تقارير وتحقيقات
عدنان حسين أحمد: باقة من الأفلام القصيرة المؤثرة في مهرجان مالمو
خاص بالمثقف: حَفَلَ اليوم الثاني من الدورة الحادية عشرة لمهرجان مالمو للسينما العربية بعرض فيلمين طويلين وهما "نحن من هناك" للمخرج اللبناني وسام طانيوس، وفيلم "قِلتلّك خَلَص" للمخرج اللبناني إيلي خليفة، كما عُرضت خمسة أفلام قصيرة سنتوقف عندها جميعًا وهي "حاجز" للمخرجة اللبنانية داليا نمليش، و"الحمّام" للمخرجة التونسية أنيسة داود، و"الحجاب الأسود" للمخرجة القطرية الجوهرة آل ثاني، و"توك توك" للمخرج المصري محمد خضر، و"الهديّة" للمخرجة الفلسطينية فرح النابلسي.
تعود بنا داليا نمليش إلى انتفاضة 17 أكتوبر 2019 التي راج فيها شعار "كِلّن يعني كِلّن" الذي يعرّي الفساد، وهيمنة الأحزاب المليشياوية التي اختطفت البلاد، وهيمنت على ثرواته ووظائفه وتركت شرائح واسعة من المجتمع اللبناني تزداد فقرًا ومشقةً وعناءً. المتظاهرون يردِّدون بصوتٍ عالٍ "الشعب يريد إسقاط النظام" ويهتفون بالأغاني الوطنية لكن ثيمة الفيلم الرئيسة تتضح حينما نعرف أنّ المتظاهرَين فرح "باسكال سينيوري"، وأنتوني "أحمد حمادي شاسين متحابان وتربطهما علاقة عاطفية دفعت بالحبيب أنتوني للقدوم من باريس لزيارة جدته المريضة والمشاركة في الانتفاضة التي صادف انطلاقتها في ذلك اليوم.
ما يميز هذا الفيلم هو سلاسته العاطفية حيث تتيح لنا المخرجة بضعة مشاهد من القُبل والاحتضان بين العاشقَين. وما إن تنتهي أمور التظاهرة على خير ويغادران المكان حتى يفاجئهما "حاجز" على الطريق ليعقّد الأمور التي كانت منسابة قبل قليل. فثمة شخصان من أحد المليشيات اللبنانية المتنفِّذة يُصادران حق الناس في التنقّل والعبور في شوارع بيروت وهما رياض "جوليان فرحات" وسامر "محمد ياسين"، إضافة إلى كلب ضخم يُدعى "جوكر". تنخفض النبرة المرتفعة لفرح أمام انفعالات رياض وسامر وأسئلتهما المتلاحقة عن هوية الضحيتين وعملهما، ففرح معروفة على اليوتيوب، أمّا صديقها ذو اللكنة الأجنبية فهو يقيم في فرنسا لكنه يحمل جوازًا لبنانيا الأمر الذي يثير شكوك سامر ويجعله يعتقد بأنه عميل لإسرائيل، فيتضاعف التدقيق حيث يفتش سامر في هاتفه النقال، كما يفتش السيارة وما فيها من حقائب بطريقة مُذلة فيها الكثير من التشفي والاستصغار وحينما يصل العنصران إلى قناعة ما يتصل سامر لاسلكيًا بجهته المليشياوية ويخبرها بجملة مفهومة في فضائنا العربي:"باعثيلكم ضيفين؛ بنت وشاب، اهتموا فيهم"، وقد يأخذ الاهتمام أشكالاً متعددة للتعذيب، والإهانة المتعمدة لكرامة الإنسان العربي في ظل الأنظمة المليشياوية الخارجة عن القانون.
تحرّش جنسي بدون مشاهد خادشة للحياء
يُعد فيلم "بانو" أو "الحمّام" للمخرجة التونسية أنيسة داود من أكثر أفلام المسابقة رهافة، فالثيمة التي تعالجها في الفيلم هي التحرش الجنسي بالأطفال لكن رهانها الفني الصعب كان قائمًا على عدم تقديم مَشاهد جارحة للحياء، وقد نجحت في هذا الرهان حقًا عندما لامست الموضوع بشكل مجازي، وبجمل لمّاحة قصيرة كانت تفي بالغرض المطلوب. فلقد تعرّض الأب عماد "محمد داهش" في طفولته للاعتداء الجنسي على يد عمّه، وظلّت هذه التجربة القاسية تعيش معه طوال السنوات المنصرمة، وبات يخاف على ابنه من أقرب الناس إليه لئلا يمر هو الآخر بنفس التجربة، ويُصبح ضحية لها. قال عماد بأنه لا يحب هذه الصور الموجودة في منزل شقيقته ولكنه كان يعني صورة عمه التي يكرهها، وحينما ذهب مع ابنه إلى السوق بغية شراء السمك أراد البائع أن يلمس ابنه كنوع من الترحاب برؤية الطفل لكن الأب سحبه بسرعة وكأنه يخشى عليه حتى من مجرد المداعبة العادية التي يقوم يها أي شخص من العائلة أو من حلقة الأصدقاء المقرّبين. أما قصة الفيلم التي كتبتها أنيسة فهي تروي قصة زوج غادرت زوجته في بضعة أيام عمل وتركت له فرصة الاعتناء بولده الصغير هادي فكان يأخذه إلى المقهى تارة، وإلى البحر تارة أخرى، وبين هذه وتلك يذهب إلى بيت شقيقته ويمضي عندها بعض الوقت لكن هاجس الخوف ظل يلازمه ولن يفارقه أبدًا.
يتمحور فيلم "الحجاب الأسود" للمخرجة القطرية الجوهرة آل ثاني على شخصية ريم، وهي شابة عراقية من الموصل تهرب من منزلها في منتصف الليل بعد إجبارها على الزواج من أحد عناصر داعش الإجرامية. ويساعدها في عملية الهروب سائق تاكسي يُدعى أحمد لكنّ شخصًا داعشيًا يلاحقه ويسأله عن ريم التي تجلس في المقعد الخلفي فيدّعي أنها زوجته وقد جلبها توًا من بيت والدها ولكنه نسي الأوراق الرسمية التي تثبت أنها زوجته. وعلى الرغم من أن التدخين محرّم في العقيدة الداعشية إلاّ أنّ أحمدًا يقدّم له سيجارة فيشكره الداعشي ويتركه يمضي لحال سبيله ويحذّره من أن يراه مرة ثانية وإلاّ سوف تكون العواقب وخيمة. يأخذها أحمد إلى بيت أهلها القديم فتجده مدمرًا ومهجورًا، وهذا يعني أنّ العائلة قد هربت إلى صحراء الموصل ويقرر إيصالها إلى هناك وحينما يتعب من قيادة السيارة يأخذ غفوة فتخبره ريم بأنها تستطيع أن تقود السيارة لكن اثنين من الدواعش يلحقان بهما في قلب الصحراء وتراودهما الشكوك بأنه يخبئ شيئًا ما عنهما فيطلق أحدهما النار عليه ويرديه قتيلاً، ثم يسكب البنزين على السيارة ويوقد فيها النار لكن ريم كانت قد تسللت من جوف السيارة واختبئت خلف إطار ضخم جوار بيت طيني. يغادر الداعشيان المكان فتتجه ريم إلى حافلة لاحت في الطريق تضم مجموعة من النساء الملفعات بالسواد لكنّ وجوههن المكشوفة شجّعها على إزالة النقاب عن وجهها الذي ارتسمت على معالمه إشراقة ابتسامة توحي بالخلاص من المناخ الداعشي الذي جثم على صدرها وقتًا ليس بالقصير.
سائقة توك توك تعمل في بيئة رجالية
يرصد المخرج المصري محمد خضر في فيلمه "توك توك" حياة عائلة مصرية متواضعة تتألف من الأب محروس "أشرف مهدي" الذي لم يكمل تعليمه الدراسي، ويرتزق من أي عمل يُكلّف به وهو جالس في المقهى الشعبي في الحيّ، فمن الممكن أن يكون حمّالاً أو نقاشًا أو مساعدًا لعصابات تهريب البشر. أما زوجته ولاء "إلهام وجدي" التي ستتمحور حولها القصة فهي ربة بيت تدرّس طفليها كلما وجدت متسعًا من الوقت، كما تستقبل والدتها المريضة، وتساعد شقيقها الأكبر عمر الذي يعاني من الشلل بعد إصابته في حادث التوك توك الذي أوشك أن يودي بحياته. يغادر محروس البلاد بطريقة غير قانونية ويحلم بالوصول إلى إيطاليا لأنه تعرّف على فتاة إيطالية تعهدت باستقباله، وتأمين مستقبل أفضل له بعد أن يصل إلى جزيرة كريت في اليونان، ثم يتجه بعدها إلى إيطاليا. غير أن الرياح قد تجري بما لا تشتهي السفن حيث يغرق الزروق المطاطي في جزيرة كريت ويموت كل من عليه. تفرح ولاء بهذا الخبر لأنّ محروسًا طلّقها، وتتشفى بموته، وتقرر أن تعمل سائقة للتوك توك رغم كل المصاعب الجمّة التي يمكن أن تواجهها امرأة تعمل في بيئة رجالية حيث تتعرض للانتقاد، والسخرية، والتجريح لكنها تشق طريق حياتها بنجاح وأخذت تسدد الكمبيالات التي فرضها الحاج فتحي شهريًا لكن شخصًا دنيئًا اسمه السيد كان يقف لها بالمرصاد، إذ حاول أن يستميلها لكنها كانت تشعر بطمعه في عربة التوك توك وحينما تزجره غير مرة يقرر الانتقام منها وهي لا تملك شيئًا أثمن من هذا التوك توك الذي بدأ يدّر عليها دخلاً شهريًا جيدًا. وذات ليلة يوقد "السيد" النار في عربتها الصغيرة ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها أهالي الحي إلاّ أن التوك توك قد خرج من الخدمة وصار لزامًا على ولاء أن تسدد بقية الكمبيالات المترتبة عليها وهي لا تمتلك مصاغًا ذهبيًا مُدخرًا أو أي مصدر للدخل. نقرأ على الشاشة بعد انتهاء الفيلم "بأن عدد الغارمات في سجون مصر قد بلغ أكثر من 30.000 غارمة، وأن بعض الجمعيات الخيرية تعمل على جمع التبرعات لسداد غراماتهنّ ولكن للأسف فإن عدد الغارمات هو أكبر بكثير من حجم التبرعات".
لا يستطيع المُشاهد إلاّ أن يشعر باللوعة والأسى المصحوب بالقرف من الإجراءات الأمنية المشدّدة، والإهانات المتعمدة للمواطنين الفلسطينيين وهم يجتازون المعابر الحدودية التي تفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين يوميًا. وقصة فيلم "الهديّة" للمخرجة الفلسطينية فرح النابلسي تتمحور على رغبة الزوج يوسف "صالح بكري" في شراء ثلاجة جديدة لزوجته لمناسبة عيد زواجهما، فثلاجتها القديمة معطوبة وينفتح بابها من تلقاء نفسه. كما ترافقه ابنته الصغيرة ياسمين في تلك الرحلة إلى أحد مدن الضفة الغربية. عند المعبر ترى المئات من الفلسطينيين وهم يمرون في مسارات مؤطرة بالحديد والأسلاك الشائكة، ويتعرضون إلى اسئلة غريبة، وإهانات مقصودة، بينما يمرّ الإسرائيليون بسلاسة واسترخاء، وبعد التفتيش المُذل يسمح ليوسف وابنته بالعبور لكن ياسمين ستبلل نفسها من الذعر الذي أصابها وهي ترى بأم عينيها الطريقة المهينة التي يتعاملون فيها مع أبيها. وحينما يصلان إلى أحد المولات يقتنيان كل ما يلزم للمناسبة، ويجلبان الهدية معهم بسيارة المحل لكن السلطات الأمنية تمنعهم من الدخول فيضطر الأب لدفع الثلاجة بعربة ترولي وحينما يصل إلى المعبر تبدأ الأسئلة التافهة والمستفزة التي أفقدت يوسف أعصابه وأوشكوا أن يطلقوا عليه النار. وفي سورة غضب الوالد كانت البنت ياسمين قد دفعت العربة بهدوء من بوابة المعبر الرسمية فتبعها الوالد باسترخاء وهو يمشي خلف هذه الهدية التي سحقت أعصابه لكنها سوف تزرع الفرحة في نفس زوجته التي أحبها من الأعماق، وكرّس حياته لها ولابنتهما ياسمين أو الأميرة الصغيرة التي يعتبرها أحلى طفلة في فلسطين.
خاص بالمثقف
عدنان حسين أحمد