نصوص أدبية
عبد الرزاق اسطيطو: أحلام منذورة للرحيل
"أي تطابق بين أحداث القصة وشخصياتها و ما جرى ويجري بالواقع هو من قبيل الصدفة وإبداع التخييل الذي يجعل الخيال واقعا والواقع خيالا"
كنا مشغولين بترتيبات جنازتها بالرغم من نفورنا من أفعالها وكلامها، فقد كانت امرأة بخيلة شحيحة متسلطة لا يسلم أحد من شرها وجبروتها، وكانت عيونها الجاحظة كعيون النسر، وملامحها القاسية المنفرة تجعل حتى قطط الدرب تتجنبها وتفسح لها الطريق مخافة إذايتها …كان همها الوحيد في الدنيا هو جمع المال بكل السبل لشراء المنازل وكرائها للموظفين الجدد...لا يطرق بابها ضيف ولا زائر ولا متسول.. وحتى صلتها بأقاربها مبنية على الحقد والقيل والقال والصراع حول الإرث وما تركه الأجداد والآباء والإخوة بعد رحيلهم...كيف ماتت؟ هذا هو السؤال الذي سألتنا الشرطة عنه بعد حضورها...شرح الأطباء جثتها على وجه السرعة وتأكد المحقق من صدق روايتنا بأنها ماتت بسكتة قلبية فأطلق سراحنا...حضر الأهل وبعض الجيران وجاء أخوها من أقصى الدنيا، ولم يعرف أحد كيف صار موظفا ساميا بعد أن كان موظفا بسيطا في إحدى الجماعات وكيف جمع ما بين المال والسلطة في ظرف وجيز، وظل ذلك سرا لا يعلمه إلا الله...وقف يتلقى العزاء ببرودة الثلج وبتعال واضح وتنكر لطفولته وشبابه وعلاقته بأصدقائه وجيرانه في الحي..فقد تحول من طفل جميل مؤدب وشاب محبوب إلى عابد للدرهم وعاشق للأرقام والصفقات والسهرات الليلية... كيف يغير المال البشر؟ هذا ما وشوشت به جارتنا السعدية للجيران وهي تعزيه، كيف يحول كرسي السلطة الإنسان ويجعله يتنكر لأصله وفصله ذاك هو الحوار والكلام الذي كان يدور بين المعزين في سرية تامة...وصل أبناؤها من فرنسا عند الفجر ونصبوا لأمهم خيمة العزاء وسط الشارع... وانتشرت رائحة الموت في أرجاء البيت والدرب والحي... وبعد تلاوة القرآن وترديد الأدعية ونشر الموائد حمل النعش في سيارة الموتى، وهرول الجميع بها في صمت تحت زخات المطر قاصدين المقبرة خوفا ربما من أن تعود الروح إليها من جديد فتفسد عليهم حياتهم كما كانت تفسدها من قبل بتلصصها عليهم ونقل الكلام من حي لحي ومن دار لدار وخلق المشاكل والفتن والحروب والأحقاد المؤدية أحيانا إلى العراك والطلاق والخصومة...وفي جو بارد لا يسمع فيه بعد أن توقفت الأمطار غير طقطقة الملاعق في قصعة الكسكس وتنفس الصعداء من غيابها عن المدينة بأكملها.. وفي غمرة انشغال الكل بالأكل أسر لي أخوها الموظف السامي السي أحمد بأنه انتهى للتو من تجهيز فيلا رائعة وسط غابة ساحرة تطل على البحر، وواصل حديثه بصوت خفيض لايكاد يسمع قائلا بأنه أثتها على ذوق خطيبته أمل التي سوف يعقد قرانه عليها في فصل الصيف، وأطال الوصف والمدح في فيلته وخطيبته الغنية الشابة الجميلة ذات القوام الممشوق والعيون العسلية التي لم يخلق مثلها بعد وكيف تعرف عليها وعلى والدها.. وكيف ضحكت له الحياة بعد عسر وشقاء وفتحت له ذراعيها بحنو وحب ولهفة وقالت له هيت لك..في الغد وكانت الأمطار الباردة مازالت تهطل بقوة والزقاق فارغ من المارة ودعني على أمل اللقاء به في فرصة غير هذه الفرصة الممزوجة بالحزن والرحيل ورائحة الموت، ودعاني لحضور حفل زفافه في فصل الصيف المقبل تاركا لي بطاقة عليها رقم هاتفه وأقل سيارته الفاخرة وغاب بين دروب الحياة وشوارعها الملتوية ليعود من حيث أتى كلحظة شاردة.. مر على جنازة أخته عايشة شهر بالتمام والكمال ليصلني عبر مكالمة مقتضبة من أخيه الأصغر هشام خبر وفاته...ونزل الخبر على أفراد عائلته كالصاعقة، وتساءل الكل باستغراب وتعجب كيف يتسلل الموت إلى جسد مفتول العضلات لا يشكو علة ولا سقما كيف يهد الموت قامة شامخة كأشجار النخيل دفعة واحدة...؟ دب الرعب في نفوس البقية منهم وبعضهم في دخيلة نفسه يردد الدور على من في الغد أو بعد الغد؟ !...قبيل آذان الظهر وصلنا إلى الغابة التى وصفها لي في جنازة أخته ومع آذان المغرب كان الحفارون يغطون جثتته بالتراب تحت شجرة باسقة مترامية الأغصان، وقد بلل المطر أغصانها وأوراقها فجعلها كفتاة حزينة تذرف الدموع على قبر حبيب عشقته لدرجة الجنون.. في الصباح الباكر ونحن نغادر فيلته وكانت بحق تحفة فنية نادرة الوجود أبدعتها أنامل فنان ماهر تطل شرفاتها الواسعة ونوافذها المقوسة على بحر هادر، تحفها من كل الجوانب أشجار غابة البلوط، وزادها جمالا أثاثها الفاخر الذي كما قال المرحوم بأنه اختاره بذوق رفيع يليق بمقامه ومقام أسرته وأسرة خطيبته.. وقبل أن نضع حقائبنا بصندوق السيارة استعدادا للعودة علق أحد إخوته على جدار الفيلا بالقرب من إحدى النوافذ المغلقة لوحة صغيرة بلون أبيض ناصع دون عليها بقلم أسود وبخط بارز للعيان رقم هاتفه وعبارة مكتوب عليها" فيلا للبيع" وأغلق الباب خلفه بإحكام على أحلام منذورة للرحيل...
***
قصة قصيرة
عبد الرزاق اسطيطو