نصوص أدبية
حامد عبد الصمد: أبي.. لا وقت للنسيان (1)
1- قديم جديد
كانت شمس تشرين الأول
قد أشرقتْ
وبدأت ترسل خيوطها الذهبية
إلى صفحات الأرض
مع أسراب هائلة من الطيور
وكان أبي
قد نهض من فراشه بعد ليلة
لم ينم فيها ..
وأنا كنتُ على فراشي
أراجع ..
واستذكر كل الساعات
التي مرّت البارحة
ودارت نفسي على نفسي
أبي كان دائماً طوداً شامخاً
نتوارى خلفه حين تغشانا الملمّات
هو لم يفرّط بالوقت أبدا
فالوقت ثمين
كيف مرّ الليل عليه
أكان يبعث رسالة مليئة بأوجاع الوداع ..؟
وثارت رياح الأفكار والهواجس... في داخلي
وتقاذفتني أمواج الحيرة المتلاطمة
وعربدت العواصف ...
كبرت ْ علامات الاستفهام
أمام عيوني
ولكنّي هدأتُ
وأنا أنظر إلى والدي
وهو يقرأ بصوت عال سورة الفاتحة
قلتٌ له : صباح الخير
قال : صباح الخيرات والمسرّات يا ولدي
واستطرد قائلا : هيّأ نفسك للذهاب إلى الكلية
سيأتي يوسف النداف بسيارته مع زملائك
لا تفكّر بي ..
فأنا أدري أنّك لم تنم الليل كلّه،
وكنتَ تراقبني، تبحث عن حزني
ولكن الحمد لله على كل حال ...!
وتذكّر يا ولدي الحبيب حامد
أنّي قد ابتسمتُ بوجهك
على الرغم من كل الآلام
فابتسم مثلي دائما ...!
رتّبتُ منضدته قليلا .. بصمت وادع
قالتْ أمي : يا ولدي أترك كل شيء
سأقوم انا بالواجب
وبترتيب الغرفة كلّها
قبلّتها على الرأس ...
فعانقتني
وطبعت قبلاتها على خدي
ثمّ قبّلتُ يد والدي النحيلة ..
ربّتَ على كتفي
وهو ينغّم أبيات الإمام علي (ع) :
اذا هبّتْ رياحك فاغتنمها
فعُقبى كلِّ خافقة ٍ سكونُ
ولا تغفلْ عن الإحسان فيها
فما تدري السكونُ متى يكونُ
سمعته ..
.وغادرتُ
وأنا أردد بخشوع :
" اللهم اجعل النور في بصري
والبصيرة في ديني
واليقين في قلبي
والاخلاص في عملي
والسلامة في نفسي
والسعة في رزقي
والشكر لك أبداً ما أبقيتني ".
**
2- ليلة يقظة
كان أبي، في كل أوقات ليلة البارحة
يتجوّل في البيت
يدخل إلى غرفة الاستقبال
يتأمّل الصور
واللوحات المعلّقة على الجدار
ويردد:
هذا السيّد عباس جمال الدين
هذا الميرزا عناية
هذا السيد الشاعر مصطفى جمال الدين
هذا الشيخ محمد أمين زين الدين
هذا محمد مهدي الجواهري
وهذا ....... وهذا....
وذاك أنا ....
يطلق آهات
يخرج من غرفة الاستقبال (الديوانية)
يتجه إلى نخلة البيت
يرفع رأسه
يتأملها
– أيّتها النخلة لقد أعطيتِ الكثير
الف شكر لكِ
حفظك الله لعائلتي ..وأحبتي -
يعود لفراشه
وقد تدلت في يده مسبحة حسينية
كان يسبّح ..
ويصلي على النبيّ الكريم
وعلى أهل بيت النبوّة
عليهم أفضل الصلوات
فقد نمتْ في روحه
العواطف النبيلة
وتطورت محبته
حتى بلغت عنفوانها الأكبر
ليؤدي رسالته الحياتية
على نور حب الله تعالى
شهيقه معطّر
بأنفاس رسالات السماء
السماء الواسعة، الزرقاء
التي تتهادى
اليها النجوم
فيراها
مشعلا، وانتباهات
تتفجر في صدره
ابتهالات، وتراتيل
تعبق بتضاريس النفس
وعلى فمه ابتسامة سلام
شلالات حب
ودفقات خير ...
يا الله ...................
فهو الربيع
الذي يمشي
على ساعديه شذا الورد
ينشره
في الفضاء الفسيح
في كل مكان
*
أجل كنت َ حقّاً
يا والدي العزيز
يقظة الحياة
وسفر الضياء
**
3- العودة من الكليّة
كنت عائدا، انا، وزميلتي العزيزة، من الكلية
في ذلك اليوم، بالتحديد، منتصف تشرين الأول
والساعة تشير الى الرابعة عصرا
والشمس تجنح للمغيب ..
كنا جالسين معا،على مقعد واحد
في مصلحة نقل الركاب
أحسستُ أنّ قلبي يئنّ.. ويتوجع
وتراكمت الأفكار في رأسي
الحيرة تشتدّ بي ...!
كانتْ صورة والدي أمامي ..
وهو يقول لي : "تذكّر أني ابتسمتُ لك
وأنت تغادر البيت، ذاهباً الى الكلية..
أهناك أجمل، من هذا الوداع ...؟"
وضجّت الدنيا من حولي
وترددتُ ..ماذا أقول لزميلتي ..؟
كانت هذه الزميلة، الصديقة،الوفيّة
من أقرب الناس إلي
لها مكانة في نفسي
وكلماتها تجعلني، أتذوّق هناءات العالم
لكنّي لم أجد الآن، ما أقوله، كل الكلمات
قد ماتت على ثغري
وكنتُ في دواّمة من الأفكار، والهواجس
والباص تأكل الطريق ..
طريق أبي الخصيب
فجأة
صحوتُ على صوتها الرقيق
- لقد عبرنا جسر حمدان .. يا حمدان
ما بك يا حامد، أراك ملغوما ً بالقلق ....؟
- لا شيء يا ......!
- أصحيح، لا أظنّ ذلك ..
فضجرك قد حاصرني ..
وصمتك رحلة طويلة ...؟
كأنّك تتجرع الأحزان .!
(ألقتْ نظرة على وجهي)
مالتْ برأسها للأسفل،
تلمّستْ السلسلة الذهبية المحيطة برقبتها،
وراحتْ تلفّها
حول خنصرها الصغير
وردّدتْ بنبرة حزينة:
" لا يعدم الصبور الظفر وان طال به الزمان "
- أجل انها حكمة عظيمة
من رجل عظيم
انه امامنا علي عليه السلام-
سأبقى أفكّر فيك، ستمر
الساعات،
ببطء وثقيلة ...
المهم ان شاء الله
سأراك غداً
أن شاء الله، بأحسن حال
والآن لقد وصلتَ يا حامد
التفتُ اليها ..!
- أجل لقد وصلتُ
،شكرا مع السلامة
- مع السلامة ..الله معك
أراك بخير
***
حامد عبد الصمد البصري