نصوص أدبية
ناجي ظاهر: هُوّة زقفونة
منذ استمع إلى اسمها أيام كان طفلًا صغيًرا مهجرًا ابن مهجر، حتى بلغ أواسط الستينيات من عمره، وهو يفكّر فيها، وكان كلّما سمع اسمها أصابته رعدة وعاودته أمنية الوصول إليها. كما كان كلّما سمع كلمة ذكّرته بها يرنو إلى البعيد البعيد ويشدّ على قبضة يده قائلًا: سأصل إليها ذات يوم. وقد بقيت أيامه تجري على هذا النحو إلى أن زاره ملك الموت، أو خُيّل إليه أنه زاره، في إحدى الليالي، ونادى عليها.. فهتف من أعماق نفسه مناديًا إياها: زقفونة. فردّد الصدى: زقفونة. عندها فقط، فهم أنه لم يعد أمامه متسع من الوقت، وأن عليه أن يتوجّه صوبها وأن يدخل إلى ربوعها الحالمة. زقفونته كانت مدينة الحلم الجميل، كانت أشبه ما تكون بفرس ترفع أذنيها وتنطلق انطلاقة سهم نحو هدف محدّد.. هو وحده مَن يعرفه..
في تلك الليلة نام ولم ينم، قضى الليلة بين نوم ويقظة.. بعد غفوة قصيرة، دهمته قبل صياح الديك.. استيقظ. توجّه إلى أقصى مدينته. توقف هناك. بعد قليل جاءت ترانزيت توقّع توقفها بالقرب منه. صعد درجاتها الثلاث. دون أن ينطق بأية كلمة، شعور غريب قاده لأن يأخذ مجلسه هناك.. بالقرب من السائقة العجوز:
-كم عليّ أن أدفع؟ سألها.
-نصف ليرة. ردّت.
انطلقت الترانزيت تطوي الارض طيًا وعندما أطلّت على مدينته الموعودة سألته السائقة العجوز عمّا يريد فعله، فلم يحر جوابًا، فعادت تسأله عمّا إذا كان يريد أن يترجّل في بوابة المدينة. وعندما لاحظت أنه يغرق في غيوم صمته، فسّرت له قائلة إنه إذا ما ترجّل في مدخل المدينة فانه سيجد حاجزًا فاصلًا يشهر فيه الجنود والحراس أسلحتهم في وجهه ويمنعونه من الدخول. أما إذا رافقها إلى الشرق هناك حيث تقوم إحدى ضواحي زقفونة، فإن بإمكانه أن يعود معها إلى المدينة وأن تمكنه بالتالي من الدخول إليها. هزّ رأسه موافقًا على مرافقتها وانطلقت السيارة تشقّ الليل.
عندما أطلّت على مشارف الضاحية المقصودة لوت اتجاهها في طريق العودة، وحينما رأت السائقة العجوز علامات التساؤل تفترش وجهه، طمأنته قائلة ستدخل المدينة.. يعني ستدخلها. غير أن ما حدث اختلف فقد توقفت الترانزيت بعد سفرتها المديدة عند أحد الاسوار العالية، وغمزت له السائقة موحية.. لقد وصلنا. نزل من السيّارة ووضع يده على جيبه. استخرج نصف ليرة ونفحها إياه. تناولته ووضعته في جيب فستانها، وأولاها ظهرها. قبل أن يختفي وجدها تركض وراءه وهي تطالبه بالنصف الثاني. فَهِمَ من هتافها له أن تهريبها له عبر الضاحية يستحق نصف ليرة إضافية، غير أنه لم يتوقف.. هرب منها راكضًا نحو المدينة.
بقي يركض ويركض ويركض، وكان كلّما بحث عن ثغرة يدخل منها إلى زقفوتنه، ارتفعت الاسوار. أخيرًا دخل إلى باحة بيت اعتقد أنها ستدخله إلى المدينة، ما إن دخلها حتى ظهر له رجل أقرع مسنّ وخلفه امرأة مسنّة تُحكم ربط منديلها على رأسها. سأله الرجل ماذا تريد؟ أريد أن أدخل المدينة. ضحك الاثنان الرجل وزوجته، مرددين بسخرية أريد أن أدخل المدينة. لماذا تتضاحكان سألهما.. فسألاه، من أين أنت. سألهما وهل هذا مهمًّا؟ عاد الاثنان إلى تضاحكهما، وهما يرددان يبدو أنه من المدينة المتاخمة. غمز له الرجل وزوجته ان الحق بنا. وأخذ الرجل ووراءه زوجته ووراءهما يصعدون سلّمًا عاليًا. كان مركونا على الجدار الفاصل. أخيرًا بلغا قمة الجدار. ابتسم الزوجان، فيما أطل هو على مدينة السحر، الحلم والجمال. كيف أصل إليها؟ الآن ستعرف. تناول الرجل الاقرع المُسنّ حبلًا كان مركونًا هناك. وقال له بهذا الحبل ستصل. لست أول الحالمين. لقد أوصلنا سابقين لك وسوف نوصل لاحقين. أرسل نظرة إلى أسفل الجدار فرأي هناك بقايا عظام، أصابته حالة من الهلع إلا أنه تماسك. وسألهما في محاولة منه للتهرّب: كم تريدان مقابل مساعدتكما هذه؟ نريد بندقتين. ردّت المرأة المُسنّة هذه المرّة وتابعت تقول بندقة لي وأخرى له.. وأشارت إلى زوجها. عندها ابتدأ في النزول من على السلم العالي درجة إثر درجة. ضحك الاثنان.. ألا تريد أن تصل إلى المدينة ذنبك على جنبك. إذا لم يكن بإمكانك دفع بندقة. بإمكاننا التفاوض. اصطنع عدم الاستماع. حتى وصل أسفل السُلّم.
ركض حول السور في محاولة منه لإيجاد ثغرة، وكان كلّما سمع انسياب المياه في الداخل شعر أنه قريب من جنّة أحلامه.. وجنته الموعودة. وكان كلّما اعترضته شجرة أو صخرة تمكّن من تخطيها. كان مصمّمًا على الوصول مهما كلّف الامر وارتفع الثمن. لم يعد في العمر بقدر ما مضى. وعليّ أن أصل حتى لو كان وصولي في اليوم الاخير من عمري.
اندفع بقوة حلمة مقرّرًا أنه لا تراجع، وكان يستمدّ قوّته من قرارٍ شعارُه إما حياة وإما موت، إما أن أصل وإما أن أموت، وكان كلّما تقدم يشعر أنه يُضحى أقرب مِن حلمه. ألم يقولوا مَن سار على الدرب وصل؟ وأنت سوف تصل أيها العجوز. ستصل.. عليك فقط أن تواصل.. وتابع الركض. إلى أن شعر بقدمه تتوقّف على أرض تميد. أرسل نظره إلى البعيد ليرى مدينته الموعودة قريبة منه.. لكن بينه وبينها للأسف.. هوة سحيقة.. لا قرار لها.
***
قصة: ناجي ظاهر
....................
* زقفونه..؟
لأبي العلاء المعرى بيت مشهور يصعب فهمه بغير شرح . يقول:
ستِّ إن أعياك أمري فاحمليني زقفونه
وحين سئل المعري وما زقفونه يا أبا العلاء قال:
أن يحمل الإنسان إنسانًا آخر خلفًا لخلف . أو ظهرًا لظهر ويمشى . الحامل يمشى إلى الأمام أما المحمول فوجهه إلى الأمام ولكنه يمشى إلى الخلف. .
* زقف: التقط / تاج العروس