نصوص أدبية
محمد الدرقاوي: صمصم عبد الموجود الموعود...
جميع سكان الحي يعرفون صمصم، رأس كبير بشعر مخرص مغبر غزير، يصطلي على قامة قصيرة، منه تبرق عيون صغيرة بشق عمودي كثعلب يتحين لافتراس ؛ أنف طويل معقوف كدمية الطفل الخشبي بينيكيو، أذناه كبيرتان كثعلب فينيقي، أما شفتاه فقد زمت العليا على السفلى كمن تخاف عليها من هرب ..
صمصم !! ..اسم يرهب الكبير قبل الصغير ويحذر كل فضولي إن هو تدخل فيما لا يعنيه، أو سولت له نفسه أن يهتم بما يرى، فمهما أبصرت عين أو تخيل عقل من وقائع تحدث في إقامة صمصم فهذا شأن خاص لايهم غير صمصم نفسه ..
لم يكن مسكن صمصم غير مربط لبغل، يساكنه بغل، استغل البغل الثاني زاوية بعيدة عنه فِراشا من حلفاء وتبن فوق صناديق خشبية كمكان لراحته بنهار وسريرا لنومه بليل ..غير بعيد عنه وفي ركن يلاصق الباب مكان ضيق يخصصه لجلوسه واستقبال المتعاملين معه..
قلما يجالس صمصم أحدا، فزبانية عصابته من ذكور وإناث، هم بلاعمل، حشاشون ومتسولون، ماسحو أحذية، ومن لا أُسرة لهم، الجميع يعمل انطلاقا من أماكن تواجده، تتباين أعمارهم ما بين الطفولة والكهولة، أما التواصل معهم فيتم هاتفيا متى كان صمصم في حاجة الى أحد منهم منفرد ا أو مصاحبا ذكرا و أنثى حسب المهمة التي سيكلف بها ويسخر من أجلها ..
شبكة من اللصوص وقطاعي الطرق تغطي الحي والى أحياء أخرى تمتد بلا خوف من سلطة أو خشية من أحد، بل كثيرا ما تتكئ السلطة على شبكة صمصم بأمر، كما على نفس الشبكة تعتمد نقابات وأحزاب أيام الانتخابات فكثيرا ما يتم حسم النتائج حسب تدخل الشبكة والاوامر التي تتلقاها وعلى صمصم تملى والثمن الذي يتم دفعه ..
بطش صمصم وجبروته يرهب جميع السكان وكما عبر بعض المقيمين في الحي في اجتماع تشاوري للجيران :
ـ أكثرنا صار يُحوِّل اتجاه غدوه ورواحه بعيدا عن إقامة صمصم حتى لايمر قريبا من هذا الخنزير الذي لم يجد ناهيا ولا منتهيا ..
ـ أسئلة القيم والأخلاق غائبة عن ميزانه وعمن يتعامل معه ..
ـ الى متى نجبن بصمت أمام هذا الظلم الذي تخشى ان تحاربه سلطة بل له تشجع بغض بصر؟
ـ أليس هو الخوف الساكن فينا؟..
ـ بل هو الخوف على فلذات أكبادنا، فمن يعيلهم إذا ما فقدونا في زمن ماتت فيه القيم والأخلاق التي ورثناها عن آبائنا ..
لما مات بغل صمصم في ظروف مشبوهة أجرمت شبكته بتقطيع البغل وتوزيع أعضائه في أكياس تمَّ التخلص منها في واد قريب.. وحين ضج السكان بالروائح الكريهة والنتنة التي اكتسحت الحي ادعى صمصم أن ثلاجته قد فسدت وكان بها لحم ولم ينتبه لتوقفها عن التبريد، ودرءا من انتقامه فقد أيدته السلطة إثرالبحث في الأمر ؛ لكن بعد إضرابات قوية قامت بها المدينة احتجاجا على إهمالها ونسيانها من مشاريع التنمية وإطلاق يد صمصم وزبانيته في أرزاق السكان، وتسترها عليه، فقد تم القبض عليه وحوكم بسنة سجنا بعد أن اكتشف أحد " الفلاسة "أجزاء من تمفصلات البغل وعظامه في الواد الذي يقسم المدينة الى عدوتين فبلغ "الفلاس" السلطة ومعه رأس الحصان الذي مات في إقامة صمصم كدليل ..
استطاع صمصم أن يفر من السجن، أو له قد تم تدبيرفرار بتيسير اثر مظاهرات عمت البلاد بسبب الغلاء والمبالغة في فرض الضرائب، وضعف الأجور، ومشاكل تعم التعليم والصحة والقضاء ومن تم غاب صمصم عن المدينة زمنا ثم هل بظهوروقد غيَّراسمه ولقبه، وصار الحاج عبد الموجود الموعود، جدد مقره بترميم، فتحول المحل من مربط لبغل وسكن لصمصم الى متجر لكل موروث، هو في الظاهرمتجر للتحف الأثرية والزرابي القديمة، وكل عتيق عريق، لكن خلفيته لم يتغير لها نشاط بما لايُرى، وسبحان من يخلق من الشبه أربعين !!..
متاجر أخرى فتحها الحاج عبد الموجود في أكثر من حي فظهور حكومة جديدة، وإصلاح أنظمة الموظفين الأساسية بعد مفاوضات عسيرة مع التنسيقيات وإبعاد النقابات التي لم تعد محل ثقة، والزيادة في الرواتب مكنت الحاج عبد الموجود من أن يعمل في حرية أكبر ويمارس حياة طبيعية بعد أن غير من لباسه فارتدى البدلة الأوروبية والحذاء العصري فوق الجوارب بدل القمصان الرمادية الطويلة الرثة والجاكيط الوسخة، دون أن ينسى تقليعة قصات الشعر الجديدة كما ارتقى من امتلاك بغل الى صاحب سيارة فارهة، وأسطول شاحنات لنقل البضائع والسلع، ورخص للنقل السياحي .. تزوج بسيدة محامية أغراها بماله ونفوده، دفعها للمشاركة في الانتخابات فنالت مقعدا في مجلس جماعة المدينة كعضوة مستقلة عن الأحزاب التي فقدت بريقها ثم مكنتها أموال الحاج عبد الموجود من ترؤس المجلس وهو ما أطلق يده كممول حفلات وصاحب مشاريع بخبرة وتجربة لم يسمع عنها من قبل أن تصير له اليد الطولى في كل المشاريع التي يقررها المجلس ..
لم ينس الحاج عبد الموجود العاملين معه بل كون وفي اسمه الجديد وبأمر من السلطة شركة للامن والحراسة الخاصة، وهكذا صار علامة للضمان: "حاميها حراميها"
مع الأيام وليوحي بتفكير عصري ومبدع شرع الحاج عبد الموجود يتخلص من أكثر زبانيته من المتسولين وقطاع الطرق ومن الأطفال المشردين، وبائعي السجائر، مَن تنازل له الحاج عن متجر مقابل أداء شهري بالتقسيط، ومَن فتح له دكانا في اسمه مع نسبة في الأرباح، ومَن فضل مبلغا ماليا وانسحب، ومَن اشتغل مخبرا، كما منهم من غلا له رأس باعتراض فتم القضاء عليه غرقا في واد، أومطحونا تحت عجلة قطار، أو مسموما بعضات ثعبان تحت قنطرة..
عشر سنوات يغيب فيها الحاج عبد الموجود عن الظهور، بعد أن طلق زوجته المحامية بالتراضي وصار ت من يستفيد من خبراته في تزوير الميزانيات وتحويل المشاريع والتأثير في معارضيها والانتصار عليهم.. طلقها ومنها قد هبر ميزانيات وتعويضات بلا حساب للأموال السائبة .. سافر الى الشرق الأوسط ثم الأدنى ومنه الى الديار المقدسة، أغرق الوسائط الاجتماعية بصوره وأخبار رحلاته وإحسانه للفقراء والمعوزين، ولم يعد يذكر من ماضيه اسم ولا لقب ولا مهنة، وكما قال عنه أحد شيوح المدينة :
ـ الكعبة ترجم بأبناء الزنا ..
عاد الحاج عبد الموجود بعد حج لبيت المقدس ومعه أنثى كم تقوَّل الناس في موطنها الأصلي وديانتها وإن تعرفوا على مهنتها من صورها عبر بوابات التواصل الاجتماعي ..
يظهر الحاج عبد الموجود و وهو أكثر سمنه وأوفر شحما قد ابيض له شعر، فصار كالثلج نصاعة، شذب لحية، وصار ينتعل البلغة الزيوانية مع جلابيب الشعرة أو المليفة حسب الفصول بدل الخف اللدائني القذر، وعلى الرأس يضع عمامة بيضاء ..
يتحدث الناس عن ورع الشيخ عبد الموجود وتقواه وعن قيام الليل ومداومة صلاة الصبح في جماعة، يظهر في وقت يتحدث الناس عن تسامح ديني وتصالح وتطبيع مع جميع القيم الدينية السماوية والأرضية مهما كان معتنقوها، و كانت شراسة تعاملهم مع غيرهم وهو ما يعيد الناس الى طاعة ربها بعد أن انساقت وراء الملذات وتقليعات المثلية وزواج الانسان مع الحيوان ..
لقد وجدت السلطة أن ظهور الحاج عبد الموجود في صورته الجديدة هو نصر لها حديث كمحاولة لتخدير العامة بقيم عصرية براقة ومغرية، والتشكيك في بعض رجال الدين من سيطروا وبالغوا برجعية وتشدد، وما تبثه بعض الوسائط الاجتماعية من تأويلات دينية وما تكشفه أخرى كنقيض، انحلال خلقي صاريساهم فيه كل من هب ودب واليه جره طمع وإغراء بدخل لم يكن ليحلم به، إباحية فاقت الحد شاعت باسم الفن وحرية الرأي والمعتقد ..
شرع اسم الحاج عبد الموجود يذيع بذكر وينتشر كرجل وطني متشبع بالفكر الديني الحر المنفتح، يتحدث عن الانسان الحديث العصري المتحضروعن الأسرة و تجديد قيمها الضائعة، وضرورة إعادة النظر في قوانينها، والمرأة والدعوة الى تحررها، والمساواة بالمناصفة بينها وبين الرجل، وتقليعات الفكر الابراهيمي لسيادة التلاقح والانعتاق من عبودية الذكورة ..
صارالحاج الموعود يحتل مقاعد في المساجد ويقدم الصدقات وعليها يحث لا يتوقف عن ذكر:
ـ العبرة بالخواتم، إنما أمره، وهو يهدي من يشاء الى صراط مستقيم ..
دون أن يدرك المقصود" بمن يشاء"، وأنى له أن يدرك ؟ ..لسان يلغو بما لا يعي يدلي بدلوه بين الدلاء التي صارت لا تميز بين ماء طاهر وآسن ..
المفارقة أن الرجل الذي لا يتغيب عن صلاة الفجر هو نفسه من كانت زوجته تمتهن الرقص و الى الشارع تخرج سافرة وحين سئل عن ذلك قال :
ـ وهل ينظر الله االى صورنا ؟ ..الأعمال بالنيات !! ..هي زوجتي على سنة الله ورسوله، والله غفار لكل مذنب ؟.. زوجتي كانت تمتهن الرقص وتوقفت عن خطيئتها ؛ من كان منكم بلا خطيئة فليرجم هذه الزانية بحجر !! ..لو اطلعتم على قلبها لوجدتم الحنان والرحمة ..تلك كانت مهنتها ولم تعد، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين ..
بعض من عامة الناس اعتقدوا في الحاج عبد الموجود خيرا، فربما الرجل قد غربله الزمن وطهره وان ظل في نفسه أثر من ماض لانعدام معرفة تفصل في مخه بين حرام وحلال بقطع ..
بعضهم عارض هذا الرأي فعيون الرجل كالثعلب تدور في محاجرها وتتابع كل انثى من خلف، ويصغي بانتباه اذا سمع حديثا عن الصفقات والمشاريع والميزانيات، فماصار يملكه من وسائل للنقل و من شركات للمحروقات يهيمن عليها في سلطة لاتعرف الرحمة تتعارض مع كل تدين يتظاهربه أو صدقات يغري بها الفقراء البائسين، ..
اختلف الناس بين الاعتقاد و التضامن مع الرجل وتأييده في أقواله وسلوكه وبين من قرأ تاريخه من أيام ذبح البغل، واقتحام البيوت، وقطع الطرقات فقالوا :
ـ سحلية تتلون مع الزمن ورغبات السلطة ..
سبحة في اليد وعين غمازة بفسق ..
وكان لكل فئة وجهة يوليها، لكن الذي غاب عن الناس أن الحاج عبد الموجود دوما هو صمصم الموجود لا يتلون الا بأمر، يتقن وضع الأقنعة، اتقانه لتشخيص أدواره حسب ركح السلطة، وبناء على أوامر لإشغال الناس بإثارة إضراب، أو سفك روح بالغت في معارضة السلطة، وتخطيطات المتاجرين بأقواتهم والمتلاعبين بمصائرهم، لا يهمه من مات من شبع أو ذوى من جوع، مادام نصيبه مضمون بوفرة وقبل غيره، يكفيه ان يثبت في مراوغات لاتنكشف للجميع أنه رجل ذو أخلاق، داعم للفقراء من خلال قضية ونقيض، وانه لايجيد السباحة الا في المياه النظيفة بعيدا عن دسائس القوالين الذين لا يؤمنون بغفران ونسيان، وعليه يطلقون دعايات هو منها بريء براءة الذئب من دم يوسف ..
كان يكره أن يكون تحت اية وصاية أخلاقية أوقولبة إنسانية في نمط معين محدد من المهد الى اللحد، أو يتم تذكيره بشعرة ماضيه فهو لم يكن في يوم من الأيام ساذجا أو ينحني لموجة الا بأمر من السلطة التي حددت له الطريق بعد أن اقتنعت بقدرته على إعادة تشكيل المواطنين ببراعته وذكائه من يوم وجدته لقيطا بلا اصل وسهرت على شحنه عبر مطاردتها له وتنشئته في سجونها لتكون منه الحيوان الذي ارادت وله ترتاح..وكما يعبر وبصدق عن نفسه ـ
"الرأس الذي لايدور كدية "
***
محمد الدرقاوي ـ المغرب