نصوص أدبية
قصي الشيخ عسكر: صورة على الجدار
الرسالة التي وصلت إليّ هذا الأسبوع أصابتني بصدمة عنيفة. كادت تجعلني أغيّر بعض مارحت أرسمه للمستقبل
في الوقت نفسه
أرجعتني للماضي البعيد
لسنوات الحرب
لأمّي
للطفولة
للحزن العميق.
يوم وقع الحدث الذي غير مجرى حياتي كنت صغيرا في الرابعة من عمري. أسمع عن أشياء كثيرة وأحداث أفهم معناها وبعضها لا أفهمه. وقد عرفت أن هناك حربا ووعيت أنّ أناسا يقتل بعضهم بعضا.
إذن
هي الحرب التي تغلغلت في ذهني وأنا صغير.
ومازالت بعض صورها تنطبع في ذهني
رأيت والدي يرتدي البدلة العسكرية، ووجدت أمي تصمت وتكاد دمعة تترقرق بعينيها كلما استقبله وهو قادم في إجازة أو ودّعته..
هل أعود إلى السنة الرابعة؟
كانت الحرب بدأت منذ ولادتي.. لست نحسا ولا أظن أن أي شخص نحس، وإلا لكنا نحن الذين ولدنا قبل أن تندلع الحرب بأيام منحوسين.. وقد رأيت والدي الذي تتشرف غرفة الضيافة بصورته مع الشريط الأسود رأيته يذهب ويجئ بالملابس العسكرية.
خلال إجازاته لايخرج من البيت.
يظل يلعب معي أو يصحبني فيبتاع بعض الألعاب ويعود إلى البيت. بدا أيضا، لطيفا مع أمي. لا أدري إن كان لطيفا معها قبل أن أولد إذ ولدت بعد سنتين من زواجهما.
في السنة الرابعة حدثت المأساة
صرخت أمي
ولطمت خديها
شقت ثوبها، وكاد يغمى عليها فقد حضر جنود إلى بيتنا بصدوق خشبي لم يخف الرائحة النتنة التي في جوفه.. وقيل وقتها إن الجثة التي أصبحت ممزقة مشوهة، منفخة الملامح.
هي جثة أبي.
ولم تسمح أمي أن أراه. قالت أبعدوه عن المكان، وكنت أبكي لبكائها. بعض أقربائنا رآى جثة أبي مع أمي. كان مشوها إلى حد بعيد، كل أوصافه التي لم يتبيّنها أحد وهو في الصندوق ورائحته النتنة كل ذلك سمعت عنه بعد سنوات، ووعيت مفتخرا أن لي أبا سقط شهيدا وهو يدافع عن الوطن..
يسمّيني الناس ابن الشهيد
وأمي زوجة الشهيد.
أمي التي رفضت الزواج لتتفرغ لي ، حصلت على امتيازات مادية صرفتها علي تعليمي، وعلى تقدير الدولة والمجتمع، أما أنا فكنت أطالع صورة أبي في الصالة وهو ينظر إلي بعينين مفعمتين بالفرح.
تقف أمي أمامي تربط لي خيط الحذاء وتعدل حزام السروال القصير الذي اعتدت على ارتدائه إلى الصف الخامس الابتدائي ثمّ استغنيت عنه. ذهب عهد الطفولة أصبحت رجلا، وبدلا من أن ألقي تحية الصباح على أبي كل يوم بصوت مسموع تطرب له أمي، رحت أسلم عليه بالسرّ، وأتفاءل بعينيه الودودتين
ثمّ
بعد سنوات طويلة وضعت في الردهة وصالة الاستقبال صورة أمي جنب صورته وعليها شريط أسود!
2
كان علي أن أرقد فغدا عند الفجر أقصد مطار المدينة لأستقبل ذلك الرجل الغريب!
بدا الشارع يختلف وإن كنت رأيته من قبل
هو أو لا هو
المهم أن أصل في الموعد المحدد لأستقبل ذلك الشخص الذي يقول عن نفسه إنه أبي. رأيت صورته التي بعثها لي في الرسالة. إنها تشبه صورة تشخص أمامي على الجدار في الصالة يحفّها من زاوية الإطار الخشبي اليمنى شريط أسود.
لست قلقا، أما الدهشة فقد استهوتني لأنّني أعيش في زمن اللامحال. لم أستغرب من الشارع الذي تغيّر ولا من الأضواء التي بدت تلفظ أنفاسها عند الفجر. كلّ شئ يبدو جديدا بحلّة قديمة وقديما بثوب جديد. لا أريد أن أسأل أحدا فالشارع أشبه بالخاوي ، وهناك على الرصيف الآخر أناس يمشون نحو اتجاهات مختلفة.
متأكد أني لست نائما.
من المنعطف الواسع الذي تغيب نهايته عند المنارة الأثرية العالية، انعطفت نحوي سيارة أجرة.
لن يسرقني الوقت إذن.
لوحت بيدي فتوقفت، فتحت الباب فوجدتها تغص بالركاب.
أين ؟
المطار لكن يبدو لا مكان لي.
إصعد..
لا أظن لي مكانا.
بل قلت اصعد هناك أكثر من مكان.
ترددت وتمتمت:
معقول.
لا أدري كيف سمعني السائق:
نعم معقول وأراك لن تجد سيارة أخرى تقلك إلى حيث تريد.
أخيرا
دلفت..
لا أدري كيف جلست. لم أشعر بضيق على الرغم من أن الداخل كان يعجّ بالركّاب. كانوا صامتين. لا أحد يتكلّم ، والغريب أنهم شبه أثير لا يضايقونك في زحمة المكان.
هناك رهبة
دهشة
وبعض الخوف
قلت أدراي بعض هاجس القلق:
لديّ ساعة واحدة على إقلاع الطائرة.
قال السائق الذي لم يلتفت والذي تبيّنت ملامحه أول ما استوقفته ونسيتها الآن:
أتسافر من دون حقيبة.
داريت كذبتي والإحراج:
هكذا تعوّدت.
لا تقلق إذن سنصل في الوقت المناسب
كان زجاج النافذة معتما فلا أبصر مشاهد الطريق، ولفت نظري أنّ الركاب يتهامسون مع بعضهم بعضا من دون أن يلتفتوا لي، وفجأة قطع السائق همسات الراكبين القريبة من الصمت:سننزل لنتناول طعام الغداء في أقرب استراحة!
انبريت محتدّا:
ماذا؟ الطريق إلى المطار..
قاطعني متحمسا:
عشر ساعات على الأقل أنا واثق أن هذه الاستراحة هي الأفضل
أنا بين مجموعة كثيرة لا أستطيع إحصاءها، تضمّنا سيارة صغيرة، لامعقول في المعقول، أخشى أن أعترض على شئ لا أتصوّره، ماذا لوفاتني الوقت، والسائق يشك أو شك في أني أسافر فقد صعدت معه من غير حقيبة، عليّ أن أقنع نفسي بما يقول ، وبهمس الركاب الذي لا أتبينه.
في منتصف الطريق كما يقول نزلنا، بلغة الأرقام قطعنا مسافة250كيلومترا. أظن المسافة بين المدينة والمطار 20 كيلومترا ، الذهاب قبل ساعة واحدة يكفي لاستقبال ضيف، فكيف انقلب الوقت إلى أضعافه؟
لا شكّ أن هناك خطأ ما، فأبي، أو الرجل الآخر الذي يدّعي أنّه أبي، يمكنه الانتظار وعلى أقلّ تقدير ربما يمل فيستقل سيارة أجرة ويتوجه إلى بيتنا مباشرة. الرسالة التي بعثها إلى العنوان حيث أقيم تدلّ على أنّه يعرف البيت والشارع.
ولكي أكون على بينة من أمري اتجهت إلى قبو قديم ، هناك أردت أن يتزحزح شكّي قليلا. تمنيت أن تختلف الرسالة الغريبة القادمة من الخارج بنكهتها وخطّها عن وثائق وتواقيع قديمة جمعتها أمّي مع مستمسكات أبي من نياشين، وسيف، وعصي وبدلات، والبومات صور. زشياء صغيرة لاها نكهة الماضي التي راحت تتلاشى أمّا الذي يهمّني فهو بعض المذكرات والرسائل التي كتبها بخطّ يده. قد أكون خرجت من السيارة لأدخل القبو، أو دخلت استراحة تقع بيني وبين المطار لألتقط أنفاسي، لا أنكر أن الرسالة القادمة من الخارج كانت تطابق تماما خط أبي، وحين رجعت إلى السيارة ثانية لم أجد الركاب. بل لم أعن بالسؤال عنهم.
3
واستقبلت الرجل الذي يشبه أبي
كان هناك حاجز بيني وبينه.
عشر ساعات في السيارة وربما ساعة واحدة
احتمالات متناقضة لم أتعمّد تجاهلها..
لا أدري كيف ظهر لي القبو القديم بين الزمنين المتناقضين في الطول. مدّ يده لي ، فمددت يدي ببرود. لم أشعر برغبة لعناقه.
هذه المرة عدنا بسيارة أخرى، والذي اثارني أني وجدت السائق نفسه. السيارة الأولى التي قدمت بها إلى المطار كانت رمادية اللون قديمة بعض القدم. لا أقول مستهلكة، والجديدة التي عدنا بها أنا والرجل الآخر سيارة حديثة زرقاء اللون. في البدء لم أتبين ملامح السائق، وحين التفت يسألني عن العنوان عرفته هو الذي أقلني منذ عشر ساعات إلى المطار.
السيارة الجديدة لا تعجّ بالركاب.
وحدنا كنا أنا والرجل الذي يدّعي أنه أبي
قال السائق:
وجهك ليس غريبا ياسيدي أظنني جئت بك إلى المطار لتسافر منذ عشر سنوات.
قال الشخص الذي جنبي: ربما فبعض الوجوه تتشابه.
ودلفنا في الصمت ثانية.
كل العلامات تدينني: الرسالة والرجل الذي كتبها ووقتا قضيته في الذهاب. وددت لو أكون في حلم :
ولدي العزيز لا تستغرب أنا أبوك مازلت حيا سأصل الساعة..
حالما دخلنا، وقع بصره على الصورتين اللتين في القبو. سأل بنغمة شاردة:
متى ماتت أمّك؟
قبل أربع سنوات بالضبط بعد تخرجي من الجامعة بسنتين.
هز رأسه متأسفا، وقال:
والله كبرت هل تذكر حين كنت آخذك في إجازاتي إلى المدينة
واندفع إلى غرفتي وعاد وهو يلهث من الفرح:لابد أن تكون احتفظت ببعض الصور. أعرف البيت جيدا..
قلت بشئ من الضيق:
أنا لحد الآن منحتك الوقت لتتكلم من دون أن أبدي رأيي أستطيع أن أسلمك للجهات الأمنية بتهمة التزوير.
ألا تقتنع بشكلي؟
الشكل لا يدل على أنك هو.
وخطّ الرسالة؟
ممكن أنّك تجيد التقليد.
لكني واثق من أني أبوك العلم تطوّر.. تطوّر جدّا. ماذا تقول عن تحليل الحامض النووي!
الرحل يدينني، ولكنّي أحاول أن أنفيه بعد أن تيقنت من موته قبل أكثر من عشرين عاما:
هل بحثت عني في النتّ؟
نعم وعرفت أن لك صفحة. هناك
لماذا لم تكتب إلي لكان الأمر أسرع.
فقهقه بمرارة وقال:
النت.. ياهو.. غوغل.. فيس بوك تغامر بك. تجعلك في وقت طويل وقصير في الوقت نفسه ألم تستفد من تجربة المطار.
علي أن أقنع نفسي أنّه أبي.. صورة الرجل الذي على الحائط بشريط أسود تلاحقني فأشعر يبرود تامّ للرجل الآتي من بعيد:
مهما يكن فأنا وعيت أنّك متّ.
لذلك لم تحضنّي ؟
نعم
إسمع سأقص عليك الحقيقة.. أنا لم أكن أقتنع بتلك الحرب قطّ.. بعد أربع سنوات من اندلاعها تيقّنت من عبثها مثلما لم أكن جبانا ولو شاركت في حرب آخرى غيرها لما همنّي الموت..
قلت مقاطعا:
أم نت تظنها تطول إلى الأبد.
نعم وإن بدا ذلك أمرا سخيفا لأنني شاركت بحروب قبلها وحصلت على أوسمة وجرحت..
تعجلت ما يقول فكررت:
ثم أخطأ حدسك فوقفت الحرب بعد أربع سنوات من هربك أو استشهادك!
فكرت فيك وفي أمك.. لم نكن نحب بعضنا. قلت لتكن النهاية حين أكون شهيدا تتمتعون بامتيازات وحياة مرفهة واغتنمت فرصة تعرض الفوج لهجوم كاسح. واختلاط الجثث فهربت إلى العدو. لم يعاملوني بقسوة بل سمحوا لي بمغادرة بلدهم إلى الخارج هناك عشت باسم آخر، اشتغلت وكونت ثروة. وتابعت عن بعدالنّزر اليسير من أخباركم التي كانت تسرّني.
اجتازتنا لحظات صمت ثقيلة.. لقد اعتدت على الصورة التي ترمقني وهي على الجدار وعلى الصورة نفسها.. أبي جنب أمي ببدلة العرس.. ومعي في البيت أوالحديقة.. الذي أعرفه مات من زمن
لكن الحرب توقفت بعد أربع سنوات وعرفني الناس والدولة ابن شهيد فكل جوارحي تنطق بموتك.
فقال بتأفف: اسمع الآن الوضع تغير لافرق عند الناس أن أكون حيّا أم ميتا (وهز رأسه مؤكدا) لذلك جئتك عبر رسالة.. لجأت إلى الزمن القديم ولم أدخل لك عبر صفحتك الشخصية عندها لا تقدر أن تتقيّن منّي.
قلت من دون رغبة:
يمكن أن أقول للناس إنك قريبي لكني لا أريد أن أفعل شيئا يزعزع تصوّر الآخرين عن أبي.
تقصد عنّي؟
قلت مكابرا :عن أبي الذي مات
فنفث الهواء عميقا وقال :عنيد
ثمّ رفع بصره إلى صورة والدتي متساءلا:.
لم تتزوج؟
طلب يدها ابن عمها فرفضت واحتجت أنها تفرغت تماما لتربيتي.
أتعرف ليست الحرب وحدها التي دفعتني للفرار نحن وأمك لم نكن نحب بعضنا كانت تحب ابن عمها نفسه الذي خطبها بعد موتي المزعوم كان البيت جحيما!
وقد غلا الدم بعروقي:
لن أسمح لك بالحديث السئ عنها هل فهمت.
كلّ ما أريد قوله إني جئت من أجلك لم تسألني عن حياتي في الخارج ولا..
لا أريد أن أعرف أي شئ عن:
لقد تزوجت لك إخوة وأخوات.. تاجرت وغامرت أنا الآن ثري مليونير وعلى وشك الموت.. ستأتي معي لتأخذ حصتك من أموالي.
صرخت فيه منفجرا:
لا أريد أي شئ كفى أنك خدعتنا أنا وأمي. خدعت السلطة والناس
لم يتوقع مني هذا العنف وبقي صامتا. ارتمى على المقعد وهو يلهث.. ظلت يلهث حتى هدأت أنفاسه وسكن..
سكن تماما
بصره استقرّ على الجدار.. فتقدمت نحوه.. انتقلت عيناي بين الصورة ووجهه الهادئ. همست:
أنت.. أيّها.. سيدي..
كان ساهما شاردا اقتربت منه فرفعت يده التي سرت في أناملي منها برودة ساكنة صفراء. فارتخت قبضتي عنها لتسقط على الأريكة، وعن دون وعي هتفت:
أبي..
كان قد مات وهو يتطلع في الجدار.
***
قصة قصيرة
قصي الشيخ عسكر