نصوص أدبية
ناجي ظاهر: انفجار عائلي
كانت الساعة العاشرة بالضبط عندما رنّ تلفونه النقّال إلى جانب على المنضدة في مأواه الصغير. تُرى مَن المتّصل في هذه الساعة المتقدّمة من الليل. الله يستر. تجاهل رنين الهاتف. إلا أن تلفونه واصل الرنين. عندها كان لا مناص أمامه إلا تناول هاتفه. رفعه بيده. إنها ابنته الصغرى راشدة. هي لا تتصل في مثل هكذا لحظة. أو انها لم تعتد على الاتصال به في مثل هكذا وقت.
وجاءه صوت ابنته من بعيد:
- أبي هل سمعت أنباء التفجير في أحد المطاعم التركية.. في إسطنبول؟
تصنّع عدم المعرفة ليستمع إلى ما ستقوله:
- لا لم أستمع.. ثم مالنا وما للتفجيرات واخبارها يا ابنتي.. العالم كلّه يتفجّر؟
ردّت ابنته بصوت أسيف:
- كيف مالنا ومال التفجيرات يا ابي. لقد قُتل في التفجير وأصيب عدد من الاشخاص بينهم أناس من هنا من بلادنا كانوا في زيارة لتركيّا.
وتابعت:
- كيف تقول هذا يا أبي.. أنت تعرف أن أختي رشيدة ستسافر غدًا هي وابنتها إلى اسطنبول.. وأن هناك خطرًا حقيقيًا قد ينتظر الاثنتين هناك. لقد تحدّثت إلى رشيدة.. قلت لها إنها ينبغي أن تؤجّل سفرتها إلى تركيا.. إلا أنها رفضت الاصغاء لما اقوله.. وردّت علي قائلة: المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين.. ثم إنه لا مهروب من المقدّر لنا والمكتوب.
تابعت صغيرته تخوفاتها.. وتوقّف الوالد عن الاصغاء.. سرح في حياته وفي دنيا ابنته. رشيدة ابنته تعتقد أنها شبّت عن الطوق، ورأسها أقسى من أن يتمكّن من التأثير عليها. بل إنها وضعت رأسها برأسه ذات يوم وفاجأته بالعمل مذيعة في إحدى الراديوهات المحلّية. وعندما كان جالسًا مع عدد من اصدقائه ذات مساء. اتصلت به وقالت له إنها في طريقها إلى بحيرة طبرية. فسألها عمّا إذا كانت تطلب الاذن منه أم تُخبره فقط. فردّت بعجرفة بنت متمرّدة. أيوه.. أنا أنما اتصل بك لأخبرك. وأقفلت الخط قبل أن يردّ عليها. أقفل لحظتها تلفونه وأيقن أن ابنته كبُرت. وعليه أن يعرف كيف يتعامل معها وإلا أضرها بخوفه عليها. قسوة راس رشيدة هذه وهي كبرى أبنائه. ثلاث إناث وذكر واحد. وتمريره لها بتلك السهولة دفع بقية أبنائه لأن يحذوا حذوها. ولم تمض إلا حوادث قليلة قد تكون في عددها أقل من أصابع اليد. حتى سلّم بالأمر الواقع. وقال لنفسه إنه عليه أن يذهب مع الانزلاق.. وإلا أوقع اصطدامًا قاتلّا سيندم عليه طوال حياته.
عندما وصل إلى هذا الحدّ من التفكير. كان يتساءل عمّا يمكنه أن يفعل. وأكد لنفسه أنه يُطلب منه هو الكاتب المعروف. أن يبذل جهدًا لإقناع ابنته الكبرى بالعدول عن تلك السفرة التي قد تخلّف له مصيبة سيندم عليها للابد. ومثلما يفعل الغريق.. وهو يصارع أمواج الخطر.. أكدّ لنفسه أنه يُطلب منه أن يفعل شيئًا.. على الاقل من باب الاحتياط واجب.. ليقل لابنته إنه خائف عليها وليحاول ثنيها عمّا قررته من سفر.
أبناؤه كلّهم يقيمون في "نتسيرت عيليت". رفضوا كلّهم الإقامة في أي مكان آخر. واستمع أكثر من مرة إلى أحدهم يقول.. إننا لا نستطيع العيش في أي مكان آخر.. هُنا تربّينا وترعرعنا ومن حقّنا أن نبقى هنا. تقبّل رشيد، وهذا هو اسمه، ما فرضه عليه أبناؤه من أمر. رغم رغبته في أن يعيشوا في الناصرة. بين أقاربهم وأبناء جلدتهم. ولم يكن أمامه من مفرّ سوى الخضوع والقبول.. في الطريق إلى بيت ابنته رشيدة كان رشيد يفكّر فيما يمكنه أن يفعل لإقناع ابنته بعدم السفر. وتصوّر ابنته وقد قضت في حادث مماثل لذاك الذي تحدّثت عنه صغيرته راشدة. فجنّ جنونه ورفع صوته دون أن يفكّر مُطالبًا سائق الباص أن يسرع قليلًا. فما كان من السائق إلا أن هتف به قائلًا.. هل تريد أن أركّب جناحًا وأطير..؟ أدرك رشيد أنه ارتكب إحدى حماقاته التاريخية وابتسم للسّائق راجيا إياه أن يمرّر تلك الغلطة.. ابتسم السائق وتابع انطلاقه.. وهو يردّد.. أما طلب غريب.. أما طلب غريب.
ما إن توقّف الباص في حارة ابنته، حتى هرول يركض باتجاه الباب الامامي.. ونزل بسرعة.. وسط ذهول السائق.
في العاشرة والنصف إلا دقيقة كان رشيد يقرع باب بيت ابنته رشيدة. دخل منفوش الشعر مشوّشًا. واتخذ مجلسه على إحدى الكنبات هناك في غرفة الاستقبال. خلال لحظات كان جميع مَن في البيت.. ابنته .. زوجها وابنتهما عاشقة تركيّا ومسلسلاتها والمُسبّب رقم واحد في هذه السفرة التي قد تكون أكبر كارثة في حياة رشيد وحياة عائلته. التفتت ابنته رشيدة إلى صمت والدها. فطلبت من زوجها وابنتها أن تدخلا إلى إحدى الغرف الجانبية، لتتمكّن من التحدث مع والدها، فمن يعلم قد يجد والدها حرجًا ما في التحدّث فيما أتى به إليها في تلك الساعة غير المعهودة لزيارتها. بعد أن بقي جالسًا قُبالة رشيدته وجهًا لوجه، كان لا بُدّ مِن أن يُفصح عن سبب مجيئه ذاك. سأل ابنته:
-هل تحدّثت راشدتنا إليك اليوم؟
ردّت رشيدة:
- تحدّثت أكثر من مرّة.. قال ايش يا سيدي.. تريد أن اؤجّل سفري بسبب حادث التفجير وما أسفر عنه مِن قتل وإصابات.. بعضها من هنا من الناصرة.
اشرأب الوالد برأسه ناظرًا لابنته:
- أختك محقّة يا ابنتي.. لماذا لا تؤجّلين هذه السفرة حتى تهدأ الامور وتعود إلى استقرارها السابق؟
انفرجت أسارير وجه رشيدة قليلًا.. الآن أدركت سبب زيارة والدها غير المعهودة لها. أخرجت سيجارة من علبتها المارلبورو.. ومدّت العُلبة إلى والدها عارضةً عليه أن يسحب سيجارة من عُلبتها. فذكّرها والدها أنه لم يدخن السجائر ولا مرّة في حياته. فقالت له وهي تكاد تنفجر بضحكة هستيرية.. نسيت.. يقطعني.
قالت رشيدة:
- انت تضم رأيك إلى رأي صغيرتك إذن.
ردّ الاب بتخاذل مَن علم مُسبقًا أن كلامه سيكون مثل دخان يتبدّد في الفضاء:
- أنا خائف عليك يا ابنتى.
سحبت رشيدة نفسًا طويلًا ِمن السيجارة بين شفتيها وقالت وعيناها تتحرّكان في كلّ الاتجاهات.
- لا تخف يا والدي.. لا تخف.. أنت تعرف أنني أعرف كيف أتصرف في ساعة النحس. ثم إنني لا أستطيع أن أؤجّل السفر في اللحظة الاخيرة.. أضف إلى هذا أن صغيرتي عاشقة تركيا ومسلسلاتها قد تجن إذا ما ارتكبت حماقة تأجيل سفرنا.
- ابنتك يا ابنتي ما زالت صبّية غضة الاهاب.. وصغيرة على مثل هذه القرارات.
وحاول أن يعزف على الوتر الحسّاس:
- تصوّري يا ابنتي.. أقول تصوّري أن مكروهًا حصل لابنتك هناك في بلاد الاتراك. أو أنك..
وصمت الأب فسألته ابنته:
- لماذا لا تكمل يا والدي.. أكمل قل أو أنني قُتلت.. في حادث لا يرحم.
هنا وضع الأب يده على فم ابنته في محاولة منه لإسكاتها.. وتمتم معاذ الله.. معاذ الله.. سلامة عُمرك يا ابنتي.. لكنني أريد أن أسألك ألا تخشين الموت الى هذا الحد؟
انتصبت الابنة قُبالة والدها:
- لا يا أبي لا.. لا أخاف الموت.. فهو قد يأتيني هنا وأنا في بيتي..
كان الأب يعلم أن ابنته عنيدة.. عنيدة جدًا.. رأسها أقسى من راس أمها التي طردته من بيته ليقيم وحيدًا في ذلك البيت الصغير. وعاد إلى نقاشات سبق وخاضها معها. قال لها .. صحيح أن الموت قد يأتينا ولو كنّا في بروج مشيّدة.. إلا اننا ينبغي ألا نذهب إليه بأقدامنا. وعبثًا حاول أن يُقنع ابنته أن معظم ما يلحق بنا من ظُلم ومعاناة إنما هو في أغلبه من صُنع أيدينا. فقد كانت الابنة ما إن يفتح بابًا للنقاش لإقناعها بما أرد إقناعها به. حتى تغلق أبوابًا.. وقال الأب من أعماق يأسه:
- أنت مُصرّة إذًا على السفر.. حتى لو كلّفك حياتك.. وحياة ابنتك.
فهزّت الابنة رأسها علامة الإصرار، فما كان من الوالد إلا أن تحوّل إلى كُتلة من العجز وحمل نفسه منسلًّا باتجاه باب البيت. خرج ِمن البيت وهو لا يلوى على شيء. لقد أخفق مسعاه. فليعدّ نفسه لخبر قد يكون له ما بعده في حياته وحياة أسرته. ليعدّ نفسه كما يفعل اليائسون. ومضى في الشارع المُحاذي لبيت ابنته. توقّف تحت شجرة وارفة. وهمت من عينه دمعة. ما لبث أن أخفاها وهو يرى ابنته الصغرى راشدة تقترب منه. اقتربت صغيرته وطلبت منه أن يُرسل نظره إلى شُرفة بيت ابنته رشيدة. أرسل الأب المكلوم نظره إلى هناك ليرى جميع أفراد أسرة ابنته وهم يهتفون باسمه طالبين منه أن يعود.. عندها أيقن أن رشيدته إنما كانت تُمازحه.. وأنها لن تعصى له طلبًا.. وسرت في قسماته ابتسامة غامضة.. وهو يتوجّه إلى عائلة ابنته.. عائلته.
***
قصة: ناجي ظاهر