًا.. مضيفًا أن خيرًا حصل.. وعندما اقترب منّا مَن اصطدم به، خائفًا وجلًا طمأنه بإشارة من يده قائلًا له لا تخف.. أنا بحالة سليمة ولم أصب بأي أذى. بإمكانك أن تواصل طريقك. طار السائق الفرح من أمامنا وهو يشكره ويشكرني، ونظرنا إليه ابن خالي وأنا بأمل وحلم، فيما انطلق ابن خالي يغنّي لغزالة طوني حنا التي تشبه غزالته بصورة جنونية.
افترقنا، ابن خالي وأنا، يومها على أمل اللقاء في اليوم التالي، إلا أنه لم يأت، إلى الشارع حيث كنّا نلتقي.. هو على دراجته وصوته وأنا على أملي وحبّي له.. عندها توجّهت إليه في بيته وكنت كلّما اقتربت خطوة من بيت خالي أستمع إلى صوت ابنه حبيبي الغالي ينبعث مردّدًا أغنية الغزالة مِن الشبابيك.. الارض والسماء، فيرتاح قلبي وتدخل الطمأنينة إليه، وليتني ما فعلت.
أقول هذا لأن الايام قالت ما لم تقله الاغنية وعاكسته معاكسة الواقع المُرّ للحلم الجميل، فقد اكتشفنا في الايام التالية أن ابن خالي أخذ يضعف ويهزل جسده، الامر الذي نبّه والديه إلى أنه قد يكون وراء الاكمة ما وراءها، فراحوا يحقّقون ويستطلعون، وكان أن سألوه أمامي عمّا إذا كان قد وقع حادث له أو ما شابه، فأنكر قائلًا إنه لا يشعر بأي شيء.. وإنه لم يقع له أي حادث غير طبيعي. عندها سألته أمام والديه عمّا جرى له بعد اصطدام دراجته بتلك السيارة، فوجدته ينكسر ليعلن أمامنا جميعًا، والديه وأنا، أن تلك الحادثة لم تنته على سلام وأنها خلّفت بين فخذيه كتلة أخذت تكبر يومًا بعد يوم.. عندها هتف به والداه بصوت كاد أن يكون واحدًا: لماذا لم تخبرنا منذ البداية، فأغمض عينيه وهمت الدموع من عينيه.. وهو يهزّ رأسه بأنفة وكبرياء على طريقة محبوبه الفنان العربي المعتزّ بعروبته.
ما إن انتهى ذلك المشهد المُرعب، حتى سارعنا جميعًا لاصطحابه إلى أقرب مستشفى في البلدة، وجاءت الفحوص التي أجراها الطاقم المختصّ صاعقة.. إن مريضكم مصاب بالداء العضال، وليس لدينا أن نقدّم له أي علاج، لو جاء في بداية المرض لقدّمنا له العلاج اللازم. والآن يا دكتور ماذا علينا أن نفعل؟ عليكم أن تأخذوه إلى مستشفى العاصمة.. لعلّهم يقدّمون له العلاج هناك، وينقذون به حياته.
توجّهنا جميعنا إلى بوّابة المستشفى، وطرنا به وسط دموعها وبكائها، إلى العاصمة، هناك أجرى الاطباء المختصون لمريضنا، الفحوص اللازمة ولم يجودوا علينا بأية إضافة إلى ما قاله الاطباء في مستشفى بلدتنا. والآن يا أهل الدوا والطب ماذا بإمكاننا أن نفعل؟ أرسل ألينا الاطباء نظرات مرفقة بدموع حائرة، لم يتبقّ أمامكم سوى أمر واحد هو أن تنقلوه إلى مستشفى الامراض النهائية، "خلص انتهى"، هتفنا بصوت واحد، فردّ الاطباء قائلين خذوه إلى هناك.. مَن يعلم قد تحدث المعجزة وقد يقوم مِن مرضه كما قام العازر من رقدته الابدية.
بعدها.. نقلنا حبيبنا المكلوم إلى مستشفى الامراض النهائية، ورحنا نتردّد عليه يومًا إثر يوم في محاولة منّا لبعث الامل في قلبه وعقله، وكنّا كلّما اقتربنا من غُرفته نستمع إلى صوته يصدح بأغنية الغزالة، فتطمئن قلوبنا وترتاح أساريرنا، إلى أن جاء يوم مقطّب الوجه مكفهّره.. قمت خلاله بزيارته ولمّا اقتربت مِن غرفته في ذلك المستشفى، كان صوته يبدو منهكًا متعبًا، وعندما دخلت غرفته تلك، أرسل نحوي نظرةً آملةً وهو يقول لي أريد أن اودعك وصيتي هل تتحمّلها وتنفذها؟ هززت رأسي موافقًا وعندما لمح دمعةً في عيني، قال لي غير مُلتفت إليها، أشعر أن أيامي في هذه الحياة باتت محدودة.. أريد أن تفعل ما لم يمكنني أن أفعله. أريدك عندما تفتح الحدود بين بلادنا وبين لبنان، أن تذهب إلى طوني حنّا وأن تبلغه محبتي وإعجابي.. وشدّ على يدي وهو يقول لي: قُل له إنني أحببته بجنون.. وأرخى رأسه باتجاه لبنان..
***
قصة: ناجي ظاهر
.............
* من مجموعتي القصصية الجديدة " عمود البيت".