نصوص أدبية
محمد الدرقاوي: أنثى.. بلازيف (2)
توصلت بعد الصبح برسالة من السعدية على الوات ساب:
ـ أمي في خطر حبسها أبي داخل البيت الى أن تعطيه مالديها من مال وحلي
أتى ردي:
كيف سد عليها الباب والطلاق قد تم من شهرين تقريبا؟..
كتبت:
ـ أحدهم أبلغه أنها توصلت بحوالة مالية مني ثم راقبها وهي تجمع ثيابها فخشي ان تغادر ومعها تحمل ما تحتفظ به من مال وحلي..
بعد ساعة من الطريق كنت في مكتب الدرك أسجل تعرضا على مايقوم به أبو السعدية، فهو بسلوكه يعرض المرأة للخطر..
ألقي القبض على أب السعدية في مقهى القرية، تم فتح باب البيت وتحررت الطليقة من أسرها..
بعد الحادثة صرت لا اتوقف عن زيارتها بصحبة عون قضائي احتراسا من أن يطلق سراح طليقها فيعود اليها بأذى الى أن أتمت عدتها..لجأت ْالى بيتي وتركت له السكن بما فيه..
زارني أحد أخوال الزوج يتوسلني التدخل لان تمنحه حليمة ام السعدية مما عندها من بنتهما..
حليمة أنكرت أن يكون عندها أي شيء أو أن السعدية أرسلت لها شيئا وكل ماكان لديها استحوذ عليه أبوها قبل الطلاق.. الرجل كذاب مراوغ يخدع الناس بلحية ولسان الزيف..
أصرت حليمة على أن يدخل الخال ليفتش كيفما شاء وفعلا تم تنفيذ ما ارادت فلم نجد غير ورقة من فئة خمسين درهما وبعض الدراهم بين طيات لباسها..
لعن الخال قريبه واستشاط غضبا ثم اعتذر:
ـ الخبيث الملعون يستعد ليعقد على زوجة صديقه المتوفى طمعا في ما تركه الفقيد..لئيم طماع لم يردعه سجن ولاعقاب..
فاجأتني حليمة ذات ليلة بصندوقة فضية أخرجتها من بين كتبي فيها كل ما جمعته من مال وهدايا من السعدية..
حين لاحظت قلقي بكت وقالت:
ـ أسألك الله عني لا تغضب..أترضى أن أعيش محرومة في غبن طيلة حياتي ويسهر غيره على دراسة بنتي حتى تبلغ مراتب عليا ثم يأتي ليأخذ مني كل شيء غصبا؟
منعني حتى من حق النفقة الذي فرضه عليه القاضي..
أنا ما تصرفت الا بما اوصتني به السعدية وهي من دلتني على مكتبتك أصون فيها مالي ومجوهراتي..
صارت حليمة فردا من البيت وقد آنستني بعد غياب طويل لخادمتي اثر
موت أمها وتمريض أبيها، فحليمة من تكفلت بأعمال البيت..
سلوك جديد صرت ألاحظه على مستوى تنظيم البيت وترتيب محتوياته وكأن حليمة تنفذ توصيات السعدية والتي طالما حلمت بانجازات في بيتي لو قدر لها البقاء في الوطن..
رجعت يوما من سفرة قصيرة للعاصمة الاقتصادية فوجدت كل أفرشة البيت قد تغيرت، وعمالا يركبون ستائر جديدة..
ارتدى البيت حلة قشيبة، لمسات أنيقة ولوحات جدارية أنارت البيت بهجة وجمالا، حتى غرف النوم تغيرت أماكن قطع أثاثها، كانت حليمة بين العمال كرجل يأمر ويشير..تنفذ تصميما على بطاقة في يدها، تذكرت ماكان يمارسه أبو السعدية عليها..
هل هذه هي الأنثى الضعيفة الخانعة؟..
ـ كنت لا اقاوم حتى أحافظ على عمري، اتقبل الضربة والركلة بدل الرفس والضرب بما قد يأتي على حياتي..
مات أبي واستحوذ على بيتنا الصغير فباعه ولهف ثمنه.. فما عاد لي ملجأ آوي اليه..
كنت أتحمل لاني أنا من جنيت على نفسي..
توسلني الحقير وأنا تلميذة لديه في المستوى الرابع ابتدائي أن أدخل بيته لاعيد ترتيبه، فتفاجأ ت به يطوقني ويغتصبني، ولم يعقد علي الا بعد أن هدده ابي قبل موته بالتبيلغ عنه، خصوصا أن له سوابق لاتقبلها مهنته، وهي التي جرته بعد ذلك الى السجن وأوقفته عن العمل.. من يومها وأنا أكرهه..
أنا من بلغت أم التلميذ الذي كان يمارس على ابنها الفاحشة..
حين طلبت من حليمة فاتورة ماتم تجديده في البيت غضبت وقالت:
وهل نعيش الا من خيرك؟..
أنت لا تدري من تكون بالنسبة للسعدية وماصرته لي..
هذا بيتنا جميعا الا اذا ضايقتك إقامتنا ومنا قد مللت بعد هذا الزمن الطويل فلن نقاوم ولن نعترض على مغادرتنا..
بدأت حليمة تتغير في شكلها ولباسها وطريقة عنايتها بنفسها، صارت تستعيد شبابا فاجأني بسمنة طفيفة أتت على بعض بصمات الزمن التي داهمتها أيام محنتها..وبصراحة فحليمة حين تتحرك أمامي لا أرى الا السعدية التي عاشت في بيتي خمس سنوات قبل أن ترحل الى الخارج لكن في طول أكثر واكتمال أنوثة ونضج جسدي يثير بإغراء..
في مكالمة مع السعدية قلت لها:
ـ أمك تريد رجلا..
ـ مآل الانثى رجل يحميها ويسعدها..
ـ هل أبحث لها عن زوج يستحقها؟
ـ ومن غيرك، هل تعلم أنها متيمة بك؟..
ـ أنا؟ هرمت !!..
أنت واهم ولا تعرف نفسك..الوحدة، بل القراءة والكتابة أنستك نفسك..
وكأني أواجه أولى لحظات وحدتي، ماتت المرحومة ولم تترك معي الا خادمة تأتيني صباحا والى بيتها تعود مساء، أمتنعت أن أعيش في أي بيت من بيوت أبنائي حتى لا اضايق أحدا أو يقلق أحد راحتي أو يحاصر حريتي ,,
عشت في الشهور الأولى صراعا حتى اضبط نفسي على عقارب وحدتها فتتوافق مع احتياجاتي الجديدة دون أن ينجرف بي عقل أو تنفك نفسي عن ضوابطها..
وبصراحة فقد وجدت في القراءة والكتابة تدريبا رائعا على كل ما يحافظ على فضائل نفسي، ويقوِّم كل زيغ قد يبعدني عن قيمي الأخلاقية..
بعد زيارة لحَمَّة سيدي حرازم تلبية لرغبة حليمة تغذينا في مطعم مُهنَدس على شكل عريش من قصب الخيزران تعودت الأكل عنده لمزايا لايوفرها غيره من نظافة وأصالة طبخ، ثم خرجنا لحديقة غناء تابعة له لنشرب قهوة..
ونستمتع بأغاني الزمن القديم..
ألم خفيف بدأ يسرى في حوضي لم يلبث أن تفاقم اضطرني للعودة باكرا..
كنت أدرك أني أحيا بكلية واحدة مذ كنت شابا يافعا.. الطبيب صرح أن الكلية الثانية قد تعبت وبقاؤها قد يعرضني للخطر..
بعد أسبوع وصلتني تأشيرة وتذكرة الطائرة للسفر الى أنجلترا ومعي أم السعدية..
أدركت أن حليمة هي من أبلغت بنتها بمرضي فتصرفت السعدية.ببنوة الرضا.
خضعت لعملية جراحية وتم تغيير كليتي وكانت المفاجأة أن المانحة هي حليمة..
ـ هي شكر وهدية مني أيها العزيز، هل سألت يوما نفسك ماذا ستربح مما قدمته للسعدية، أم كانت الحياة أوسع في عينيك من كل عطاء، الزمن في حركته يدور والحر من دان إنصافا كما دين..
ما عانته حليمة بعد العملية كان ينزل علي كردم يومي في حين أنها كانت سعيدة تقاوم بصبر وجلد الى أن شفيت..
انجذاب عقلي وجسدي صار يشدني اليها، تناسق واهتمام بصحتها ومظهرها بعيدا عن المبالغة في المساحيق لإغراء أو إثارة..
بعد تناول عشائنا ذات ليلة سألتني حليمة :
ـ هل أعد لك شايا أم قهوة؟
سؤالها اثار في نفسي ذكرى، أول سهرة تعرفت فيها على فكر السعدية، نظرتها الى الوجود والناس..
ضحكت، فتبسمت في وجهي وقالت:
ما يضحكك؟..
ـ ذكرى عزيزة
ـ لماذا لا نعيدها معا ؟
ـ هل بلغتك؟
طبعا بلغتني وعنها قالت السعدية:
ـ لو قدر لي أن أختار رجلا لحياتي لما اخترت غيره ولو بلغ من العمر عتيا..
خرجنا وقصدنا نفس المقهى..
كانت حليمة مندهشة مما ترى، في الداخل جوق صادح ورقص فاضح وفي الخارج نساء شبه عراة وحيدات أو مرافقات بشباب وشيوخ..
اكتفينا بالجلوس في شرفة خاصة بالعائلات..كانت بجلبابها المغربي الأصيل، تثير بجمال عيونها ولونها القمحي الفاتن نظرات الإ نبهار والاعجاب من قبل نساء غربيات، خصوصا وشاحها الحريري المطرز بدقة واصالة مغربية بألوان مبهرة..
سألتها: هل يضرك ما يتم تناوله من حولنا من خمور؟
هزت كتفيها وقالت: لكم دينكم ولي دين، كل واحد عند رأسه ملك يفعل به مايشاء..خالق ومخلوق ليس بينهما حجاب ولا وسيط..
بدأت أعرف اثر تربية حليمة في بنتها، لم تكن متعلمة ولكنها تتذوق الحياة بتفاعلية مدهشة وعقل صاف..تعرف ربها من منطلق الرحمة..
تمشينا قليلا على الشاطئ، هدير موج البحر قوة ورهبة وحنين، و قناديل الشاطئ تصبغ عليه رومانسية تحتها يتحرك الشباب من منطلق الفتوة والحب والمتعة..
تتعلق بذرعي بكلتي يديها وعلى كتفي تضع رأسها بين حين وآخر..
لم نحس الا وشفاهنا تتفاعل في قبلة..كأننا شاب وشابة يستعيدان أوج الحياة !!..
قلب السيارة أرتمت علي بعناق وقالت:
يشهد الله أني احبك فوق ماتتصور..
رجعنا الى البيت قبل الثالثة صباحا. قالت:
مارايك في تحميمة نطرد بها رطوبة الشاطئ عن أجسادنا؟..
لم اتردد..
مشدوها أرى جسدا منحوتا لانثى لا أصدق أنها في عقدها الرابع، نهدان نافران يتيهان في شموخ، ساقان مفتولان في اكتناز، أرداف بلا زوائد..
أزيد من خمس سنوات لم أتمتع بحمام كما أستدفأت به الليلة..
على السرير استعدت ليلة دخلتي أنساما وحبا ومتعة وصال..
ما أن اصبح الصباح وتناولنا فطورنا حتى كنا في محكمة الاسرة نعقد كتابنا..
كان الصداق لويزة ذهبية هدية من السعدية..
بعد العودة وصلتني رسالة منها:
ـ مبروك ياعريس.. اليوم أعتز بوجودي، وصرت استحق لقب أنثى، فقد صار لي أب، أعظم أب من ذرية آدم الانسان..
ثم ظهرت عبر الشاشة:دموع هاطلات وعبارة مخنوقة في حلقها:
أياك أن تنساني !!..وتركتني في عبارتها أغتشل....
***
محمد الدرقاوي - المغرب