شهادات ومذكرات
علي حسين: مئوية فرانز فانون في زمن "معذبو الارض"

في الثانية والنصف من بعد ظهر يوم الثاني عشر من تشرين الثاني عام 1961، قرّر عدد من الجنود نقل جثمان رجل توفّي قبل ستة أيام بمرض سرطان الدم عبر الحدود الجزائرية التونسية، كانت تحرسهم مجموعة من قوات (جبهة التحرير الجزائرية)، حيث تم دفنه بهدوء.
كان فرانز فانون المولود في العشرين من تموز عام 1925 في إحدى جزر المارتينيك التابعة لفرنسا قد توفي في إحدى مستشفيات واشنطن، فتقرر نقله إلى تونس، ومن بعدها إلى الجزائر التي حارب من أجل استقلالها.
فرانز فانون، هو الابن الخامس لأسرة كاريبية أفريقية من ثمانية أشخاص، مات اثنان منهم في الصغر، بما في ذلك أخته غابرييل التي كان فرانز قريباً جداً منها، والده فيليكس كازيمير فانون، من أصل أفريقي، والأمّ من أصول فرنسية، كان الأب موظفاً في الجمارك، بينما افتتحت الأمّ متجراً صغيراً للبضائع، وقد تمكنت العائلة من أن تُدخل أبناءها في المدرسة الفرنسية الخاصة، هناك سيعجب الطالب فرانز بالمعلم الشاعر (إيميه سيزير) الذي كان واحداً من أهمّ الاصوات الشعرية التي ندّدت بالعنصرية ضد السود.
في تلك السنوات يتفرغ فرانز فانون للقراءة، منتقلاً من أعمال لامارتين، إلى أعمال جان جوك روسو، تسحره رواية البؤساء لفكتور هيجو، فيكتب عنها دراسة قصيرة ينشرها في مجلة (المدرسة)، عندما بلغ الثامنة عشرة من عمره يغادر جزر المارتينيك لينضم إلى القوات الفرنسية الحرة. في عام 1944 أصيب بجروح طفيفة، فتمّ نقله إلى نورماندي، عام 1945 يعود إلى جزر المارتينيك، بناء على طلب معلمه إيميه سيزير الذي قرر أن يخوض الانتخابات ضمن صفوف الحزب الشيوعي، يكمل فانون دراسته، بعدها يسافر إلى فرنسا لدراسة الطبّ النفسي، وفي نفس الوقت كان منشغلاً بدراسة الفلسفة، حيث قرأ كيركغارد وهيغل ولينين وهايدغر وسارتر، واهتم بشكل خاص بماركس الذي وجد في كتاباته إصراراً على أن الثورة ليس في وسعها أن تستمد أشعارها من الماضي، وإنما من المستقبل وحده. وسيعلق فانون على عبارة ماركس فيكتب مقالاً يقول فيه: «أن أولئك الرجال وحدهم من الزنوج والبيض الذين يرفضون أن يسمحوا لأنفسهم بالتقوقع داخل برج الماضي المتجسد، هم الذين لا يستعبدون»، وأيضاً كان يتابع حركات التحرر في العالم وهي تخوض معركتها من أجل الاستقلال، وأثارت اهتمامه قضية المستعمرات الفرنسية في أفريقيا، وكيف أن الاستعمار يخوض حرباً لا إنسانية غايتها طمس الهوية الحقيقية لهذه الشعوب، وكانت حصيلة كل هذه المواقف والقراءة والانتماء إلى اليسار الفرنسي هي كتابه الأول، (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء)، الذي لم يجد له في البداية ناشراً، فأكثر دور النشر اعتبرت مقالاته مجرد مقالات منفعلة، لكنّ الحظ يسعفه أخيراً بالعثور على ناشرٍ معادٍ للاستعمار الفرنسي، ليصدر الكتاب عام 1952.قبل هذا التاريخ كان فرانز فانون يكرس نشاطه لمبدأ الاتحاد بين الرجل الابيض والرجل الأسود، لكنه سيتخلى عن أحلامه في الاتحاد عندما يدرك أن الرجل الأبيض يعني بالاتحاد «أن تصبح مثلي»، وفي المقابل فأن الرجل الأبيض مقتنع بأن الرجل الأسود يستحيل أن يصبح مثله، كما يستحيل أن يصبح على قدر مماثل في المستوى، وبعد ما يقارب العشرين عاماً سيكتب الروائي جيمس بالدوين: «أنّه ليس ثمة سبب يدعوك إلى أن تحاول أن تصبح كالرجل الأبيض، كما أنّه ليس ثمة أساس لافتراضهم الوقح بأن عليهم أوّلاً أن يقبلوك» . كان كتاب (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء)، في الأصل أطروحة دكتوراه قدّمها فانون إلى جامعة ليون في فرنسا بعنوان (مقال عن فكّ ارتباط السود)، وفيها يرد فانون على العنصرية التي عانى منها أثناء دراسته للطب النفسي والطب في جامعة ليون، لكن الاطروحة ستُرفض من قبل الجامعة، فيقرر أن يطبعها في كتاب، رفضت معظم دور النشر طباعته إلى أن تبناه «فرانسيس جانسون» والذي كان يعمل آنذاك مديراً لتحرير مجلة الأزمنة الحديثة التي يصدرها جان بول سارتر، وفي الوقت نفسه رئيساً لجمعية تدعم استقلال الجزائر، وقد اختار جانسون عنوان (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء) لكتاب فانون، وكتب المقدمة له. والكتاب يسلط الضوء على حيرة فرانز فانون، فقد كان أمامه ثمة طريق، فإما أن يعمل بكل الوسائل على أن يصبح رجلاً أبيضَ ينتمي إلى المجتمع الفرنسي، أو التأكيد على تفوق القيم الزنجية والرفض المطلق للقيم البيضاء. وصف فانون في الكتاب المعاملة غير العادلة للسود في فرنسا وكيفية رفضهم البيض. كان لدى السود أيضاً شعور بالدونية عند مواجهة البيض. اعتقد فانون أنّه على الرغم من أنّهم يستطيعون التحدث بالفرنسية، إلّا أنّهم لا يستطيعون الاندماج الكامل في بيئتهم البيضاء.
بعد اندلاع الثورة الجزائرية في نوفمبر عام 1954، التحق فانون بجبهة التحرير الوطنية، وقام برحلات مكثفة عبر الجزائر، خاصة في منطقة القبائل، لدراسة الحياة الثقافية والنفسية للجزائريين، وبسبب نشاطاته المؤيّدة لاستقلال الجزائر، قررت السلطات الفرنسية طرده من الجزائر ليستقر في تونس حيث ساهم بالكتابة بانتظام خلال سنوات 1957-1960 في جريدة (المجاهد)، الناطقة آنذاك باسم جبهة التحرير الوطني الجزائرية. في الرسالة التي وجهها فانون إلى السلطات الفرنسية بعد رحيله عن الجزائر يكتب عن الأوضاع في هذه البلاد: «لما يقرب من ثلاث سنوات وضعتُ نفسي وبشكل كامل في خدمة هذا البلد وسكانه. لم أوفر جهداً ولا اهتماماً. ولكن ما جدوى الحماس والتفاني إن كان الواقع اليومي مجرّد نسيج من الأكاذيب والخسة وازدراء الإنسان؟ وإن كان الطبّ النفسي هو الأداة الطبية التي تهدف إلى تمكين الإنسان من تجاوز غربته في البيئة المحيطة به، فعليّ أن أوكد أن العربي غريب بشكل دائم في بلاده، يعيش في حالة من الاغتراب المطلق. لشهور عدة كان ضميري موقعاً لسجال لا يغتفر، انتهى بالعزم على ألّا أيأس من الإنسان، أي ألّا أفقد الأمل في نفسي"
كتب فرانز فانون عدداً من الكتب أشهرها (بشرة سوداء أقنعة بيضاء)، و (العام الخامس للثورة الجزائرية) و (معذبو الأرض)، كان آخرها كتاب (لأجل الثورة الأفريقية) الذي نُشر بعد وفاته.
كان فرانز فانون بعد أن علم بإصابته بمرض سرطان الدم قد طلب من صديقه فرانسيس جانسون أن يقنع جان بول سارتر في أن يكتب مقدمة لكتابه (معذّبو الأرض)، وقد تم عقد لقاء بين سارتر وفانون في روما بعيداً عن أعين المخابرات الفرنسية. ويذكر فانون في ما بعد أن سارتر لم يتوقف عن قراءة الكتاب: «كان سارتر في تلك اللحظات عبارة عن طائرة انطلقت في الأجواء العالية. انشغل بكتابة المقدمة طوال الليل فيما كانت سيمون دي بوفوار تطبع ما يكتبه سارتر، واستمرت على هذه الحال إلى أن طلع الفجر». كتب سارتر 120 صفحة بأكملها دفعة واحدة. وتذكر سيمون دي بوفوار أن سارتر انجذب إلى فرانز فانون وأحب شخصيته، حتى أن جانسون يعلق أنّه لم ير سارتر مفتوناً بأحد مثلما فتن بفانون.
يكتب سارتر في تقديمه لكتاب فرانز فانون (معذبو الأرض)- نرجمة سامي الدروبي وجمال الاتاسي - : " افتحوا أيها الأوربيون هذا الكتاب وادخلوا فيه، فبعد بضع خطى تخطونها في الظلام، سترون أجانب مجتمعين حول نار، فاقتربوا منهم واصغوا: إنّهم يناقشون المصير الذي يرصدونه لمواقعكم التجارية وللمرتزقة الذين يدافعون عنها، وقد يرونكم، ولكنهم سيستمرون في التحدث في ما بينهم، سوف تشعرون وأنتم على مسافة محترمة، لأنكم متخفّون في الظلام، ترتعدون. وفي هذه الظلمات التي سينبثق منها فجر جديد ستكونون أنتم الأشباح" .
تبنّى سارتر حجج فانون عن النضال، ومنها أن الثورة ضدّ المستعمر يجب أن تكون عنيفة، لا لأن العنف يجب أن يكون هدفاً، بل لأنه يساعد الشعوب المستعمرة على التخلص من الاضطهاد وصياغة هوية جديدة، كان فانون يرى في العنف عاملاً أساسياً في التغيير دون أن يمجده. وكان سارتر يرى في العنف فعلاً نيتشوياً من أفعال إعادة صياغة الذات، وقد قارنه بوحشية المستعمر.
مارس سارتر تأثيراً كبيراً على فرانز فانون منذ أن قرأ مقالته (أورفيوس الأسود) التي كتبها سارتر كمقدمة لكتاب الشاعر السنغالي الشهير (ليوبولد سنغور)، وفيها يؤكد أن الكاتب الاوربي لم يعد بقادر على تقييم العالم والسيطرة عليه: " ينظر هؤلاء الرجال السود إلينا، وترتد نظرتنا إلى أعيننا، فتضيء المشاعل السوداء بدورها العالم، وليست رؤوسنا البيضاء أكثر من فوانيس صينية تتأرجح في مهب الريح" . . اكتشف فرانز فانون الوجوديّة أثناء دراسته الجامعية، وبتأثير من الكاتب الروائي الأمريكي (ريتشارد رايت) الذي كان يسلط الضوء في رواياته على المآسي التي يعاني منها السود بسبب التفرقة العنصرية، وكان فانون قد قرأ رواية رايت (ابن البلد) المنشورة عام 1940 التي يجسد فيها حياة صبي أسود يشعر في كل لحظة أن المجتمع يتأمر ضده بهدف القضاء عليه نهائياً، وليس هناك من دافع للسلوك العدائي ضد الصبي سوى لونه الأسود.
كان فرانز فانون يحاول أن يقتفي أثر سارتر، لكنه بالمقابل أراد أن يتعالى على فكرته عن الروح الزنجية، وكان يرى أنّه يواجه عالماً عبثياً لا يقيم وزناً لشهادته العلمية وأفكاره، بقدر ما يقيم وزناً للون بشرته، تأثر فانون بفكرة الحرية عند سارتر، ونجده في كتابه (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء)، وجوديّاً خالصاً يستكشف: «التجربة الحية لشعب أسود تَلبّس بدور الآخر في عالم يهيمن عليه البيض»( ).
تكمن أهمية تعاون سارتر وفانون في إدراكهما للعنف الهائل والألم الذي يلحقه الأقوياء اقتصادياً وسياسياً بالأقل منهم حظاً، وعلى وجه الخصوص، المستعمَرين. جادل سارتر والبير كامو وسيمون دي بوفوار في كتاباتهم أن المواطنين الفرنسيين الذين اختاروا الاختباء في منازلهم وحماية عائلاتهم بدلاً من الانخراط في أعمال مقاومة عنيفة تجاه النازيين، لم يكونوا في الواقع أكثر من النازيين أنفسهم.
إن مقدمة سارتر لكتاب (معذبو الأرض)، لا يزال لها صدى قوي في عصر العولمة، وينبغي أن تدفع أصحاب الامتيازات في أمريكا وأوروبا إلى إجراء جرد دقيق لإنسانيتهم وأخلاقهم تجاه المستضعفين.
يكتب إيميه سيزير في رثاء تلميذه فرانز فانون: «إن كتابه (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء) هو الكتاب الحاسم بشأن العواقب الإنسانية للاستعمار والعنصرية، في حين أن كتابه (معذبو الارض) يعتبر مفتاح إزالة الاستعمار" .
انطلق فانون في تصوره ككاتب للثورة من الإيمان بأن الثورة تحمل إلى النفوس الحرية، ويستطيع المجتمع من خلالها التحرر من الجمود والتخلف، وفي كتابه (معذبو الارض) يحلل سيرورة العنف في النظام الاستعماري، فيعتبر أن العنف يتطور بالأصل من عنف يضرب فيه الاستعمار جماعة أساسية، وهو نفس المعنى الذي كتبه سارتر في مقدمة كتاب البير ميمي (صورة المستعمر): «لقد كان الغزو بالعنف والاستغلال والضغط، من خلال الحضور الوحشي للجيش، لقد رفض المستعمر حقوق الإنسان من خلال التعذيب، الفقر، الحرمان، والأمية. إنّها حالة ما دون إنسانية " .
ستثير سيرة فانون ومواقفه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي يكتب: «إن جميع كتابات فرانز فانون حول الاستعمار تظهر درجة ما من التأثر بأفكار ماركس وسارتر" .
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية