مرايا فكرية
المثقف في حوار خاص مع الدكتور مجدي إبراهيم (3): بين الفلسفة والتصوف
خاص بالمثقف: الحلقة الثالثة من حوار خاص مع أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف في مصر الدكتور مجدي ابراهيم، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التصوف في عالم المعرفة الإسلامية، فأهلاً وسهلاً بهما في المثقف:
بين الفلسفة والتصوف
س8: أ. مراد غريبي: أليست الظاهرة الصوفية في وقتنا المعاصر بحاجة لدراسات أنثروبولوجية نقديّة معمقة تقف على الأحكام المغلوطة وتميز بين الأصلي والدخيل على الحقيقة الصوفية كما حددها أقطابها؟
ج8: د. مجدي إبراهيم: نعم ! ما دمت جعلتها ظاهرة صوفية لا حقيقة وجودية، وهذا رأى؛ فلمن شاء إذا هو شاء أن يدرس كما يحلو له الدرس والاستقصاء. فكما كانت هنالك مقاربات شتى من جهة علم النفس للظاهرة الصوفية، وتمت دراستها من الوجهة النفسية مثلما تمت دراستها كذلك من الوجهة الاجتماعية والسياسية؛ فليس ما يمنع تشعب الدراسات إزاء تلك الظاهرة شريطة أن تستبعد المناهج المادية التي تفسد طبيعة النصوص الصوفية مع قناعتي الشخصية التامة بأن التصوف لا يمكن درسه ولا فهمه حق الدراسة وصواب الفهم إلا بالمنهج الذي أستنه عارفوه. وإذن؛ فالدراسة لا شك مشروطة. وشرطها أن تكون في إطار هذا المنهج وعلى ضوئه. إمّا إذا نحن أسقطنا المنهج واستبدلناه بمنهج آخر مغاير؛ فبيننا وبين مسّ أذواقهم وفهم أحوالهم ومعرفة أسرارهم هوة سحيقة واسعة وبون شاسع عميق غائر لا يمكننا الوصول إليه. أمّا الدراسة النقدية أيضاً فهي كذلك مشروطة عندي، وسأعطيك مثالاً على ذلك فقد ذكرت لك من قبل "أدلجة النص الصوفي"، أي قراءته قراءة عقلية وتخريجه من ثمّ تخريجاً لا يعمق النظرة الجوانية الباطنة، ولكنه يقتصر فقط على الظاهر البرَّاني، وهو فساد قلَّ أن يعالج؛ إذ النّص الصوفي لا يؤدلج. النّصُّ الصوفي يتذوق، ولسنا بحاجة شديدة إلى كثير عناء بكشف استخدامه لدى من يدرسون ويكتبون؛ فهو عندي من الأهمية بمكان؛ لأن الفارق أوضح بكثير بين أدلجة النَّص الصوفي من جهة وكشف ممكنات هذا النص في إطار فضاءاته الذوقية المتنوعة. ومهمة الباحث في التصوف على وجه العموم فيما أتصوَّر أن يضفي من ذوقه الخاص وفكرته المستقلة تخريجاً لإشارات العارفين على هذا الذي أمامه ممَّا يقرأ أو ينظر أو يستسيغ أو يرفض بشرط أن تتوافر لديه إمكانيات التذوق للمقروء، ولا عليه في أن يجئ أمره من بعدُ رافضاً أو موافقاً.
وعندي أن هذا المنهج الذوقي خاصّة لهو المنهج المناسب إنْ لم يكن الوحيد في تقديري لمعالجة موضوعات التصوف بعرفان يلائمها ويتناسب مع استبصارها الذوقي بالترقي إلى إدراك مواجيد أصحابها كلما ترقى المستخدم له في نفسه أولاً وقبل كل شئ. أمّا أدلجة النَّص الصوفي وتحويله إلى نص عقلي يجوز عليه ما يجوز على النصوص الفلسفيّة والعقليّة من نقد أو تخريج، فهذا خبط عشواء لاختلاط مناهج العقل بمناهج الذوق والاستبصار.
إذا أردنا أن نكون نَقَدَة على الأصالة في هذا المجال فلا مناص لنا من أن يجيء نقدنا من الباطن نتمثل الوعي الصوفي ونتفهمه ذوقاً ومعرفة ومعايشة من الداخل، نحسّه ونستشعره ولا نخبط إزاءَه خبط عشواء كيما نقدّم رؤيتنا كليّة جامعة؛ لتكون أقرب إلى الوصف والتصوير والتحليل والمقارنة منها إلى عشوائيّة النقض الهدام الذي يفسد النص الصوفي فلا يُبقي ولا يذر؛ لأنه لم يفهم منه دلالة ولا عبارة، فضلاً عن غيبة وعيه بالإشارة أصلاً، أو بالاصطلاح الصوفي الدقيق: أن نتعَرَّف، قبل أن نتوقَّح، على مذهب أهل التصوف تماماً كما سَن الكلاباذي كتابه "التعرف لمذهب أهل التصوف" بتواضعه الشديد؛ ليكون نموذجاً يُحتذى حقيقةً إزاء علوم القوم ومعارفهم لأن التَّعرف الصحيح للتصوف أسلم للباحث من الإنكار العقيم، يستند عليه معول الهدم النقدي، وهو في الحق ليس نقداً بمقدار ما هو "توقح" يسفر عن ظلمة روحيّة وكدورة عقلية، ويكشف عن لوثة معرفيّة إزاء علوم الصوفية ومعارفهم.
هكذا أتصوّر حين يعمل النقد الفلسفي عمله السّلبي إزاء النّص الصوفي، فيفسده بغير تفرقة فيه بين غث وسمين. فالنقد في ميدان التصوف ذاتي جُوَّانيَّ من الداخل، ليس كالنقد في مجال الفلسفة يتسلط على كل فكرة ما بالهدم والتخريب، بغير تفرقة فيها بين نقد ونقض؛ فمَن حَرَمَ الذوق في حقل التصوف أنىَ له أن يمضي على بصيرة من إدراك لإشارات العارفين؟ وما يُقال في مجال الفلسفة نقداً لا يقال بنفس الكيفية في مجال التصوف.
وإذا كان التصوف تجربة ليس هو بالفلسفة، ولا هو بالنظرية؛ فمن المؤكد، رغم اتفاق المشرب الواحد والمنهج الواحد بين جميع الصوفيّة بغير استثناء، أن لكل متصوف خصوصيته، يضيف من خلال تجربته ما ليس موجوداً في تجارب سواه؛ حتى لو كان هذا السِّوى شيخه في التربية والترقية برغم وجود وحدة الروح التَّصوفيّة في الإسلام. ومن هذه النقطة الجوهريّة يجيء التأثير في مجال الفلسفة ليس هو التأثير القائم في حقل التصوف، ولن يكون، فيما لو عَوّلنا التعويل كله بدايةً على التجربة الصوفية واختلافها بالكلية عن الفكرة الفلسفيّة؛ فمن السهولة بمكان تحديد مصادر الفيلسوف ومعارفه التي أستقى منها فلسفته، وكذلك الأمر يُقال في المتكلم، في حين يصعب قوله في المتصوف؛ إذْ ذَاَكَ يصعب تحديد مصادره من خلال أقواله. إنما التأثير في مجال التصوف انتقال سرّ إلى سرّ ووراثة حال عن حال وليس هو بتبني فكرة نظرية ووراثة مقال عقلي .. ولماذا؟ لأن الصوفي يعطي من ذاته، ويجود من تجربته الخاصَّة، ويفيض من تلك التجربة فيما عَسَاهُ يتصور ويرتأى من مقبول الآراء. الصوفي يأخذ علمه عن الله مباشرة لا عن ميت؛ بل عن الحي الذي لا يموت كما جاء في إشارة أبي يزيد البسطامي طيّب الله ثراه.
الصوفي ابن وقته، ومعنى كونه ابن وقته، يعني ابن حاله، وابن تجربته، وابن معاناته الخاصَّة، فكرته هى نفسه، ورأيه هو ذاته، وإشاراته ومعارفه وشذراته من أنفاسه خاصّة. يلزم لهذا كله من أجل ذلك كله، أن يكون منهج البحث في حقل التصوف مستمداً من طبيعة هذا العلم يوافقه ويوائمه وينهج في معالجة قضاياه نهج من يتعرف أولاً لكي لا يتوقح حتى إذا أقدَم على النقد وهو مشروط عندي بهذا الشرط، كان نقده ذاتياً نابعاً من الداخل في إطار ما يعلم وفي ضوء ما يفهم لا في إطار يخلو من الذوق ومن العلم ومن التّعرُّف، ولا في ضوء ما من شأنه أن يسقط الفهم حين يقدّم النقد عن المقروء والمكتوب.
أضف إلى ذلك وهو المهم أن الصوفية نقدة على الأصالة، هم أول من نقدوا أنفسهم بأنفسهم وظهرت ملامح النقد الذاتي في آثارهم كثيراً. والأمثلة التي تبين النقد الذاتي في التصوف: شخصيات ومذاهب لا حَصْرَ لها سواء في التصوف السُّني أو في التصوف الفلسفي وعلى مدى القرون الماضية جيلاً وراء جيل: فعل ذلك كبار المتصوفة كالحارث المحاسبي (ت 243هـ) وأبي طالب المكي (ت 386هـ) والحكيم الترمذي (ت 285هـ) ومن تلاهم من صوفية القرن الثالث والرابع، ثم القشيري (ت 465هـ) والغزالي (ت 505هـ) من صوفية القرن الخامس، والسَّهْرَوَرْدي المقتول سنة 587هـ، وابن عربي (ت 638هـ) وابن سبعين (ت 669هـ) من صوفية القرن السادس والسابع، ومن عاصرهم أو تلاهم ممَّن نهج منهاج التصوف السُّني خاصَّة من رَوَّاد المدرسة الشاذلية: أبو الحسن الشاذلي (ت 656هـ) وأبو العباس المرسي (ت 686هـ) وابن عطاء الله السكندري (ت 707هـ) وابن عَبَّاد الرندي (ت 790هـ) شارح الحكم العطائية، والشاطبي في كتابه الاعتصام، ثم لما تَفرَّعَت المدرسة الشاذلية من بعدُ وانتشرت في المشرق والمغرب وانتسبت إليها الطرُق الفرعية ظهر روَّادُ دانوا بالولاء إليها وأسسوا فروعاً لها كان من بينهم من أتخذ من النقد تطهيراَ للساحة الصوفية مما يُعَكر صفائها؛ فظهر على سبيل المثال الشيخ زَوُّرق (ت 899هـ) في عُدَّة المريد الصادق وقواعد التصوف، والشيخ أحمد بن عروس مؤسس الطريقة العروسية في تونس وليبيا، وعبد الواحد الدُّكالي في ليبيا، وهو رفيق الشيخ زَرُّوق، ثم ظهر الشيخ عبد السلام الأسمر مُجدد الطريقة العروسية الشاذلية في رسائله ووصيته الكبرى، ثم جاء من بعدهم في المغرب ابن عجيبة الحسيني، في كتابيه "التَّشَوّف إلى معراج التصوف"، وفى "إيقاظ الهمم في شرح الحكم"، وغيرهم، غيرهم، ممَّا يصعب حصره في هذا المقام. ومن هنا وجدنا النقد بالنسبة إليهم جميعاً إصلاحاً للسلوك الديني وتخلقاً بالخُلق الصالح ليس نقداً من أجل النقد فقط، بل من أجل غاية أسمى من مجرد "النقد" أو (النقض = الهدم) هى بلا شك التربية ثم التغيير والإصلاح باعتبارهما تبْعَة دينية مفروضة فرضاً على القادرين عليها تمهيداً للدخول في مراحل التحقق.
س9: أ. مراد غريبي: استسمحكم دكتور مجدي، هل هناك تقاطع وتعارض بين التصوف والفلسفة؟ اذا كان كذلك تؤيدونه أم العكس من ذلك؟
ج9: د. مجدي إبراهيم: الذي يتتبع الحوار سيجدني قد أجبتُ على هذا السؤال ضمنياً فيما سبق، ولكي لا يكون هناك تكرار في الإجابة نكتفى بالإشارة إلى الفرق الفارق بين (الفكرة) و(التجربة) وفي ظلال هذا الفرق تتبين الإجابة.
بداية نعرف أن تجربة الصوفي في حد ذاتها سابقة على الفكرة. وحيث أقول "الفكرة" فإنما يتوجه القصد مباشرة إلى الفكرة الفلسفية، فلا يفكر الصوفي أولاً ثم يُجرب، ولكنه يجرب أولاً ثم يأتي الفكر شارحاً لتجربته. ولا يكون العكس صحيحاً بوجه من الوجوه. وهذا في تقديري هو ما يميز العرفان (Gnosis) عن الفلسفة؛ إذْ العقل في مجال الفلسفة أسبق من التجربة في مجال التصوف. والمتصوف أقدر على فلسفة تجربته العرفانية من الفيلسوف الذي لم يذق فتوح التجارب الصوفية؛ فأفلوطين مثلاً كان أخضع تجربته لعقله ولم يخضع عقله لتجربته. وقد صحّ عنه أنه قال لم يذق في هذه التجربة شهود الوصال (الجذب Ecstasy) مع الواحد إلا أربع مرات في حياته كلها. ومعنى هذا أنه لم يبلغ حالة التسامي الفنائي (ecastitic trance) التي بلغها أصحاب التجارب العليا من صوفية المسلمين .. ربما لافتقاره إلى الوحي (Revelation) من جهة.
ومن جهة أخرى؛ لأن الفكر سبق لديه التجربة؛ فكل ما عرفه عن الواحد كان نتيجة تأمل عقلي وتفكير نظري، ولا يحدث هذا في بطن التجربة الصوفية؛ ليتم بفضلها الشهود المباشر؛ لأنها تكون هى السابقة المُقدّمة على كل ما يثمره العقل أو يشكله بمقولاته تشكيلاً أوليّاً سابق على التجربة.
مقولات العقل وإطاراته الذهنية في مجال الفلسفة مُقدّمة على التجربة الصوفية مستقلة عن الاحتكاك بها، حتى إذا ما جاءت التجربة بعد ذلك جاءت ضعيفة بالقياس إلى إعمال العقل قبل ذلك؛ إذْ القوالب العقلية المفروضة تسيطر على الحالة الروحية وتحد من طلاقتها؛ فتأخذ الحالة الشكل الذي فرضته عليها تلك القوالب الجامدة، فتفقد جذبتها إلى الملأ الأعلى بمقدار ما تفقد خصوصيتها وتفرُّدها وامتيازها.
حقاً ! ربما تصبح تجربة عقلية فلسفية بامتياز، ولكنها ليست حالاً ولا سراً يشهد الملأ الأعلى شهوداً بالمباشرة.
والعقل بلا شك له زاويته التي لا ينفك يرى بها الأشياء التي تزخر بها طبيعتها بعد أن يكون قد أختار منها ما شاء وأسقط منها ما شاء، بحسب نظرته الذاتية الخاصّة بمحض ما تفرض عليه مقولاته لا غير، فلا يدع من ثمّ التجربة أن تستكمل طريقها في مسارها الروحي؛ لكأنما يستعجل هذا المسار: يعوقه بفروضه ويقطعه بتحليلاته ويسلط عليه أنظاره من غير أن يُتمم للتجربة مسارها.
على العكس من ذلك كله يحدث في مجال التجربة الصوفية؛ إذ هى التي تفرض على العقل فيما لو كانت هى المقدَّمَة، وحين يعجز عن الانصياع لها والتقيد بأوامرها يتوقف عن الإدراك؛ فيحيل إلى مدراك أعلى منه وأرفع، هى بلا شك مدراك البصيرة. والبصيرة لازمة بالضرورة للتجربة، هي الأداة الإدراكية العليا لصنوف التجربة الصوفية باصطلاح وليم جميس كما ذكرت من قبل.
أمّا العقل؛ فلا .. إذا سلّم العقل للبصيرة أمره، نجح الإنسان في إتمام مراقي الشهود. وإذا ناطح العقل البصيرة، خذلته الرؤية فما أتمّ الشهود. ولكن هذه الشروط والضوابط ليست حَديّة فاصلة، وإنما تأتي كما لو كانت صياغات تقريبية لفهم عمل التجربة الصوفية في ميدانها. ويبقى بعد ذلك دورٌ غير منكور للعقل لا يتخطاه، وهو أنه أحال أولاً على البصيرة. وهو ثانياً يظل شارحاً للتجربة ينظمها ويسترشد في التخريج بمعطياتها ويأخذ منها ولا يأخذ من نفسه. وبمقدار ما يتصالح معها ويحاول فهم أسرارها يُخضع قوالبه لها ويكيف مقولاته في إطار التعاطف معها من حيث لا يخضع المرء تجربته، كما يحدث في مجال الفلسفة، لقوالب عقله ومقولاته.
لكن سؤلاً يثيره الذهن المترقب في هذه الفروق: وهل يدخل الصوفي تجربته وهو مُجرّد بلا علم ولا فكر ولا معرفة؟ وأي تجربة هذه التي يخوض غمارها وهو جاهل، والجهل لا يُعوّل عليه؟
تحقيقاً؛ لا نأخذ بما كان أخذ به "جان فال" حين أراد أن يصف هذه الحالة من طريق المجاز بالاستنارة مع أنها جهالة؛ فسمّاها في "طريق الفيلسوف" "بالجهل المستنير"، وهى عبارة تحمل مفارقة إنْ دلت على التجربة الصوفية ومعطياتها مفارقات، لا تدل على حقيقتها الكامنة فيها من حيث إنها عمل لا يعرف الجهل، وعلم يقارب المعرفة ويرتفع عنها إلى مقام الشهود.
غير أنه سؤال يبدر من الوهلة الأولى نقضاً لدعائم التجربة الصوفية: علام تستند؟ وهو سؤال وجيه، لكنه قاصر في نفس الوقت؛ إذْ الصوفي أولاً يعلم من الشرع أصوله، ومن العلم مبادئه ثم من بعدٌ لا يُشغل نفسه بكثرة الأقوال، ولكن يزج بها في بحار الأنوار؛ فالعلوم التي تعلمها والشرائع التي حصّلها تستدعي إعمال العقل وتتطلب جهد التفكير المُضنى الذي يصرف المرء عن غاياته ويشتت مقاصده ويقدح في خلوصه من جهة. ثم من جهة أخرى؛ فإنّ بعض قدماء الأولياء من المسلمين كانوا يعدّون الإغراق في العلم يبعث على الزهو والخيلاء. والعلماء ذوي الإيمان الضعيف يراكمون العلم ويأخذون بناصيته إلا أنهم لا يطبقونه في حياتهم العملية ثم يبيعون العلم لقاء المال. ومن صحة الرأي عندهم أن العالم يكون متكبراً، دنيوياً، مسيئاً، " إذا كثر بقباقبه وانتشرت كتبه وغضب أن يرد عليه شئ من قوله" كما يقول أبو نعيم في حلية الأولياء.
وهكذا لم تتغير على مدى السنين الطوال صفات المتكبرين من العلماء؛ لأنها صفات نفوس ملوثة، يأكل العجب فيها كما السوس إلى حيث يقضي عليها وعلى ما تعلمت في غير تعليم. إنما الصوفي الذي يخوض غمار التجربة في المقابل، ليس مطلوباً منه أن يستغرق عمره في شتى صنوف المجادلات النظرية بل يقتصر على الفروض والرواتب، ويأخذ في العلم ويشتغل بدوام الذكر.
وهنا نقطة تبدو لي في غاية الأهمية ينبغي التنبُّه إليها، وهى أن هذه المرحلة ليست دائمة؛ بل هي مرحلة موقوته بزمانها ومكانها: (خلوات) على فترات متباعدة للتصفية والتنقية، يعول عليها عمل الباطن؛ لأن الصوفي لا يمكث طوال حياته متبتلاً منقطعاً دون أن يمارس أعماله في حياته اليومية عبادة في مواعيدها المناسبة واستخلاصاً لما يمليه عليه واجبه تجاه نفسه ومجتمعه على أن هذه المرحلة الموقوتة، الفترة الزمنية التي يخوض فيها التجربة، تستغرقه بالكلية وتملك عليه أقطاره، وهى مع ذلك تجربة مُمَنهجة لا تقوم فيه جزافاً بلا هدف ولا غاية، يتغذى فيها الباطن بالأذكار لا بالأفكار، أو على حد قول "ابن خلدون" يتغذى فيها الروح العاقل بالذكر. وأكثر من تحدّث في فترة التجربة هم أقربهم إليها، هم من مارسوها. وكان الغزالي في ميزان العمل قد منهج خطواتها على مراحل، واستفاض ابن عربي من بعده في رسالة (الأنوار) شارحاً كيفية ممارستها على أصول منهجية وضعها. هذا المنهج دالٌ من الوهلة الأولى على أسبقية التجربة الصوفية على الفكرة النظرية؛ فمجرد التفكير في شئ من أشياء الدنيا، قل أو كثر، عائق عملي أمام فاعلية التجربة داعياً إلى تعطيل مسارها، فضلاً عن انغماس الفكر في التفصيلات النظرية، فهو أيضاً عائق معرفي بكل تأكيد؛ لأن ما يتلقاه المرء بعد سقوط الاختيار علوم ليست من جنس علوم الأفكار النظريّة، ولا هى من تصرفات العقل الفلسفي النظري فيها، ولكنها علوم تنقش نقشاً على رقائق القلب، ويعز التعبير عنها بالمباشرة بلغة العبارة العادية، لأنها صادرة عن وعي عالي، هو الوعي الصوفي (Mystical Consciousness)، والوعي العالي لا يُكيف مباشرة باللفظ المعتاد ولا بالعبارة العادية؛ لذلك كان الرمز هو المناسب للإشارة المُلغزة، وللومضة البارقة، وللذوق الفياض بثمار الأذكار.
غير أن هذا لا يحدث في حقل الفلسفة؛ لأن الفيلسوف إذا سلط عقله على شيء يستغرقه بالكلية، ناهيك عما يتضمّنه محض التفكير من جوانب ذاتية متصلة بكل ما للمرء من عبادة الأنا واستشعار الذات واستبقاء الآنيّة التي لا تتلاشى أبداً من باطن الفيلسوف في حين لا تقوم للعارف قائمة وهي فيه قائمة.
ما تعطيه التجربة ويُفاض عليه من علوم مُمدّة بفعل الهمة تكون عطايا الفهم الجديد لا الشّرع الجديد؛ لكنه يكون إذْ ذَاَكَ فهم على غير مثال مسبوق، فهم ممزوج بالمعاناة مخلوط بتعب الانتظار والترقب.
مثله، ينقطع الفيلسوف إلى شواغله النظرية ويخوض تجربته مع المقروء والمكتوب في إطار التأملات العقلية، ولا يخرج بالعقل ليُعَبِّر عن الحقيقة إلا كما يخرج غربال من بئر بتعبير الشاعر الفارسي فريد الدين العطار، طيّب الله ثراه،: ضع الغربال في بئر ماء فهل تخرج بشيء سوى قاذورات ونفايات تلقي بها بعيداً غير آسف؟ وكذلك العقل الذي يدعي كشف الحقائق الإلهية بلا وعى البصائر والأنوار والتجليات، يحكمها وعى محدود بحدود ما تفكر فيه على شرطها، وعلى شرط مقولاتها لا على شرط القصد المُوجّه من وعى الإلهام والاستبصار، وهو أعلى وعي يمكن تحصيله من ذوق مقامات الإحسان.
الفاعل الأكبر في (الحقيقة) التي هي باطن الشرع هو هذا الوعى، وليس من فاعل غيره على التحقيق بكل تأكيد. ولهذا؛ ومن أجل هذا؛ يكون للوليّ خاصية الفهم الجديد لأجل تجربته الفياضة بعلوم الأذكار؛ وهو ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب، وهى فيوضات التقريب (Emanation) أو تجليات (Manifestation) النور الإلهي في قلب الولي أو (Revelation) أو هي الحقيقة المطلقة التي تكشف عن نفسها فيما لا يتناهى من الصور والأشكال كما يسميها المرحوم الدكتور أبو العلا عفيفي في دراسته عن ابن عربي (The Mystical philosophy of Myhyid Din Ibn Arabi، Cambridge، 1939، p.62)).
ولأجل معيته الدائمة مع ألطاف الله، يتعلم الولي من فيوضات الحق وتجليات أنواره على قلبه ما لا يتعلمه الفيلسوف من معارفه التأملية العقلية وهو يعلم من شرع الله ما لا يعلمه الفقيه المحدود بحدود العلوم الظاهرة.
ومحالٌ مرة أخرى؛ على مستوى التجربة أن تكون عطايا الباطن كعطايا الظاهر سواء. ليس الوليّ يجاوز الشرع بتجليات علوم الحقائق على قلبه، لا ولكنه يتحقق من باطن الشرع، من النبع الصافي الذي يكرع منه شراب الأنس ووصلة الوصال.
الأولياء نجوم مضيئة في سماء الولاية يتجسد فيها قمر الحقيقة الساطع، وهو باطن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فكيف يخالفون شرعه وهم قطع من نوره المشرق على التحقيق، كل واحد منهم قبس من شمس الحقيقة؟
إنما الذي يقدح في الأولياء طمع الأغبياء ممّن غرقوا في وحل الوقائع الظاهرة والأحداث اليومية الجارية؛ فاستغرقتهم وطمعوا في إقبال الدنيا عليهم؛ فحجبتهم عن نور الحق وأضواء الحقيقة.
س10: أ. مراد غريبي: من طنجة الى جاكرتا هناك صور متعددة للتصوف بأسلوبكم التقريبي المميز في تعريف التصوف، إذا امكن ابراز مدارس التصوف؟ وما هي معالمها ومرتكزاتها التي تميزها عن بعضها؟
ج10: د. مجدي إبراهيم: هذا سؤال واسع جداً لا يمكن الإجابة عنه هنا تفصيلاً بل هو عنوان كتاب (الفرق الصوفية في الإسلام) لسبنسر ترمنجهام، ولذا أحيل القارئ إلى هذا الكتاب لأهميته. ولكن أشهر المدارس الصوفية الكبرى الباقية حتى يوم الناس هذا، هما الجيلانية والشاذلية، وتكاد تكون مبادئ كل منها واحدة: وحدة الاتجاه بين الشاذلي والجيلانى ممثلاً في إسقاط التدبير ورفض دعوى الإرادة؛ ووحدة المشرب الروحي الواحد، ووحدة القصد من وراء التأثر بذوق الطريق، لا بل تأثر ذَوْق الطريق نفسه بهما، وانتهاج هذا الذوق ليكون معبراً عن جانب عظيم في الإسلام، واقتفاء هذا الأثر على طول الخط؛ محافظةً على التصوف السني الخالص، واستخلاص أثره الباقي في الحياة الروحية في الإسلام. وكان الإمام عبد القادر الجيلاني، طيَّبَ الله ثراه، (ت651 هـ) من الصوفية الأقطاب البارزين في أحكام الطريق، وهو صاحب كتاب "الغُنية لطلَّاب طريق الحق"، كتب كتابه "فتوح الغيب" مقالات جاوزت السابعة والسبعون، عبارة عن إشارات ومعاني ترشد إلى قيم السلوك الصوفي، كلمات ظهرت لمولانا من فتوح الغيب، فَحَلَّتْ كما قال في جنانه فأشعلت المكان فأنتجها وأبرزها صدق الحال، فتولى لإبرازها لطف المنان ورحمة ربِّ الأنام في قالب صواب المقال، لمريدي الحق والطلاب. وهو شيخ أبي مدين الغوث دفين تلمسان؛ بالمباشرة . وأبو مدين الغوث تنسب إليه الشاذلية المبكرة قبل نسبتها إلى الإمام أبي الحسن الشاذلي.
س11: أ. مراد غريبي: ممّا يجهله العديد من رواد الثقافة الإسلامية هو الدور الثقافي والحضاري لمدارس التصوف عبر التاريخ الإسلامي كله ودورهم النضالي ضد الاستعمار في العالم العربي على سبيل المثال لا الحصر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر الجزائري والمجاهد عمر المختار الليبي وغيرهم كثير، ما محل إعراب التصوف من الحضارة الإسلامية؟
ج11: د. مجدي إبراهيم: بالإضافة إلى ما تفضلت بذكره وهو الدور النضالي لمدارس التصوف عبر التاريخ الإسلامي كما للأمير عبد القادر والمجاهد الليبي عمر المختار، كان للشيخ السنوسي دور بطولي بالغ الأهمية؛ مولود في قرية الوساطة قرب مدينة مستغانم في الغرب الجزائري في الثاني والعشرين من كانون الأول سنة 1787، وينتسب إلى الحسين بن على، نشر الطريقة السنوسية في الشمال الأفريقي وفي غرب الجزيرة العربية والتي تأثرت بالطرق الصوفية المنتشرة في شمال أفريقيا مثل الشاذلية والقادرية والناصرية، واستمر في العمل الدعوي والجهادي حتى توفى في السابع من أيلول عام 1859؛ ذاع صيته في جميع أقطار المغرب العربي وكان يعلم مريديه أسس القتال؛ ومن كبار مريديه الشيخ البطل السنوسي الليبي عمر المختار الشهيد الذي قارع الاحتلال الإيطالي لفترة طويلة حتى ظفروا به وأعدموه بعد محكمة قصيرة سَمُّوها محكمة الطيارة عام 1931م. كانت السنوسية رأس الحربة في مقاومة الإيطاليين الذين احتلوا ليبيا حيث شَنَّتْ غارتها المتتالية على مواقع وتجمعات الإيطاليين عام 1911م، واستمرت مقامتها في قوة وثبات حتى أندحر الإيطاليين عن ليبيا، وكان لها نفس الدور البطولي في تشاد بالفترة الواقعة بين سنة 1899 إلى 1911م مع الفرنسيين. ولما مات الشيخ محمد السنوسي خَلَفَهُ ابنه المهدي فأكمل مسيرة والده في الدعوة والجهاد. ثم إن هنالك نقطة أخرى متصلة بهذا كله وهى نقطة نظر الغربي إلى تراث الشرق الروحي، وإلى القصد من الروحانيات عموماً وعليه يمكن القول:
لم يكن التصوف كذلك تقليداً للنزعات الغربية؛ بل ولا يفهم التصوف الإسلامي خاصّة كما فهم هو من مجمل آراء بعض المستشرقين، ولا من جهود علماء الغرب ومنظريه ممّن حسبوا الروحانية ضد الحياة الإنسانية التقدُّمية وضد الكفاح والجهاد في شئون الحياة؛ فكان لديهم مجرد سرحات وهم سابح في اللامعقول، تتخذ ركيزتها من الإيمان بالخوارق التي تورث التواكل وتشعر على الدوام بالانهزامية وتنزع إلى الكسل وتضرب العمل في مقتل وتفرض على نفسها الاعتقاد في الخرافات والأباطيل. وإنه لكي تتقدّم الأمم لا محالة تأخذ بأسباب الحضارة الغربية والتقدّم العلمي والثقة الدائمة بالعقل البشري لفهم أسرار الطبيعة وفك طلاسمها وكشف مجاهلها على أقل تقدير.
هذه الأسطوانة المشروحة التي خرقت الآذان من كثرة سماعها، ولم تسفر في النهاية إلا عن ضياع شبابنا وكهولنا، وتغييب الهوية العربية والإسلامية، مع أن الخلط ظاهر جداً بين مجال ومجال: مجال التصوف لا يتجاوز العلاقة الجوانيّة الباطنة بين الإنسان وربّه. ولم تكن هذه العلاقة مع الله بالتي تتعارض مع العلم والأخذ بأسباب التقدّم العلمي؛ لأنها علاقة باطنة كامنة في الضمير والوجدان. وكل ما يَمَسُّ العمل العلمي كسب جوارح وسعي في الأرض إنْ بالخير وإنْ بالشر؛ فلئن كان الضمير فاسداً والوجدان يحمل قيماً ساقطة فماذا عساك تنتظر إلا التخلف والخراب كما هو حاصل الآن؟ وكيف يأتي العمران والبناء، والضمير فينا مفقود مسلوب لا يتنزّه عن اللوثات الساقطة والانحراف العقدي والخُلقي؟
وعليه؛ فتقليد الأفكار والنزعات تقليد القرود شيء يقدح في روح الآدمي نفسه ويجرّده عن قيمه ومبادئه وعن التفاعل الحركي مع وجوده الروحي. على أن الغربيين حين يذكرون روحيّة الإسلام؛ بل روحية الشرق كله من أقصاه إلى أدناه لا يذكرونها إلا بالسلب، ويسبقهم وصفها بالطابع الروحي. والروحية عندهم تخلف وجهالة لا اتصال بالله ولا معرفة به؛ فلا يزالُ أبناء الشرق كله، لا الإسلام فحسب، ينزعون في تفكيرهم تلك النزعة الروحيّة التي جعلتهم نياماً يرفلون في غطيط الجهالة ولا ينزعون في تصوّرهم للحياة النزعة العقلية القائمة على الإيمان بموجبات البحث العلمي والتقدّم التكنولوجي؛ إذ لا زالت حياتهم كلها خميرة جهل وتخلف تدور حول سرحات الوهم العابث والإيمان بالسحر والخرافة وقراءة الغيب والاعتقاد الساذج في قصص الخوارق والمعجزات.
وظل المتقدّمون والمتأخرون والمحدثون والمعاصرون يقلدون هذه النزعة تقليد القرود، ويردّدون من ورائهم هذه النغمة الخرساء، ولا أحد يتنبّه أن في مثل هذا الترديد نفسه ضرباً لا شك فيه من التقليد الأعمى والتفكير البالي والخوزقة الثقافية وطفولة الرأي والفكر على التعميم.
لم يعد التصوف مطية هجوم كاسح مدمر؛ لأن أكثر ما جذب الغربيين فيه إنسانيته العليا وتسامح رجاله إزاء العقائد والديانات الأخرى، وموضوعاته التي تشترك فيها مطالب الإنسان على وجه العموم. وأكثر الذين تخصصوا في كشف النقاب عن بدائع الحضارة الإسلامية من المستشرقين بدئوا من التصوف وانتهوا إليه، وقارب النوابه منهم كما فعل "ماسينيون" و"كروبان" وبعض دراسات نيكلسون وترمنجهام إلى أن يجعلوه كاشفاً لخصوصية الثقافة الإسلامية، وعلامة عليها قبل غيره من مجالات الفلسفة والثقافة والفكر الديني في الإسلام.
***
حاوره: ا. مراد غريبي - المثقف