نصوص أدبية
أنمار رحمة الله: مَقْتلُ الرّومانسي
حين أقول للآخرين أن صديقي لم يؤذ متعمداً نملةً في حياته لا يصدقونني. إنني أعني الكلام حرفياً. كان حين يلمحُ نملة تسير على جزء من بدنه أو على الأرض، يتحاشى أن يؤذيها أو يدوس عليها ويقتلها. ولَكم قلت له تلك العبارات التي لم تكن تؤثر به، أمثال "والله أنت مسكين" أو "ياصاحب القلب الضعيف" وغيرها. راجياً من ذلك أن أصعقه توبيخاً، لكي يترك هذه العاطفة الوثيرة التي أتت عليه. تلك التي بسببها صار لقبه في محلّتنا والمدينة "الرّومانسي" تهكّماً وسخرية. بداية معرفتي به في المرحلة الابتدائية. حين لمحته يتجول في ساحة المدرسة، وقد كان يتمتم بكلمات ويومئ بكفّه صوب السماء. في البدء اعتقدت أنه مخبول يحدّث نفسه. لكني عرفت شيئاً بعد أن اقتربت منه بمسافة وسألته بفضول: ماذا تصنع؟! فأجاب: "أغنّي". ثم سألته: ماذا تغنّي ولماذا تومئ للسماء؟! فأجاب: أغنّي لها، ثم أشار بيده صوب أسراب الحمام. تلك التي كان يخرج من أهله باكراً لرؤيتها وهي تتأهب للطيران!!. ومن حينها لم أفارقه. في المدرسة والمحلّة والشارع. حتى كبرنا قليلاً ودخلنا مرحلة الثانوية. وإذا بصديقي الرّومانسي يعلنها صراحة أنه صار شاعراً. حيث أحضر لي ورقة قد كتب فيها كلمات يقول أنها قصيدة. اضافة إلى طقسه المفضل من تسجيل الأغاني وحفظها أكثر من حفظه لدروسه. وعلى الرغم من رومانسيته ورقّته المفرطة، إلا أنه كان يتحاشى النظر إلى بنات الثانوية المجاورة لنا. حتى الفتاة التي كان يحبها، لم يكن يملك الجرأة في مصارحتها، على عكس الآخرين الذين لم يملكوا ربع رومانسيته. أولئك الجسورون؛ الذين يملكون جرأة عظيمة في ابتداع علاقات الحب. واكتفى بحبّه عن بعد، وصار يكتب الأشعار ونقضي الليالي نستمع أنا وهو إلى تلك الأغاني العاطفية. لقد كنتُ أتعامل مع الأغاني كأغان عادية، لكنه كان يستمع لها بطقس عجيب. فقد كان يكدّس عُلبَ المناديل في دولابه، ويسحب كل ليلة علبة ويضعها أمامه، مستعيناً بها على مسح دموعه التي تسيل على خديه. ومرّت السنوات أسرع من الصقر في سماء حياتنا، وصديقي لم يتغيّر وبقي على حالته تلك. شاكياً لي قسوة العالم من حوله. حتى انقطعت أغلب علاقاته بالناس، وصارت تحلو له الوحدة. وكم من حالة اكتئاب مر بها، ملقياً بكلِّ أعبائه على الحياة وقسوتها. ومع كل الطيبة والحنان والنفس الشفيفة التي كانت فيه، صار لا يكترث للعالم من حوله. وفي كل مرة أُعيب عليه هذا البرود اتجاه الآخرين كان يقول: خاب أملي.. خاب أملي!!. لقد كان هذا واضحاً بالنسبة لي جداً حين مرّت علينا أيام شاحبة. أيام تعرضنا فيها لحرب لم ترحم صغيراً أو كبيراً. ففي الوقت الذي كان الناس فيه ينقذون بعضهم البعض، عبر حمل الجرحى إلى المشافي، وضحايا القصف إلى المدافن. كان صديقي الرّومانسي يبحث عن جثث الحيوانات النافقة في الشوارع وقرب النهر والساحات. حاملاً جثثها لدفنها في بستان مهجور من بساتين المدينة المحاذية!!. ولمّا علم الناس حقدوا عليه ومقتوه. منهم من قال أن هذا الرجل مجنون، ومنهم من قال أنه مغرور ومتعال على آلام بني جلدته. لكنني كنت الوحيد الذي أعرف السبب حين سألته ذات مرة فأجاب برومانسيته المعهودة: "هذه الحرب حرب بني البشر ولا علاقة للكلاب والقطط المسكينة بها. إنني أعتذر لهذه الأنفس الأليفة عن أخطائنا التي نرتكبها بدفني لهم بشكل لائق". ثم بعد مدة من الزمن حين كنتُ في منزلي ليلاً، طرق بابي وهو في حالة يُرثى لها. نظرت إلى وجهه المتعب وسألته: مابكَ؟!! هل حدث لك مكروه؟. لم يجبني إلا بعبارة واحدة: "يكفي هذا.. أريد أن أكون مثل هذه الناس.. أريد أن أكون صلباً مثلك". عرفتُ جيداً أن هذا الرجل تآكلت عزيمته من شدّة الحزن وخيبات الأمل. خصوصاً بعد رحيل أمّه التي كانت آخر من بقي معه من أفراد عائلته. ولم يكن يحظى بفرصة زواج وتكوين أسرة تخفف عنه وحدته وآلامه. لقد كان مرفوضاً من قبل النساء. المرأة بطبيعتها عملية وواقعية وتحاج إلى رجل صلب وقوي يحميها من قلقها المزمن. لهذا لم تجازف امرأة واحدة بالزواج والعيش مع "الرومانسي"؟!. على كل حال أنا لم اتوان في مدّ يد المساعدة له بأي شكل من الأشكال. بدءاً باقتراحاتي التي لم تفلح لتغير سلوكه في أسلوب حياته اليومية، وانتهاءً بالذهاب إلى أحد الرّوحانيين المشهورين في البلدة. كان يقصده الناس المغمومون والممسوسون. لأنني بعد أن يئست من عناده في ترك أسلوب حياته، قلتُ له ربما قد تلبّس شيطان في بدنك يا صاحبي منذ طفولتك!!. أو ربما فيه مرض استوطن في نفسه سنجد له علاجاً عند ذلك الرّوحاني. لأن صديقي صار يحكي لي عن الأصوات التي لا تفارق سمعه. فإذا تحدث معه شخص بموضوع وآلمه أو جرحه، يظل الحوار شغّالاً في إذنه كما تدور الاسطوانة. وإذا رأى أو تذكّر أمراً مؤلماً وحزيناً، لا ينام لمدة أسبوع وتفيض وسادته من غزارة دموعه. أصلاً حين جاءني مستنجداً كان يمرّ بحالة من الأرق والحزن والبكاء التي لم تفارقه على رحيل أمه. الغريب أن صديقي حين اقترحت عليه الذهاب إلى الروحاني وافق بتسليم مطلق!!. كجثّة بيد غاسلها!!. ولا أخفي صراحة فهذا ما حدث حرفياً بالضبط.. لقد تحوّل إلى جثة.. لأن الرّوحاني الذي دخلنا إليه حين عرف من صديقي تفاصيل عن حياته أجابه: "إنك ممسوس، ولكن ليس من شيطان بل من شيء هو أفظع من الشيطان.. إنه الوهم.. لهذا إن كنت تريد النجاة يجب أن تقتل نفسك وتحيى من جديد". في الحقيقة ارتعدتُ خوفاً من هذه العبارة، وأنا أطالع صديقي الرومانسي بوجهه الذي تفرعت عليه جداول من عرق. ثم انبريت أنا لسؤال الروحاني: كيف يقتل نفسه؟! فأجاب: مقتل النفس علاج لها. عليه أن يقتل تلك النفس القديمة التي عاش بها تلك السنوات. ثم يعود بنفس جديدة لا إفراط ولا تفريط فيها. لا أعني أنه ينتحر والعياذ بالله، ولكن أعني أن يغيّر نفسه ويستبدلها بنفس أخرى قبل تغسيلها والصلاة عليها". هنا نبس صديقي الذي صار يمسح وجهه: تغسيلها والصلاة عليها كيف؟! فأجاب الروحاني: "حين تقتل نفسك ستموت بلا شك، وسأغسّلك وأصلي عليك صلاة الميت، ومن ثم بعد انتهاء الصلاة ستنهض من مكانك وقد صرت إنسانا آخر". صراحة احتقرت سخافتي حين ذُعرت في البدء. كنتُ أظن أن الروحاني جاد في كلامه، ولكن الأمر تبيّن أنه لعبة ايهام يقوم بها الروحاني، لكي يقنع صديقي بمقتله وعودته للحياة من جديد. المشكلة أن صاحبي واعجبته الفكرة وراقت له. فهو الذي عاش حياته في الخيال والرومانسية كيف يفوّت طقساً مثل هذا؟!. بالنهاية وافقت على مضض وكنتُ ألوم نفسي لأنني صاحب فكرة المجيء إلى هذا الروحاني. ولومي لنفسي بدّدته حين قلتُ بيني وبينها، أن اليأس من حالة صاحبي هو الذي دفعني لهذا. والبشر يصدّقون بكل شيء في حالة اليأس. على أية حال اتفق معنا الروحاني أن نذهب إلى المغتسل الذي خلف المسجد ليلاً. في ساعة حدّدها لنا، وقبل مجيء الساعة المحدّدة بمدة سمعتُ طرقات على باب منزلي. فخرجت لأجد صاحبي متهيئاً وكلّه بهجة. مرتدياً ملابس أنيقة ورشّ عطراً ملأ شذاه المكان. طلبتُ منه أن ينتظر قليلاً لكي أرتدي معطفي. وحين خرجتُ مرة أخرى طالعت شكل صديقي، ثم ضحكتُ ضحكة خفيفة وهززت رأسي ثم سرنا سوية إلى مكان المغتسل. وبعد انتظار لمدة ربع ساعة لمحنا هيئة الروحاني من بعيد. قادماً نحوناً حاملاً معه كيساً أسود. وبعد دخولنا طلب الروحاني من صديقي أن يخلع ملابسه وينام على المغتسل، ثم قرأ عليه بعض العبارات التي تُقرأ عند الاحتضار. ثم وضع فمه قرب أذن صديقي الذي اغمض عينه وقال: "اقتل نفسك القديمة.. نفسك ماتت.. أنت الآن ميّت.. بعد تغسيلك والصلاة عليك ستردد الآية (رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً). وبعد أن تنتهي من قراءة الآية، تجلس وقد ماتت نفسك القديمة، وعدت إلى الحياة بنفس جديدة". ثم بدأ الروحاني يقرأ عليه ويغسل رأسه ونصفه الأيمن والأيسر. ضاقت نفسي من رؤية المشهد، فخرجت لكي أدخّن سيجارة قرب المغتسل. فانتبهت وأنا خارج المغتسل إلى أن السّخان الذي يجري من خلاله الماء إلى حنفية المغتسل كان مغلقاً!!. وبالفعل حين وضعت يدي تحت حنفية للماء خارج المغتسل كان ماؤها بارداً ونحن في الشتاء!!. رميت سيجارتي ودخلت مسرعاً إلى المغتسل، فوجدت الروحاني قد انتهى وأخرج كفناً من الكيس الأسود الذي كان يحمله عند مجيئه. وكفّن صديقي تماماً كما يتم تكفين الموتى. ثم طلب منّي أن نحمله إلى مساحة لكي نصلّي عليه صلاة الميت. وبالفعل بدأ الروحاني بترديد عبارات الصلاة من الشهادة والدعاء حتى قال:" اللهم إن هذا المسجّى قدامنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك. نزل بك وأنت خير منزول به. اللهم إنك قبضت روحه إليك وقد احتاج إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه. اللهم إنا لا نعلم من إلا خيراً وأنت أعلم به منا. اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته". وحين انتهى الروحاني من أداء الصلاة، نظرنا إلى صديقي منتظريْن منه أن يقرأ آية الرجوع إلى الحياة. يا لها من دقيقة مرّت كما يمرّ قطار بطيء على بدن. وأنا أنظرُ إلى صاحبي المسجّى بلا حراك!!. وحين طال الأمر نزلتُ عنده، ووضعت كلتا يديّ على جانبه وهززته منادياً باسمه: "يكفي هذا وقم من رقدتك وكفّ عن المزاح إن كنت تمزح!!. لنعود إلى المنزل فوراً". فلم أشعر إلا بكفّ الروحاني بعد أن وضعها على كتفي قائلاً بصوت خفيض: دعْه.. لقد ارتاح هذا الرجل..
***
أنمار رحمة الله