نصوص أدبية
عبد الحكيم البقريني: فارس الأحلام
في الشقة العليا، الأعلى. نطل على خمارة فيكتوريا، مقهى بدر، الشارع الرئيسي حيث كل شيء ممكن، موجود. ماذا لو انهارت العمارة التي أسكن إحدى شققها؟ سأبكي لشيء واحد؛ لتساقط الجدران على المقهى وحينها سأفقد مقعدي، ذاتي التي ألفتها في ركن المقهى، رؤية العابرين وأنا أحتسي فنجاني الأسود. سأبكي لتكسر زجاج دكان بائع الأحذية.. سأفقد آخر نظرة على الموضة العالمية، سأبكي لأن الدا محمد لن يبيع الحليب هذا الصباح، سيشربه الطوب المتناثر داخل الدكان وخارجه.
كنت هادئا إلى حدود التاسعة صباحا. ما كانت لتقع الفاجعة لو أني غادرت السرير ساعتها. فمن عادتي أن أغادر السرير على صوت آذان الظهر، الصبح أدعه للصبحيين، أما أنا فمن الظهريين. أجل الصلاة فرض، لكن نسامح تاركها، كل شيء غير ملزم. نأكل مع الشيطان، يهضمنا ونهضمه، حلوة هي شياطين الصباح، حلوة.. حلوة كخميرة هذا الصباح، هادئة كأعصاب خميرة هذا الصباح. هادئة.. هادئة إلى أن ثارت زوابعها فكنت أول ضحية.. لا تحدثوني فذاك قدركم.
في البدء اختلت بي النسوة. مات؟ نائم؟ مات! مات. كان لطيفا...محترما، خبيثا يغازل الزيجات، مترفعا بثقافته العارية.. نائم، مات. كيف يموت والمحيا باسم؟ ماذا وقع؟ أطللت من الشرفة، انتابني الذهول.. كل شيء تغير، كل البنايات محطمة؛ عمارتنا، المقهى، الخمارة، دكان الدا محمد، عربة بائع الحلزون... كل شيء لا يلازم صورته الأصلية. أجزاء الأجساد منعزلة عن أصحابها. المنظر يثير الحسرة في النفوس.
استدرت وجهي قليلا متعمدا الحركة، الكرسي مثبت كعادته في الزاوية. لا أدري متى وكيف غادرت صمتي؟ جلست على المقعد بالمقهى، وضعت الطاولة أمامي بعدما انتشلتها من تحت الركام، أخذت أحدث أهل الحي بحماس، جلهم من الأموات، وبعضهم من المعطوبين... من المجادلين لخطبتي: امرأة في الستين من عمرها فقدت رجلها الأيسر، طالبة جامعية فقدت يدها، وكم تمنيت لو فقدت لسانها، طفل في الثامنة فقد يده هو الآخر، أما الباقون فكانوا من السامعين، الهاضمين لما أقول، في البدء حثثتهم على الصبر، وأن قدرهم ذلك. خاطبتهم الخطوبة.. الخطابة. حدثتهم عن الحركات والتموجات الباطن أرضية، نظرية النمو والارتقاء، التناسخ، الجاذبية، الديمقراطية، الرأسمالية والاشتراكية، العلمانية، الديانات وعلاقتها بالسلطة تأثيرا وتأثرا. حدثتهم عن تضحيات السلف من أجل الأرض، القادة والساسة، الساسة ملائكة فلا تجادلوني. تجادلوهم لجاجة. مثلكم مثل الحطب، يفني ذاته، عروته ولا يقاوم. كل يسبح، فسبحوا. سب... حوا. واسبحوا... قذرة هي أجسامكم، نظفوها، نظفوها، غدا عيدنا، سنعلن عن ميلاد امبراطوريتنا الأولى. كل واحد منا سيعلن ميلادها، ميلادنا. سنمزق تاريخنا المؤرخ، ونعلن أننا هنا ولدنا... لم نغادر البيوت التي كسرنا زجاج إطاراتها بصرختنا الأولى. كلنا سنعلن، سنلعن كلنا، س.ن.ل.ع.ن... قالت الطالبة: سأعلنك زوجا، وقالت العجوز: سأعلنك ابنا، وقال الصبي: سأعلنك أخا أكبر. قالت الجثث المتناثرة في الشارع: سنعلن أنك قائدنا الأكبر، لا نجادلك فيما هو أصغر أو أكبر، قدرنا أنت. قُدْنا يا سيدنا الأكرم.
باسم الطاعة أعلنت الإصلاحات البشرية. غادرت المقعد في اتجاه عرضي حيث الجثث المتناثرة، بسرعة البرق أخذت أرمم ما تطاير من الأجساد؛ الأيدي، الأرجل، الرؤوس، العيون، وحتى الأمعاء والكبد.. ما بداخل الداخل. تارة أصيب اختيار الأشلاء فتلائم صاحبها، وأخرى يتباعد الاختيار والذات. لا تجادلوني ما دامت الأجساد كاملة الأعضاء... سنغير ما أصلحناه، ما أفسدناه. كل شيء يتغير، فالزموا الطاعة، وما يمليه القدر والقائد. طبعا سأغير أعضاء بعضكم، لن أدع رعيتي بصورة لم نألفها، تألفها الرعايا ولا الرعاة. كل شيء سيتغير في منحى الما صلح. يحزنني قبلكم أن أرى أحدكم برجلين.. يدين من نوع واحد، أن أجد أحدا من رعيتي بأطراف رجل ورأس امرأة.. يحزنني اللا كمال في الأعضاء، فاصبروا وصابروا. إذ نيل المطالب بالتملي، فانتظروني خلف اليوم، هناك وراء شبابيك بنك المال، نوافذ فيكتوريا القاصرة. دعوني، دعوني أقص عليكم غراميات فيكتوريا وأمها شامة بنت الحاج المعطي. دعوا آذانكم وادخلوا الخمارة طاهرين، تجدوها تحتسي أقداحها. لا تنظروا صوبها، تأملوا صورتها التي اعتلت جدران الخمارة، تأملوا الصورة فقط. كلموها.. غازلوها.. ارجوها، اشربوا أقداحها وتغنوا بالاسم.. للاسم، واهتفوا للاسم.. بالاسم. واسألوا أسماءكم، آلهتكم عمن هم الأغبياء، أهل الصبح أم الظهر، اسألوا.. أسألوا. سألوا حتى تطاير غبار الأجوبة، زوابع الأسئلة. وفي غرّة الصراخ والنواح أطللت من الشرفة.
الساعة الواحدة زوالا. المصلون ودعوا المسجد بعدما أدوا صلاة الظهر، لم أستيقظ اليوم على صوت الآذان. أطللت من الشرفة، ثم من النافذة، كل شيء لازم صورته. العابرون من الرجال والنساء، العمارة، المقهى، الخمارة، دكان الدا محمد، عربة بائع الحلزون، السيدة العجوز يشو تغزل الصوف بباب منزلها، ثورية، ثو... ريتا تطالع دروسها الجامعية بالشرفة المقابلة، تضع آخر اللمسات لاستقبال نتيجة التكرار أو البطالة، ستحصل على الإجازة... العطلة. الطفل المشاكس سعيد يعبر الشارع دون مبالاة بحركة السير، يسابق المدخنين إلى نقطة المحور. كل شيء يوحي بالأمس. الحياة شريط موسيقي كلما لازمته أطول ازداد مللك له. لا عجبا، فكلما وضعت رأسي على وسادتي إلا واشتقت لجديد الغد، وما أن تسطع شمس الصباح حتى يتكرس لي الانطباع بأن اليوم صورة طبق الأصل من يوم أمس، صورة مصادق عليها من طرف السلطات العليا الحاكمة للبلاد والعباد، صاحبة الأوتاد وقلة الأولاد. أما نحن فلا يمكن أن نجد مكانا في المقاهي، السينما، المسارح، الشوارع، الخمارات، المستشفيات، السجون، الحافلات، الحمامات، المدارس، المقبرة الوحيدة في المدينة. كل شيء يئن من مخلوق وحيد يدعى البشر، ويدعى والبشر... وا البشر. والب... شر... شر... شر.
***
قصة قصيرة
كتبها: عبد الحكيم البقريني (المغرب)