نصوص أدبية
ذكرى لعيبي: الحريّة
القسم الثاني، الفصل (1) من رواية:
غابات الإسمنت
***
أخيرًا خرجت من السجن...
بعد ثلاث سنوات وفق تقرير يؤكد حسن السير والسلوك، كان كلّ شيء مرتبًا من قِبل حبيبتي النقيب ابتسام، التي تمسكت بي وبرفيقتي في السجن مديحة، التي أطلق سراحها قبلي بسنة، فأصبح لها وضع متميز الآن.
كانت ابتسام صادقة في وعدها، سواء معي أم مع السجينات الأخريات.
لكن كان عليّ أن أخرج باسم آخر وشخصية أخرى...
قبل أكثر من أسبوع من إطلاق سراحي، أخذتني إلى غرفتها، ولم تفاجئني بالمعلومات الجديدة حول اسمي الآخر، فقد وضعت لي حسابا في البنك باسم غير اسمي الحقيقي.
حالما أغادر، أتجه مباشرة إلى بيت مديحة التي أصبحت في وضع ممتاز، ولم يتغير اسمها، سأكون ضيفة عندها بضعة أيام حتى أستأجر شقة.
الذي فهمته أن مديحة لم تزرني بعد أن أطلق سراحها، لأسباب ارتأتها دائرة الأمن التي تشتغل معها، وهي الآن مديرة لمصنع خياطة كبير، يملكه رجل مهم في السلطة ذوعلاقة بالسيدة النقيب.
هكذا فهمت الأمر، ولم أعاتب رفيقتي على انقطاعها عني طول تلك المدة، فأنا متأكدة أنها لو لم ترتبط مثلي بدائرة الأمن لزارتني.
وتساءلت: أليس احتفاظها باسمها يثير تساؤلات؟ فأجابتني حبيبتي ابتسام:
ـ لا... أبدًا فهي من سكان هذه المدينة، وقد صدر بعد ذلك تصريح بأن سجنها كان خطأ، وأن المخدرات دُست في البيت عن طريق زوجها السياسي، وصُرف لها تعويض عن الظلم الذي وقع عليها وهي الآن في مركز ممتاز.
اقتنعت أن كل شيء على ما يرام، وأن الأمور تجري لمصلحتي.
ولم تلتحق بالسجن بعد خروج مديحة سوى واحدة من السجينات.. .
رهام سهيل.
كانت سيدة رائعة الجمال في الثلاثين من عمرها، ذات أنفة لم يكسر السجن من شموخها.
تتعامل بكبرياء مع السجينات اللائي سخرن منها، وحاولن كسر شموخها بسخريتهن وقلة الأدب، غير أنها ظلت لا تبالي ولا تلين، وكأنها في مكانٍ آخر.
لا تتحدث كثيرا وتتجاهل أي استفزاز.
كانت تهمتها الاختلاس، سيدة ذات موقع مهم، مديرة أحد الأقسام في بنك، راودتها نفسها أن تصبح مليونيرة بين عشيّة وضحاها، فوقعت في الخطيئة بتحريض من هيئة مستشارين فاسدين.
لم تتحدث للسجينات عن نفسها، غير أني عرفت ذلك من حبيبتي النقيب ابتسام، وحين سألتها هل أصاحبها؟ نصحتني أن أبتعد عنها، فأنا على وشك الخروج من السجن وقد بقي لي بضعة أشهر، وعليّ أن أكون حذرة جدًا طوال الفترة القادمة.
لا أدري إن كان الحذر سيقيني الخوف الذي يتقاتل بداخلي، أو الذكريات التي تأكل وتشرب معي، أو الأحزان التي تأتي بلا موعد!
حتى اقتنعت تمامًا أنني لن ألتقي قط صديقة بمثل إخلاص مديحة وطيبة قلبها.
ودفعني الفضول إلى أن أسـألها إن كان بالإمكان أن توظّف رهام في العمل؟ فأجابت بالنفي، وأكدت وهي تداعب شعري بأناملها:
ـ لسنَ كلهن مثلك.
منذ أن فتح باب السجن وجدتني لست إنعامًا.
امرأة أخرى.
تخيّلت أني لم أر النور إلا لحظة خروجي من السجن، مع أني رأيته أكثر من مرة، غير أنّه الإحساس الأسمى بالحرّيّة التي أعدّ ابتساما من منحتني إيّاها.
كنت أحمل هوية رسمية باسم ميساء أدهم عبد الرحيم، عرفت أنها لسيدة هاجرت مع أهلها منذ مدة طوية إلى خارج البلد، وانقطعت أخبارها، لم يعد للعائلة علاقة بالبلد... ربما تعرف دائرة الأمن أن العائلة المهاجرة أنهت علاقتها بالوطن تماما، لذلك منحتني هوية السيدة، وصورتي الشخصية مثبتة عليها، وطلبت منّي دائرة الأمن على لسان النقيب ابتسام أن أنقل سجلي المدني إلى حيث أقيم في هذه المدينة، التي تجاهلتُ ذكر اسمها لأسباب ما... لكنها بكل الأحوال تشبه وطنًا على ورق!
هويتي.
صورتي.
أنا إنسان آخر.
امرأة لا علاقة لها بجريمة قتل، تاريخها لا غبار عليه.
لا أحد يعرفني حقّ المعرفة، سوى ذاكرتي التي تماثل ذاكرة مدن الحروب المتخمة بالوجع.
ولا يشكّ بي أي مخلوق.
إنسان آخر خلقه حب واهتمام وهيام من نوع آخر!
حب انبعث من امرأة تختلف تماما عن بقية النساء تدعى (ابتسام).
كان معي هاتف نقال، سلمتني إياه حبيبتي، قالت إنها استقطعت ثمنه من حسابي، وإن راتبي سيجري كل شهر حتى أجد عملًا، وسيكون ذلك بتوجيه منها.
لا أقول إني رأيت النور.
فقد رأيت أنوار المدينة، ونور النهار مع حبيبتي وأنا في السجن، حين كنت أخرج معها، بل جعلتْ كل السجينات يخرجن معها إلى شقتها بحجّة التنظيف، ومنهن صديقتي المقرّبة مديحة لكي لا يشكّ بنا أحد.
الحبّ الذي يجب ألّا يعرف به أحد.
كنت أرى النور بصفتي امرأة أخرى.
امرأة من دون سجل إجرامي
ولم تكن في أي سجن من قبل.
ميساء
نعم أنا ميساء.
وجدتُ سيارة أجرة بانتظاري، فصعدتُ، وحالما انطلقتْ السيارة، فتحتُ قائمة الأسماء بالهاتف:
ـ هلو مديحة، ميساء معكِ.
ـ ميساء!
ـ رفيقتكِ القديمة... وخفضتُ صوتي:
ـ لست إنعام.
ـ مبارك حبيبتي.
ـ سأكون عندك بعد دقائق.
ـ أنا في انتظارك.
قدّمت العنوان المدون في قصاصة ورق للسائق، وانطلقت السيارة بي إلى بيت مديحة.
أدركتُ أن النساء اللائي يخرجن من معركة الزمن، والصراع مع الحياة بآثار وجروح نفسية وخسائر، ويكملن حياتهن مبتسمات متحدّيات كل المنغصات، ويطردن ليل ضعفهن بفتيل شمعة... هنّ نساء النور، مهما كانت صفتهن أو مهنتهن.
وصلتُ إلى قناعة مفادها أن مهنتنا – إن كان يصحّ – أن أطلق عليها مصطلح مهنة، مثلها مثل أي منصب سياسي، أمرأو وضع، تقرّره مصلحة الغالب الذي بيده رقعة الشطرنج ليحرّك أحجاره بمهارة وكيد، حسب ما تعود عليه بالنفع الخاص.
هيّا يا ميساء لننطلق من جديد إلى حياة أخرى.
***
ذكرى لعيبي - ألمانيا