اخترنا لكم
سالم سالمين النعيمي: الذكاء الاصطناعي ونهاية الإبداع

لم يعد السؤال، هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على الإنسان؟ بل أصبح ماذا سيبقى لنا بعد أن يحدث ذلك؟ فالدماغ البشري يحتاج إلى عقود ليصقل مهارة أو يبدع نظرية، أما الآلة فتعلمت في سنوات قليلة كيف تترجم، وتحاور، وتكتب، وتغني، وتمثل، وترسم، وتشخص الأمراض، وتتنبأ بالأحداث بدقة كبيرة. في المختبرات الصحية تتنبأ نماذج ذكاء اصطناعي ببنية البروتينات بدقة لم يحلم بها العلماء، وفي الاقتصاد تدير خوارزميات استثمارات تفوق سرعة أذكى العقول المالية، وفي الفنون تنتج صوراً ونصوصاً قادرة على خداع الذوق العام.
هذه ليست توقعات مستقبلية، إنها وقائع حاضرة، ومع كل جيل جديد من النماذج تتضاعف القدرة بشكل لا يوجد له وصف في مصطلحات البشر، بينما نحن محكومون بإيقاع بيولوجي بطيء، فالهوة لم تعد نظرية، بل أصبحت واقعاً يومياً يتسع أمام أعيننا.
ولطالما اعتبرنا الإبداع الخط الفاصل بيننا وبين الآلة، لكن حين يكتب نموذجٌ لغويٌ رواية تُقرأ، وكأنها من صنع كاتب بارع، أو عندما تبيع خوارزمية لوحة بمئات آلاف الدولارات في مزاد عالمي، فمن يملك الحق في الادعاء أن الخيال الرحب إنساني صرف؟ قد يقول بعضهم: إن الآلة لا تشعر! هذا صحيح، ولكن مع تطور تقنيات الوعي والدماغ الاصطناعي البيولوجي، يبقى المستقبل غير محسوم، وشكل من أشكال الوعي الذي سيبهر الإنسان الحديث غير مستبعد، فالذكاء الاصطناعي لا يهدد الأفراد فقط، بل يهدد البنى الاجتماعية، ذلك لأن ملايين الوظائف ستختفي، وشرائح واسعة ستُقصى من سوق العمل، لتظهر طبقة جديدة ألا وهي «البشر غير الضروريين»! عندها لن يكون التحدي اقتصادياً فقط، بل سياسياً وأخلاقياً، كيف تبنى ديمقراطيات على أساس مشاركة بشرية إذا فقد البشر قيمتهم الإنتاجية؟
والأخطر هو أن أنظمة الذكاء الاصطناعي يمكن أن تصبح أداةً بيد قوى احتكارية – دولاً أو شركات- لتضخيم النفوذ والسيطرة. التاريخ يخبرنا أن التكنولوجيا لا توزع نفسها بعدالة، بل تتركز حيث يوجد رأس المال والسلطة، واليوم تتقدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بسرعة تفوق قدرة أي برلمان أو منظمة دولية على ضبطها، فبينما نتجادل حول أخلاقيات الاستخدام، تنتشر تقنيات التزييف العميق في السياسة، وتتخذ الآلات قرارات طبية ومالية وأمنية نيابة عنا، فإذا لم نضع حدوداً واضحة قد نجد أنفسنا أمام كيانات صناعية تمتلك سلطة تتجاوز سلطة الدول ذاتها.
فهل الحل هو الاندماج، وأن نصبح كائنات هجينة؟ نعزز ذاكرتنا ورؤيتنا بأدوات اصطناعية، لكن هل سيكون ذلك خلاصاً أم بداية فقدان إنسانيتنا؟ حين تعتمد أدمغتنا على الآلة في التفكير من سيبقى صاحب القرار نحن أم هي؟ إذاً الاندماج قد يكون حلاً مؤقتاً، لكنه ليس إجابةً عن السؤال الوجودي: ما معنى أن تكون إنساناً إذا كانت كل قدراتك متاحة في جهاز خارجي؟
هذا المانيفستو ليس دعوة إلى الخوف، بل إلى صحوة فكرية، نحن لا نملك رفاهية الانتظار حتى يبتلعنا المستقبل، يجب أن نضع أطراً أخلاقية عالمية، ونظاماً قانونياً جديداً يتجاوز الحدود القومية، ويضمن أن الذكاء الاصطناعي يبقى أداةً في خدمة البشر لا حكومةً فردية تدير العالم وحدها.
الاختبار هذه المرة ليس صراعاً بين دولة وأخرى، بل بين الإنسان كجنس بيولوجي وبين ما أبدعته يداه. وإذا فشلنا قد نجد أنفسنا بعد عقود متفرجين على حضارة تصنعها الآلات، وسرعة تقنية خارقة تكسر الزمن البشري، وخاصة أن الدماغ البشري يحتاج إلى أعوام لبناء خبرة في الطب أو الفيزياء أو الفنون، بينما خوارزمية واحدة يمكنها ابتلاع مكتبات كاملة في ثوانٍ. نحن محكومون بالذاكرة والنسيان والوقت المحدود، أما الآلة فتصنع ذاكرتها الخاصة بلا حدود، تتعلم ليلاً ونهاراً وتحسن من نفسها بآلية لا نهائية، وإذا كان «التفرد التكنولوجي» مجرد خيال في الأمس، فهو اليوم سيناريو يتسارع نحوه العالم، ومن يجرؤ على القول إن المخيلة البشرية لا تقهر؟
ملايين الوظائف ستختفي! هذا ليس توقعاً بعيداً، بل عملية بدأت بالفعل والواقع الحالي أن الذكاء الاصطناعي تجاوز مستوى المساعدة والنماذج الحديثة أصبحت: تقرأ وتفهم وتكتب وتحلل وتبرمج وتخطط وتنفذ وتراجع وتتخذ القرار في آنٍ واحد. وهذه النماذج يمكنها إدارة البريد، وإعداد العروض، كتابة الأكواد، تحليل الأسواق، وإعداد الدراسات المالية، وحتى تصميم حملات تسويقية متكاملة من دون إشراف بشري فعلي. والشركات بدأت تعتمد عليها كموظف افتراضي ينجز خلال 24 ساعة ما يعادل عمل فريق كامل خلال أسبوع، فهل هذا تقدم؟ أم بداية انهيار العقد الاجتماعي؟
***
سالم سالمين النعيمي
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 6 أكتوبر 2025 23:30