نصوص أدبية
حاتم جعفر: باﻷبيض واﻷسود
حينما كنت أقلِّبُ صفحات أيامي الخاليات البعيدة، فلتت إحداها، فَشرعت في تدوينها حتى جاءت على النحو اﻵتي
أبعاد غرفته الواقعة في الطابق الثاني، بإرتفاع سقفها وترامي جدرانها ورحابة نوافذها، فضلا عن هدوئها وسكونها، بسبب من عزلتها النسبية عن سائر أجزاء البيت وعن الشارع العام، كل ذلك أدى الى أن يهنأ بفسحة واسعة من الراحة والإستقلالية، حتى انها أمست موضع إعجاب وغبطة من قبل أقرانه ومقربيه. غير انَّ تلك (النعمة) لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما كانت تبددها إحدى الجارات الثقيلات الوقع، حيث لا يمر يوما الاّ وتحلٌ ضيفة رغم أنف الجميع، ومن دون إستئذان أو رضا أهل الدار ومع صباح كل يوم، لتطرق الباب بقوة وإصرار، وسوف لن تتوقف عن ذلك الاّ بعد أن يرد عليها أحدهم ليفتح لها، وعند ذاك سيطمأن قلبها.
من أين جاءت وكيف ومتى إنتقلت الى حيهم ومن دلَّها على بيتهم، كل تلك اﻷسئلة وغيرها، راحت تدور بخلده، لتشكل له عقدة وهاجسا يوميا، لم يعد من السهولة بمكان التخلص منها. بل حتى لم يعد هناك من أمرٍ يُشغله سوى حالة الفضول التي تمتلكها هذه السيدة وما ستسببه له من قلق دائم ومستمر. وكم من مرة حاول غض الطرف عما تحدثه من جلبة غير انه فشل في ذلك فشلا ذريعا.
فالسيدة أو لنسميها بالساكنة الجديدة وفي غالب اﻷحيان، سوف لن تضع في بالها أو تراعي الكثير من الإعتبارت الخاصة حين زيارتها لبيتهم، فتجدها مثلا وقد إعتادت على دسَّ أنفها بالصغيرة والكبيرة، عدا عن دخولها البيت بل إقتحامها له وقتما تشاء وكيفما تشاء، ومن دون أن تضع ﻷهل الدار حسابا أو ظرفا ما أو أمرا طارئا.
وعلى الرغم من أنَّ فارق العمر بينها وبين والدته لا يقل عن العقد من السنين إن لم يزد على ذلك ببضعة منها، لكنها لم تتوانَ عن الدخول ومن دون إستئذان في العديد من المواضيع، والتي ما أنزل الله بها من سلطان بما في ذلك المحرمة منها والغير مسموح بها. أمّا إذا تصادفت زيارتها مع تواجده بشحمه ولحمه في الطابق اﻷول من البيت مع سائر أهله ولمختلف اﻷسباب وهذا من بداهة الحال، فقل ان أمرا جللا سيحصل لا محال، وسيتعكر مزاجه وصفو سكونه وبمنسوب عالٍ جدا.
فعلى عادتها ومع صبيحة كل يوم ومن قبل أن تطأ قدماها عتبة الدار وما أن يُفتَح لها الباب، حتى تبدأ ببث آخر اﻷخبار وأفضحها وعلى الهواء مباشرة، ليصل صوتها ومن بعده صداها حتى مَنْ بإذنه صمم. وإتساقا مع ما فات ذكره وفي صبيحة أحد اﻷيام الغير مباركة، ستقوم هذه المرأة بالكشف لوالدته عما اعتبرته سرّاً دفينا وخطيرا، وذلك بعد أن تضيف عليه من التزويقات والمبالغات ما يروق لها وبما يسهل عليها تسويقه، والمتمثل وكما جاء على لسانها: بأن إبن الحفافة التي تسكن في أول الحي، قد أقدم على قتل شقيقته الوسطى ذبحا، وذلك غسلا للعار. وبعد التأكد من أصل الواقعة فقد تبين أن لا صحة لها ولا أساس على الإطلاق.
وإذا ما عدنا بالتأريخ الى الوراء قليلاً، وأردنا التوقف عند الظروف والملابسات التي سنحت لهذه المرأة الدخول الى بيتهم أول مرة، ففي حينها وعلى ما يتذكر إبنهم اﻷكبر، فقد كان بذريعة التعرف على ساكنيه، وهذا أمر متعارف عليه ومعمول به بل هو واجب علينا وملزم. ففي البدأ طرقت هذه السيدة الباب بهدوء وحذر شديدين، وبدت بمظهر ينم عن حشمة وخلق رفيع، وبنبرة صوت بالكاد تسمعه، لتسأل عمن يعينها على الوصول الى مركز المدينة لغرض التسوق. وبما انها غريبة على مكان إقامتها الجديد وتجهله تماما بحسب قولها، فكان لها ما أرادت، وليخرج معها لمساعدتها وبإشارة من الوالدة أحد أخوتي الصغار.
وفي مناسبة اخرى استعانت بوالدتي وفي ساعة متأخرة من الليل، لفض إشتباك طارئ كان قد نشب بينها وبين زوجها، فلبي نداءها على الفور، علما ان هذه النزاعات سوف لن تتوقف رغم كل ما بُذل من جهد ووساطات للصلح بينهما. لهذا وﻷسباب أخرى مختلفة، فقد ازداد ترددها على بيتنا وتوثقت علاقتها بوالدتي بعد ضغط وإلحاح ورغبة منها. وربما لنفس اﻷسباب والحجج، راحت تجوب وتدخل بيوت الحي بيتاً بيتا وأينما يطيب لها المقام. وعن زياراتها هذه وبحسب ما كان يصلنا من أخبار، فسوف لن تتورع في الكشف عن أهم وأدق التفاصيل التي تتعلق بسائر بيوت الجيران بما فيها المحظور منها، دون أن تغفل عن سرد تفاصيل يومياتهاداخل بيتها ومع زوجها بالتحديد، بما في ذلك ما يستدعي منها الحشمة والحذر.
ومن طرائف سيرة هذه المرأة وسلوكها، وبمجرد أن تعرفت على بعض من معالم المدينة حيث سكنت، فسيكون سلواها ومتعتها التردد على دور السينما ومشاهدة اﻷفلام العاطفية، وبشكل خاص في موسم الصيف، والذي عادة ما تكون صالات العرض وروادها في الهواء الطلق، بسبب من طبيعة الجو الشديد الحرارة. وعندذاك فما من مهمة أمام زوجها غير حماية العِرض أو شرف بيته، كما تقول العرب.
حتى اﻵن ما فات ذكره يبدو طبيعيا ويمكننا تقبله أو لنقل تفهمه وإستيعابه. غير انَّ الملفت باﻷمر، هو طريقة وأسلوب حماية العائلة والإستعدادات الواجب إتخاذها يوم يولّوا وجههم صوب السينما، فعند هذه اللحظة فقط سيحاول الزوج وأمام بَعْلته، إظهار وإثبات رجولته ودرجة تحمل مسؤلياته، محاولا تعويض ما فاته من تجاوزات وإنتهاكات لمكانته ودوره، والتي ما إنفك يتلقاها من قبلها، داخل البيت بل وحتى أحيانا خارجه وكل يوم.
فمن بين الإجراءات الإحترازية التي دأب على إتباعها مثلا وإرضاءاً لها، هي العمل على إفراغ الصف الذي خلفهم في صالة العرض والصف الذي أمامهم كذلك من جلاسه. وﻷجل بلوغ هدفه هذا فسيتبع مختلف الطرق والوسائل لإقناع الطرف اﻵخر ومهما كانت منزلته وعمره. أمّا إذا تصادف واعترض أحد الجالسين أوصاحب السينما أو مَنْ هو مخول بذلك من العاملين على هكذا تصرف، فسيعلن الزوج عن كامل إستعداده لتحمل كافة المصاريف التي ستترتب على إحتكاره لهذه المقاعد.
في إحدى المرات وبعد عودتهم من مشاهدة أحد اﻷفلام الهندية، وكان يوم صيف قائض، ونزولا عند رغبة زوجته، وعلى الرغم من ان الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، وموعد نوم أبنائهم قد عبر الوقت المحدد والمعتاد، فقد راح يتمثل بشخصية شامي كابور، أحد أبطال الفلم الرئيسين الذي شاهده قبل قليل وتأثر به، ليشرع وعلى الفور بتصفيف شعره بعناية فائقة، مستخدما دهن الياردلي الشائع الصيت والشهرة آنذاك، غير انه لاقى صعوبة كبيرة في ذلك، لطول شعره وكثافته بل وأشعثه، مما أفسد عليه هدفه.
الاّ انه وبالرغم مما بذله من جهد واضح ومشقة والذي جاء نزولا عند رغبة زوجته، والتي باركت له وشجعته في بادىء اﻷمر على هذه الخطوة والمتمثلة بإعادة تصفيف شعره، غير انه لم يتخلص من تندرها عليه، بل تجدها وقد زادت من حنقها، بسبب ما ترتب على فعلته هذه من نتائج كارثية، إنعكست وبانت على هيئته العامة وعلى رأسه بشكل خاص، كما ستصفها لاحقا لإحدى الجارات.
لذلك وﻷنه لم يلق من الإستجابة والرضا من قبل زوجته ما يريحه ويطمئنه، فقد قرر أن يحلق شعر رأسه عن آخره وفي تلك الساعة المتأخرة، ليخرج عليها بحلته الجديدة، مما تسبب في نشوب جولة جديدة من المماحكات والمعارك، وإسماعه لغة أكثر إيلاما وقسوة، مترافقا بصراخ وعويل وكسر صحون، ليوقظ الجيران قبل أن يستيقظ أبنائه.
(الحكاية لم تنته بعد، وربما لنا عودة)
***
حاتم جعفر
السويد ــ مالمو