شهادات ومذكرات
طه جزّاع: الفيلسوف المصارع
ولأن المجالس مدارس مثلما يقال، فإن أعظم الدروس، وأبلغ العبارات، وأعمق الحِكَم، وأطرف المواقف والنوادر، حدثت في مجالس الأدب والثقافة التي تحضرها شخصيات متنوعة من وجهاء المجتمع، جلهم من السياسيين والأدباء والصحفيين والفنانين. ولقد كانت مثل هذه المجالس والصالونات والمنتديات الثقافية المعاصرة شائعة إلى حد كبير في بغداد والبلدان العربية خلال عقود النصف الأول من القرن الماضي، ويندر أن نجد سياسياً أو أديباً أو وجيهاً اجتماعياً بارزاً لم يترك بصماته في تلك المجالس، بل وكانت مقصداً للزائرين من كبار الشخصيات الذين يقصدون البلاد للتعرف على وجهائها ومثقفيها للاستماع إليهم ومحاورتهم في مختلف شؤون السياسة والثقافة والأدب والحياة.
ولقد فاتنا من أدب المجالس وحكاياتها الشيء الكثير، لولا كتاب هنا وآخر هناك، ولولا بعض ذكريات منبثة بين كتب التاريخ والسير والذكريات. واذا كانت مجالس الأدب تعقد عادة في صالونات الأدباء العرب أو في بيوتهم مثل صالون عباس محمود العقاد الذي يلتئم كل يوم جمعة في بيته بمصر الجديدة، فإن مجالس الأدب في بغداد كانت تعقد عادة في المقاهي الشعبية إلى جانب البيوت والمقاهي وإدارات الصحف، مثلما يتحدث عنها حفيد الملا عبود الكرخي الكاتب والباحث الراحل حسين حاتم الكرخي في كتابه الشيق «مجالس الأدب في بغداد»، ومن تلك المقاهي: «مقهى سبع المواجهة لوزارة الدفاع القديمة، ومقهى عارف آغا قرب جامع الحيدر خانة، ومقهى الزهاوي في الميدان، ومقهى وهب في محلة البقجة، ومقهى عزاوي الشهيرة، ومقهى المميز ومقهى البيروتي في جانب الكرخ «، وقد سجل لنا الكرخي في جزئين من كتابه الطريف هذا عشرات الحوادث والحكايات التي شهدتها تلك المجالس في سنوات ازدهارها وتأثيرها. غير أن المجلس الثقافي للأب انستاس ماري الكرملي كان على خلاف تلك المجالس يعقد في كنيسة الكرملين، وعلى غرار مجلس العقاد كان يعقد كل يوم جمعة لكن صباحاً لا مساءً حتى الثانية عشرة ظهراً، وهذا هو المجلس الذي عقدت فيه المناظرة التاريخية حول التصوف والجدل حول الحّلاج بين المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون والمحامي البغدادي عباس العزاوي، وهي المناظرة التي طالما تحدث عنها بحماسة واعجاب شديدين في جلساته المحامي الراحل طارق حرب وكتب عن مجرياتها التي شهدها مجلس الكرملي صباح يوم الجمعة 27 نيسان 1945.
في كتابه عن مجالس الأدب في بغداد ينقل لنا الكرخي عن شيخ الصحافة عبد القادر البراك، ما حدث في مجلس «صالون الجمعة» وهو غير مجلس الكرملي الصباحي، انما يعقد أيام الجمع في بيت السياسي محمود صبحي الدفتري، فقد حدث أن زار العراق الفيلسوف والشاعر والوزير التركي رضا توفيق، وهو شخصية غريبة ومتناقضة في التاريخ العثماني، لعبت دوراً تحريضيا فعالاً للإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني لكنه سرعان ما ندم على ذلك بعد مجيء الاتحاديين ومن ثم وصول كمال أتاتورك إلى سدة الحكم في تركيا، وعبر عن خلجات نفسه وعظيم ندمه شعراً، ولأنه من الموقعين على معاهدة سيفر فقد اتهم من المجلس الوطني الذي أقامه اتاتورك في انقرة بالخيانة مما اضطره لمغادرة إسطنبول باتجاه الإسكندرية ومنها إلى مكة المكرمة، ثم استدعي إلى عَّمان ليساعد في تأسيس الامارة الجديدة، امارة شرق الأردن نواة المملكة الأردنية الهاشمية وتوثقت علاقته بعدد من الشخصيات المؤثرة وفي طليعتها شاعر الأردن مصطفى التل الملقب «عرار» نسبة إلى نبتة النرجس البري العاشقة للحرية في فضاء الصحراء. المهم وصل « الفيلسوف» رضا توفيق إلى بغداد عام 1940 وكان من الطبيعي أن يدعوه صديقه الدفتري لزيارة مجلسه الأدبي، ولما كان توفيق فيلسوفاً وقد عرف بذلك أكثر من كونه سياسياً أو وزيراً أو شاعراً فقد كان من المتوقع أن يخوض مناظرة فكرية أو يطرح قضية مهمة للنقاش مع الحضور، لكن أي من هذا الأمر لم يحدث، انما الذي حدث أنه أعرب عن « استعداده للمصارعة مع بعض المصارعين في العراق»! . قال له الدفتري صاحب الصالون الذي يحضره عادة جمع من السياسيين والوجهاء والمثقفين والأدباء: ليس في العراق من الفلاسفة مَن يصلح لمصارعتك إلَّا جميل صدقي الزهاوي. يواصل الكرخي نقل حديث البراك وهو يقول: فضج المجلس بالضحك لأنَّ الزهاوي – كما لا يخفى – كان مصاباً بالشلل!. ولكي تكتمل صورة هذا الفيلسوف المصارع، نشير إلى ما كتبه مير بصري في مقاله «مجلس الدفتري وطرائف الحياة الأدبية والسياسية في العراق الملكي» من أن رضا توفيق بقي أشهراً في ضيافة الحكومة العراقية: «وكان مولعاً بكثرة الكلام لا ينقطع سبيل حديثه حتى ضاق به جلساؤه ذرعاً وطووا عنه كشحاً «.
الحق يقال فإن الفيلسوف رضا توفيق أراد أن يحسم الأمر منذ البداية بطلبه مصارعة أحد مصارعي بغداد، ولا نعرف لماذا سخر منه الدفتري باقتراحه منازلة الزهاوي المصاب بالشلل، ولم يدعُ مصارع بغداد الشهير آنذاك عباس الديك لمنازلته على الطريقة الفلسفية البغدادية، وينهي النقاش معه بالصرعة القاضية!.
***
د. طه جزّاع – أستاذ فلسفة