نصوص أدبية
ذكرى لعيبي: سكن وعمل
القسم الثاني، الفصل (4) من رواية:
غابات الإسمنت
***
كانت شقّتي مثالا للأناقة...
في الظاهر لم تساعدني حبيبتي ابتسام في شراء الأثاث، كي لانثير الشبهات من حولنا، بل ذهبت معي إلى بعض محلات الموبيليا، واستحسنت بعض الأثاث الذي اشتريته تقديرا لذوقها، حتى تشعر أنها ساهمت معي بتأثيث منزلي الذي يجاور بيتها، قالت إنّ بيتي هو بيتها وبيتها هو بيتي، وأخبرتني أنني إن كنت أرغب في تغيير أي قطعة أثاث في شقّتها، فيمكن أن أشير عليها لتغيره من دون نقاش.
معي تشعر أنّها في بيتها هي الرجل وأنا ربّة البيت، وفي شقتي هي ربة البيت، ولو كنا في مجتمع آخر، لعشنا معا من دون أن نكبت ما في نفسينا.
كنا شخصا واحدا يسكن بيتين!!
بعد أن سكنتُ الشقّة جاءت إليّ وهي تكاد تطير من الفرح، لتخبرني أنها ستشتري البناية ذات الطوابق الأربعة، وأنها ستبقي على محل الحلاقة، ولنفكّر فيما بعد بترتيب طابق للمساج يخص الرجال وآخر للنساء، أما مكتبي فسيكون في الطابق الأوّل حيث مساج النساء في نهاية الممرّ، وقد زودته النقيب ابتسام بشاشة صغيرة وكاميرات خفية، كل ذلك تحت إشراف دائرة الأمن الوطني، وسيبقى الطابق العلوي الرابع فارغا؛ إذ لا حاجة لنا فيه في الوقت الراهن.
كانت البناية باسمها ملكا صرفا لها، وتعمّدت أن تجعل المحلّ باسمي.
كان كلّ شيء مدروسا ومخططا له، أنا أدفع الإيجار، ويكون وارد المحلّ لي، وهكذا ستكون الأمور... تقول إن هذا جزء من ضريبة الحب، أنا لها كل شيء فما فائدة النقود؟
تركنا عامليّن في الطابق الأسفل لمساج الرجال، وكانت هناك عاملات من شرق آسيا للنساء... كلهن متدربات وذوات خبرة، واحدة شغلت عملها من زمن المالكة السابقة، لا أخفي أني فكرت أن أنقل بعض العاملات لقسم الرجال لكنني ترددت، فالزبائن الذكور الذين يزوروننا ليسوا من الشخصيات السياسية مالكة القرار، إنهم من الدرجة الثانية والثالثة أو من شخصيات الظل التي لا تملك قرارا.
أبديت لها رأيي فاستحسنته، لأننا لسنا من المخبرات والمخبرين العاديين، أو ممن يسميهم الشارع موظفا، أو يشير إليهم بكلمة: يشتغل بالأمن!
فأنا منذ كنت في السجن، تم تهيئتي لأستدرج شخصيات كبيرة ذات مقام وثقل.
مع ذلك، فعلتها ذات يوم وأرسلت عاملة للطابق الأسفل، قامت بعمل مساج لشخصية قيل عنها إنها مهمة، كدت أختنق من الضحك، شخص في منتصف العقد الستيني حدث له ........ بعد أن داعبت أنامل الميساجست (خبيرة التدليك) جسده، رأيت ............، النقيب ابتسام ضحكت حين قصصت عليها ذلك، وأكدّت مرة أخرى على ما اتفقنا عليه من قبل، وإن كانت هناك طلبات فسيتصل بها أحد الشخصيات المهمة فترسل له إحدى العاملات.
الدور نفسه الذي قمت به مع السيد رئيس غرفة التجارة وأنا في السجن ...
وهي مرحلة عابرة كان لا بدّ من أن أمرّ بها!
أما رهاننا هذه المرّة، فكان ينصبّ على بنات المسؤولين الوزراء والوكلاء وبنات قادة الجيش، وزوجاتهم.
هذا أفضل؛ تقول السيدة النقيب، نحن نتحرك وفق خطّة مدروسة، وبإشراف دائرة الأمن الوطني التي لها نفوذ واسع، وتملك أكثر القرارات تأثيرا على السلطة السياسية في البلد.
هكذا بدأنا نتحرك، وكنت أراقب الحركة من مكتبي، وعيناي تلتصقان أسفل درج المكتب إلى شاشة صغيرة، مرة أنتقل إلى قسم النساء، وقليلًا ما أضغط على الزر المخصّص للرجال.
كانت الآنسة " نرجس " بنت السيد الوزير من زبائني.
أبوها وزير لوزارة غير سيادية، أما معارفها من البنات، فينتمين لعوائل تتحكم باقتصاد البلد وسيادته وجيشه، وكانت دائرة الأمن الوطني تراقب شؤون البلد على وفق سلوك العوائل الكبيرة، وعلاقاتها في الداخل والخارج.
وفي كثير من الأحيان عن طريق سلوك بنات المسؤولين وزوجاتهم.
الآنسة "نرجس" استرخت على السرير الجلدي الأبيض، وراحت الميساجست الآسيوية تباشر معها عملها، الغرف الآخرى شغلتها زبونات جديدات، سيدات جرى الأمر معهن كالمعتاد، منتصف الوقت أي بعد ربع ساعة بدأت ملامح الآنسة نرجس تتغير، تأوهت تأوها خفيفا ثمّ انقلبت على ظهرها بسرعة خاطفة، مسحت يدها على أنف الميساجست الآسيوية "ميري" كأنها تريد أن تقول شيئا، لا أقصد أنها تحاول أن تبدي شيئا يخص الجنس، بل معنى آخر، وهدفا آخر، أدركت ذاك من خلال اصطدام يدها بأرنبة أنف الميساجست، ولو كانت تقصد غير ذلك لاستقرت يدها على مكان آخر من جسد العاملة!
ـ معذرة أنا آسفة لم أقصد.
ـ عفوا، لا تهتمي للأمر.
قالتها العاملة بلهجة عربية ذات لكنة غريبة.
تابعت باهتمام وقالت وهي تبتسم:
ـ مارأيكِ أن تعملي بعض الأحيان عملًا آخر؟
ـ لكني مرتبطة هنا مع سيدتي.
ـ حسنًا سأتحدث معها، ثم قالت لها: إنه عمل إضافي لا علاقة له بالمساج، لكي يتحسن دخلك ولن نبخل عليكِ.
رحت أفكر بنوع العمل الذي دعت إليه ابنة السيد الوزير الميساجست، رأيتها ترتدي ملابسها وتقصد غرفتي، قالت بابتسامة ذات أريحية:
ـ لدّي طلب عندك عزيزتي.
ـ وهل أستطيع أن أردّ لابنة السيد الوزير طلبا؟
ـ قد نحتاج إلى عاملتكِ في عمل غير المساج، فهل توافقين على أن تأتي إلينا؟
ـ على العين والرأس أنا لا أحتكرها، بل على العكس، ستستفيد من العمل خارج وقت الدوام، وأنا لا أقف في طريق رزقها.
ـ لكن أسألكِ هل هي أمينة وتحفظ السرّ؟
ـ لو شككت فيها لطردتها.
ـ حسنًا إذن.
ـ وهل لي أن أعرف طبيعة العمل؟
ـ نحن مجموعة فتيات من بنات الذوات، عوائل محترمة، نقيم حفلات غناء ومرح.. حفلات دورية، ونحتاج إلى عاملة آسيوية تساعدنا في الطعام، وبعض أعمال المطبخ، والرقص الآسيوي.
ـ ومتى تنوين أن تُقام الحفلة؟
ـ سنباشر كل ليلة خميس، حالما نجد شقة فارغة، وفي مكان لايزعج الجيران.
عندئذ خطرت بذهني فكرة حاذقة، فكرة غير عادية لا أسمّيها شيطانيّة:
ـ نحن عندنا الدور الرابع كله فارغ، ثلاثة غرف، والعمارة كلّها لنا، أما الدور الذي تحت المكتب فهو دائما مغلق؛ لكن عليّ أن أفكر بالأمر وآخذ رأي شريكتي.
ـ إذا كان الأمر كذلك، فيمكن أن نقيم حفلة رأس كلّ شهر.
ـ سأرى؛ لكن أعدكِ أني يمكن أن أفعل شيئا.
ـ لا تفكري بالنقود.
ـ ولو... دعيني فقط أستشير شريكتي.
حينما تحدثت مع حبيبتي ابتسام بالأمر، دُهِشتْ، وعدّتهُ صيدًا ثمينًا لا يمكن التفريط به، واتفقنا على أن بنت السيد الوزير لم تقصد بحركتها المفتعلة تلك مع العاملة، أي معنى يشير إلى الجنس، كان هناك هدف آخر خلف حركتها، وإلا لما تحدثت عن حفل جماعي، أعادت ابتسام اللقطة مرات، وتأكدت أن هناك أمرًا ما، والشيء المهمّ في الخطوة التالية أن الطابق الرابع العلوي يخلو من أية كاميرا خفية، ولا بدّ من أن ندسّها في مكان لا يلفت النظر، ونحن مطمئنتان تمامًا إلى أن المكان نفسه أمين، لا يشكّ فيه أحد قطّ، ليأتي الجديد الذي سيذهلنا ويكشف لنا عالمًا نسائيًا آخر لم يحسب حسابه أحد من قبل.
***
ذكرى لعيبي