اخترنا لكم
ندى حطيط: غرو يرسم خريطة تاريخية لـ«تحولات العار»

فيلسوف فرنسي يستعيده بوصفه «عاطفة ثورية»
في كتابه اللافت «فلسفة العار: عاطفة ثورية» الذي صدرت ترجمته للإنجليزية مؤخراً*، يخوض الفيلسوف الفرنسي فريدريك غرو مغامرة فكرية جدّ فريدة: استعادة العار من ظلال التحقير النفسي والمجتمعي، والبحث فيه بوصفه قوة أخلاقية وسياسية وتحررية. فمنذ بدايات الحداثة، ظل العار في الخطاب الفلسفي والنفسي الغربي إما مهمشاً وإما مختزلاً كأحد الأعراض المرضية، بينما يقترح غرو قراءة جديدة له، تستعيد قدرته على إشعال اليقظة، وكشف التناقضات، ودفع الذات والجماعة نحو الاعتراف، والتحول، والتغيير.
ينطلق الكتاب من تأسيس دقيق لفهم العار، عبر التمييز بينه وبين الشعور بالذّنب؛ حيث الشعور بالذنب يرتبط بفعل خاطئ تجاه الآخر، يمكن تبريره أو التكفير عنه، أما العار فهو متعلق بالذات نفسها، بهويتها، بكينونتها كما يراها الآخر. الذّنب يقول: «لقد أخطأت»، أما العار فيهمس: «أنا خطأ». ويرى أن هذا الفرق الجذري هو ما يجعل العار أكثر قسوة، وأكثر استعصاء على العلاج، ولكنه أيضاً أكثر صدقاً؛ لأنه يكشف هشاشة الإنسان أمام نظرة المجتمع والمعايير، وأمام ما يظنه المرء عن نفسه حين يتموضع في عيون الآخرين.
ويرسم الفيلسوف لقرائه خريطة تاريخية لتحولات العار من المجتمعات التقليدية التي كان فيها شعوراً جماعياً مرتبطاً بمفهوم الشرف والكرامة، إلى الحداثة حينما تم تفكيك الجماعة وتحويله إلى شعور خاص يُربط بالفشل الفردي، أو الانحراف عن المعايير التي تشكلها النخبة. ويشير في ذلك إلى أن هذه (الخصخصة) له لم تكن تجربة تحررية، بقدر ما كانت وسيلة جديدة للضبط الاجتماعي؛ خصوصاً في المجتمعات البرجوازية التي أعادت إنتاجه داخل الأسرة، وعبر الدين الرسميّ، والعلاج النفسي، والتعليم، بحيث يصبح النساء والفقراء والمهاجرون مثلاً أكثر عرضة له، لا بسبب أفعال اقترفوها؛ بل بسبب ما هم عليه: هويتهم، ولون بشرتهم، ومظهرهم، وأزياؤهم، وأصواتهم، وميولهم، وما إلى ذلك.
يخصّص غرو في نصّه فصلاً للحديث عن العار في العصر الرقمي، ويرى أن وسائل التواصل الاجتماعي قد أعادت إنتاجه، ولكن بشكل سطحي واستعراضي، من خلال ما صار يعرف بـ«ثقافة الإلغاء» التي هي تعبير عن رغبة في القصاص الأخلاقي، ولكنها غالباً ما تتحول إلى مهرجان جماهيري للسخرية والتشهير، الغاية منه إذلال «الآخر» في الفضاء العام، لا مساءلته بالفعل، ما يجعله أشبه بطقوس تطهر جمعيّ: أداة فاعلة للتنمّر الأخلاقي لنبعد عن ذاتنا خطر الاتهام، عبر توجيهه إلى جانٍ مفترض، فنبقى «نحن» في منأى عن الشّبهة. وهكذا، أصبح العار أداة لتعزيز الهوية الفردية الزائفة، لا لبناء تضامن حقيقي.
في أحد أكثر الفصول إثارة للجدل، يقترح غرو إعادة توجيه هذا العار بدلاً من الفرار منه؛ إذ يمكن أن يكون منبعاً لغضب خلّاق ناتج عن الشعور بعدم العدالة، وعن الإحساس بأن ما يحدث لا يمكن احتماله. ولذلك فهو شعور لا يفتك بنا؛ بل يدفعنا إلى التعبير، وإلى الفعل، وإلى قول «لا». من هذا المنظور هو ليس نهاية للوعي؛ بل لحظة ولادته: عند إدراك أن الصمت لم يعد ممكناً، وأن التحمل لم يعد خياراً، وهكذا، يصبح وكأنّه نقطة انطلاق للتغيير، لا كارثة نفسية.
العلاقة بين العار واللغة محورٌ أساسي في فكر غرو. فهو يعتقد بقدرته على احتراف الصمت وتكميم الأفواه، ولكنه في الوقت نفسه يولّد رغبة في الإفصاح. وبين السكوت والقول تكمن مساحة التحول: فإما أن يغلق الأفواه إلى الأبد، وإما أن يكون دافعاً ثوريّاً للكشف، والبوح، والتصريح.
وفي هذا السياق، يستشهد غرو بتجربة الكاتبة الفرنسية آني إرنو –حائزة نوبل للآداب 2022- التي حوّلته إلى مشروع أدبي وسياسي، بالكتابة عن الفقر، والرغبة، والإجهاض، والعلاقات الطبقية، فصنعت من تجربة الشعور به شهادة ذاتية وجماعية، تعاقر الألم في قلب اللغة.
من الطروحات الأساسية في الكتاب أن العار لا يكون بالضرورة نتيجة لفعل مُرتكب؛ بل يمكن أن يكون شيئاً يولد الإنسان به؛ يرثه الأبناء عن الأمهات، ويحمله الفقراء دون أن يعرفوا بالضرورة أسبابه، وتضعه المجتمعات في عنق أقليات بأكملها. هذا ما سمَّاه غرو بـ«العار الموروث»، وهو عار غير مستحق، ولكنه يلاحق أصحابه كلعنة أبدية. ومن هذا المدخل، يغدو تجربة وجودية لا ظرفية، ونقطة تقاطع للفردي بالجماعي، وللنفسي بالسياسي، وللذاتي بالاجتماعي.
يقول غرو إن العار يُجرَّم في زمن السعادة الشكلية، وثقافة «التنمية الذاتية» المبتسرة؛ لأنه يُفقد الناس شعورهم بالكمال الزائف، ولكنه يعدُّ ذلك خيانة للصوت الداخلي الذي ما يلبث يقول للمرء إن هناك ثمّة ما لا يُحتمل، وما لا يمكن السكوت عنه. وفي هذا المعنى، يكون الشعور به بمثابة رفض للاستسلام، ومناهضة للاعتياد. ولذلك يقترح النصّ تبني أخلاقيات جديدة مقابل تلك القائمة على العقاب أو الثواب، تبدأ من الشعور بالعار، لا بوصفه انكساراً؛ بل بوصفه إحساساً بالمسؤولية، ليس تجاه القانون فحسب؛ بل تجاه الآخرين، وتجاه الذات. وبهذا المنطق، لا يعود شعوراً يجب التخلص منه، ولكن مهلة للتفكير، والتدبر، وإعادة النظر. فمن يشعر به، إنسان لم يمت قلبه بعد، حيّ بما يكفي ليغضب، وليرفض، وليتساءل، وربما ليغيّر ويتغيّر.
لعل أبدع الأفكار تلك التي تتعلق بالصداقة؛ حيث الصديق الحقيقي ليس فقط من لا يخجل المرء أمامه؛ بل من يقدر أن يخجل أمامه، فيبوح له بعاره دون أن يخشى حكماً مطلقاً أو إدانة. ويذهب في ذلك أبعد، ليعيد تعريف الفلسفة نفسها بوصفها «العار الكبير»: الفلسفة -كما مارسها سقراط- ليست تعليماً؛ بل إرباكاً، وليست إجابة؛ بل أسئلة محرجة؛ إذ تجعلنا نخجل من الجهل، ومن الكذب، ومن الشعارات الجوفاء، وتدفعنا إلى قول الحقيقة ولو أمام مرآة ذاتنا. ومن هنا فالشعور بالعار كما بوابة أمل، ووعد خلاص، وأفق لغد أكثر بياضاً.
***
ندى حطيط
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:30 يوليو 2025 م ـ 05 صفَر 1447 هـ