نصوص أدبية
قصي الشيخ عسكر: صائد الهاكر
حين يستدعي السيد المدير أحد الموظفين فإن ذلك يدلّ على أمرر جلل أما أن يشكره لخدماته أو يويخه بسبب إهمال ما، وفي أفضل الحالات ـوهو المألوف، أن يستدعي سيادته رؤوساء الأقسام ليبلغهم معلومات تخص العمل والموظفين بعضها يمكن أن يكون في غاية الكتمان.
أمّا أن يقع الاختيار عليّ وحدي فذلك يشير إلى أمر جلل!
وخلال اجتيازي الممر بكل هدوء وثقة شأني كلما استدعيت للقاء مسؤول أعلى تواردت في ذهني احتمالات كثيرة تأرجحت بين السرية والاستحسان وربما العقوبة أو التنبيه لخطأ ارتكبته عن غير قصد.
لو أخطأت أي خطأ مهما كان تافها لتعرض المركز الذي أعمل فيه إلى هزة حقيقية.أضع في بالي:
الاقتصاد.. ضرر مالي
سمعة المؤسسة
الصحافة والسياسة
ليقل ذلك الآخرون على وفق مايشاؤون
لكنّ الذي زادني ارتياحا أني رأيت السيد المدير ينهض بقامته المديدة ويمد يده إليّ مصافحا وهو يقول:
مرحبا بك أيها العبقريّ
شكرا يا سيدي أظنني أعمل بإتقان فأنا منتبه طول عمري ولن أغفل مادمت أتمتع بخاصية الحذر والانتباه
تقول والدتي إنني كنت حذرا ومنتبها منذ الصغر.
أشكّ في كلّ شئ حتى أتحقق من صحته
ربما يعود الفضل في شحذ ذهني وتوقده في هذه الدرجة الإيجاية إلى سلوك أبي مع أمي
كان يعاقبها بعنف
يضربها بقسوة
إلى درجة أني تحاملت عليه
لا أقول أكرهه أو أحقد عليه
لعلّ شخصا بمواصفاتي لا يحقد ويكره
فليس هناك من عدوّ لي سوى الهاكر
ويوم مات وجدت راحة كأنّ شيئا ثقيلا انزاح عن صدري
وأنني وإن أكن ولدت في الغرب فإنّي أحيانا أعدّ نفسي لاجئا في أي مكان في العالم
منفيا باختياري
لقد أصبح كل ذلك ماضيا
اظنني استفدت منه خاصية الانتباه
لم أخش أحدا
ولا أخاف قط
لكنني
أحذر الآخرين وأتربص بهم
لا أدري لم تذكرت أمي وعنف أبي اليوم بعد أن أخبرني السيد المدير أنني أقدر أن أتابع عملي من البيت ولا حاجة لحضوري في مبنى المديرية
في الوقت نفسه، وبعد أن خرجت من المؤسسة ي إلى منزلي الذي سوف يصبج برجا أراقب منه العالم كان يسبقني يومٌ مختلفٌ يطبع ذاكرتي بشتاته.
ساعتها
فررت فزعا من البيت
رأيت والدي ينهال لسبب ما على أمي ضربا
كان قاسيا الى حد ما
غاضبا بشكل هستيري مثل إله قديم يتجمع الدم في وجهه والشّرر بين عينيه
فقد عقله تماما ولا سبيل إلى إبقافه
ولم يكن بامكاني فعل أيّ شئ
عاجز
على الرغم من أنه لم يضربني قط
أو
يهددني
بل
يدللني
يشتري لي كثيرا من الهدايا وقبل هزيمته الأخيرة جهل يعلمني غنّ الملاكمة
مع ذلك، أشعر بالنفور منه، حالما يدير وجهه أنظر إليه بحنق.
.وأظنّه يرى والدتي العدوّ الوحيد له في العالم..على الأقلّ حسب تصوري.
لم يكن أمامي حلّ آخر سوى أن أنهزم
أفرّ من البيت.
وقد قادتني قدماي من دون أن أعي إلى مسطبة ما في المنتزه القريب
وضعت رأسي بين يديّ ورحت أفكر
منذ ذلك اليوم اعتدت أن ألجأ إلى المكان نفسه كلما اندلع شحار بين أبي وأمّي
من يصدق انني لم أكن أبكي
حاولت
استعصت الدموع
تمرّدت
مراراً فأحفقتُ
توقّد ذهني
فأدركت أنّي لا أقدر على البكاء لكني يمكن أن أؤدي أعمالا مذهلة.
لديّ حالة غير عاديّةٍ من الاحتراس
كان ذلك أوّل اكتشاف لي عن نفسي
ولم أستفق من شرودي إلا حين أحسست بكفّ تهبط على كتفي .
يد مفعمة بالدفء
ناعمة
فوقع بصري على أمي التي بدت بوجه مزرق من كدمات واحمرار
Mumلماذا لا تشتكين عليه
عيب يا ابني نحن أصولنا شرقية ومازلنا نحتفظ ببعض تقاليدنا
هذا إنسان متوحش متوحش جدا
لا تتكلّم عليه بهذه الصورة إنّه أبوك.
راودتني فكرة أن أخبر معلمتي في المدرسة بما حدث ولعلّ أمي قرأت هواجسي فحذّرتني.كانت تخشى من أن تتبناني البلدية وتبعدني عن البيت أوتقوم الشرطة باعتقال أبي الأمر الذي لا ترغب فيه قط.
لم أكن خائفا وأنا أعود معها إلى البيت
أمّا بعد سنوات فإنّي أبدو سعيدا جدا حين استقبلت الخبر
شخص جديد يجد نفسه يصبح أكثر حرية بالعزلة
مثل متصوف قديم
أو
نبي يرمي نفسه في كهف فيرى الأفق الواسع والدنيا أمامه
.شغلي نفسه الذي يمتاز بخاصيّة فريدة لا يتطلب مني أن أذهب مثل بقية الموظفين إلى العمل.يمكن أن أكون في البيت وأراقب الكومبيوتر.أحمي المديرية التي أعمل فيها، من المتطفلين والمزعجين والسراق، ومن بحاولون أن يبتزوا الزبائن، أو يتحايلوا على البنوك.
وقد وجدت في العمل داخل المنزل راحة لا متناهية..أجلس في شقتي المتواضعة وأراقب..أصطاد الهاكرز والطفيليين عصابات السرقة.
راق لي العمل والجلوس في البيت
وتحولت إلى كتلة من النشاط.
أظنني تحررت من الكآبة تماما.
وتحولت شقتي إلى نواة للعالم
بالضبط مثل النواة التي تتمركز وسط الشمس ..
النواة في عمق الأرض وحبة الجوز وكلّ شئ مدور
وسوف يصبح لمكونات شقتي طعم آخر:
المرحاض
المغسلة والمطبخ
فراش النوم
أجلس صباحا، أفكر وأعدّ نفسي للعمل.
بدلا من أغادر منزلي في أثناء تساقط الثلوج أو الحرّ فترة الصيف، وقد أُصْبِحُ عرضة لهواء المدينة الملوّث والزحام والفوضى، وأوبئة تفاجئ من حيث لا نعلم أكون بدأت عملي الساعة الثامنة بذهن صاف ومزاج رائق.
راتبي الشهري يدخل في حسابي عبر النت..أطالع باهتمام الفاكهة والخضار واللحوم والألبان على الصفحات الألكترونية فيصل إلي ( الدلفري) وقتما أشاء.
كلّ شئ يصلني إلى البيت حتى اكثر الفنون متعة مسرح وسينما انتقلت إليّ في البيت.
أما صلتي بأصدقائي فكانت عبر الهاتف ثمّ انقطعت تماما.
أكتشفت أنّي يمكن أن أعيش من دون صداقات.
ولا يشكّ أحد في أن العمل من المنزل منحني الراحة والأمان في الوقت نفسه جعلني أراقب العالم من دون أن يشعر بي.
ماعدا أمرا مهما لم أكن لأستغني عنه.
هو الذي يلتهب بمشاعري وأحاسيسي.
الحب
المرأة
العاطفة التي قادتني إلى الآنسة داليا..
في أوقات الفراغ
وليست هي المصادفة
عثرت على أحد المحتالين يحاول أن ينصب على فتاة فاخترقت بطريقة احترافية رقمه السريّ
ثمّ كشفت تلاعبه أمامها:
إنّها تندفع عن غير وعي
أراقب بفضول
تعرف الكثير من أسرار الشبكة فتظنّ حسابها محصّنا من الاختراق
أستدعي بعض خصوصيتها
شابة في العشرين من عمرها
داليا النسور
اسم الأب جميل النسور
عشرون سنة
موظفة في شركة نقليات
تتقدم بطلب قرض :ثلاثبن ألف باوند
فجأة
مثل الفايروس فايروس اللاب توب يزحف هاكر عبر وسيط وهميمن بنك آخر
يمكنه ولا أشك في قدرته فهو محترف وذو سطوة أن يضيف مايشاء من الأصفار يمين المبلغ فيحولها من دون أن تعي عبر حساب الوسيط إلى حسابه مبلغا بالملايين ّ، فتبدو الآنسة داليا باليقين القاطع مختلسة من دائرة النقليات المبلغ الهائل..
الكوسج يناور مناورة ذكية
كنت أجد وأنا أطارد الهاكر الكوسج صعوبة في اقتناص الروس والألمان..يتعبونني حقا..قأحبط محاولاتهم قبل أن يخترقوا حسابات دائرتي
شرطي الكتروني حاد الذكاء
أمامي الآن حالة خاصة ليست ضمن عملي
فضولي في البحث ساعات تفرغي جعلني أعثر على ضحية جديدة لهاكر محترف
لا أنكر أن اسم الضحيّة لفت نظري.لايهمّ من أيّ بلد الشرق واسع.
أتابع الهاكر فأراه يقترب من الرقم المليون
خطوة واحدة ويحقق النجاح
هل يعنيني الأمر
إنها فتاة شابة مفعمة بطموح وأحلام واسعة فهل بمقدوري أن أصبح مثل زائر السفاري يجلس في سيارته ويراقب بشغف ولذة حيوانا مفترسا ينقض على غزال فينشب فيه مخالبه وأنيابه فلايمدّ يده إلى سلاح جنبه في السيارة فيطلق النار؟
عتدئذٍ تتحرك أناملي
أرسم دائرة حمراء
وأزرع فايروسا حول الهاكر
أراوغه
ثمّ
أدخل ببعض التفاصيل معها
ولعلها عدتني بطلا
فارسا من فرسانا القرون الوسطى بعثته السماء لنجاتها
كتبت لها إنّ الأمر عاديّ ولايستحق كل هذا الثناء
ونصحتها ألا تقترض مبلغا كبيرا من دائرتها عبر النت فهناك هاكر يتربص
فأعجبت أكثر بتواضعي
وبدأنا نتراسل
فاتحة مريحة لبداية صداقة عوّضتني عن أصدقائي
وبمرور الوقت
حدَّثتني عن نفسها وحدثتها عن بعض خصوصياتي
كلّ ليلة قبل أن أنام أكتب لها تقول :إنها لا تقدر أن تنام إن لم أكتب لها
اندفاع
تعاطف
وشيئا فشيئا
تحولت العادة إلى حب
حب جارف بيننا
هي المخلوق الوحيد الذي أحدثه فكلّ يومي أقضيه في متابعة الكومبيوتر .
ألغيت الخارج من ذهني
وأقصر عمل أقوم به أفتح نوافذ البيت للتهوية
أو
ألقي نظرة على الشارع العام من نافذة غرفة الاستقبال
أصبحت محور العالم
كلّ ما في الخارح يأتي إلى حيث أكون
هل أصبحت مغرورا إلى درجة لا تطاق
مازلت أشعر بالزهو قليلا
لا بدّ أن أشكر التطور الهائل المخيف الذي جعلني أعود إلى البيت
قصة الهرب من المنزل إلى المنتزه أعدتها مرات كثيرة
استنسختها
ببعضٍ من التواضع هي التي استنسخت نفسها بشكل جديد:
آخرها أني خرجت بعد شجار حام بين أمي وأبي
لا حاجة لأن يكون هناك سبب
أحيانا يختلق أحدهما عذراً تافها للشجار وتكون أمي هي الخاسرة نهاية كلّ صدام... وجه متورم بكدمات على الخدين زرقاء أما أنا فأفتح الباب وأهرب إلى المنتزه القريب
ذلك اليوم كما أعود الآن إلى المنزل وحدي جلست على المسطبة ذاتها وضعت رأسي بين يديّ، وحاولت البكاء
كل مرة تتمرد عيني علي الدموع
هل لا أستطيع البكاء إلى الأبد.
وماذا عني حين كنت طفلا
أمي تفاخر بي المدرسة والجيران تدّعي وهي صادقة أنّي في الطفولة لم أكن أتبوّل في الفراش شأن الأطفال الآخرين أمّا عن بكائي فلا تذكر شيئا
أحسست بيد تهبط على كتفي فأزحت راحتيّ عن عينيّ ورفعت نظري فإذا هو أبي:
هل تأتي معي
رحت أعضّ أسناني من الحنق و وددت لو أقدر على أن أقذف بوجهه سيلا من التقريع واللوم:
لماذا تضرب أمي
أطلق ضحكة مكبوتة أعقبتها ابتسامة صفراء مثل زهور النرجس في المنتزه التي بدأت تتلاشى منذ بدأ الدفء يدبّ:
لأنني أحبها َ
فنظرت إليه بأسف
***
رواية جيب
قصي الشيخ عسكر