اخترنا لكم

إبراهيم بورشاشن: عوام الفقهاء

إن هذا التعبير الذي جعلناه عنواناً لهذه المقالة هو في أصله تعبير لابن رشد، ذَكَرهُ في كُتيبه «مختصر المستصفى» لأبي حامد. وابن رشد المهموم بالسّنن، والحريص على تماسك المجتمع تلفاه حذراً من كل قول يبث الفرقة، ويؤجج النّزاع، ويبلبل الفكر، ويشوش على النّاس فكرهم ودينهم، وبخاصة ما يسميه بـ«الشريعة الأولى»، أي الشريعة كما تُفصح عنها ظواهر القرآن الكريم والحديث النبوي، كما يفهمها جميع المخاطبين على اختلاف مراتبهم في التصديق. ومن هنا نقده لتأويلات علماء الكلام في الشريعة التي اتسمت بالتخبط في إخراج الخطاب القرآني عن مقاصده العقدية. وعملاً منه على تصحيح ما أحدثه هؤلاء في الشريعة من تمزق، كتب كتابه الهام «مناهج الأدلة».

لكن ابن رشد في «مختصر المستصفى» أكثر التحذير ممّن أسماهم بـ«عوام الفقهاء»، هذه الفئة المنتسبة للفقه بحفظ الفروع والقياس عليها، والذّاهلة عن التغيرات المذهلة التي طرأت على مجتمعاتها، وهي التغيرات التي تقتضي نظراً فقهياً جديداً متمرساً بالاجتهاد، لكن هؤلاء العوام يقولون فيها أقوالاً مجلوبة من عصور مضت، أقوالاً مكرورة في القديم لوقائع مضت وانتهت، أقوالاً إن كانت صالحة لزمان مضى فهي عن الزمان المعيش أبعد وأنأى. ومن هنا حرص ابن رشد على بيان أن هذه الفئة من الفقهاء ليس لها محل معتبر في المدينة الإسلامية لأنها ترهن الحاضر بالماضي، فتضيق على الناس ديناً أصبح الواقع شريكاً في الحكم على قضاياه، كما فصّل في ذلك فيلسوف المعقول والمنقول الشيخ العلامة ابن بية حفظه الله. إن إشراك الواقع في الحكم أمر يذهل عنه عوامُ فقهاء زماننا لفقدهم بوصلة الاجتهاد التي تقتضي تكويناً عميقاً يؤهل لنظر يتردد بين أصول الشريعة وبين الواقع الذي تفك مغاليقه العلوم الإنسانية. وقد شبّه ابن رشد هؤلاء العوام بصانعي الخِفاف الذين عِوض أن يصنعوا لكل قدم خُفًّا مناسباً له، يصنعون، خفافاً كثيرة ويراكمونها في دكاكينهم، وكلما جاءهم طالبٌ خُفٍّ أخرجوا له خُفاً مما صنعوه من قبل دون مراعاة المقاس، وكأن الأقدام كلها على مقاس واحد. وهو مثال استعاره ابن رشد من كتاب السفسطة لأرسطو.

إن الإصلاح الديني المعاصر يقتضي خلق فضاء فكري سليم من التشويش والبلبلة، وقد كان اقتراح ابن رشد ليس فقط «إلجام العوام عن علم الكلام» تأسياً بالغزالي، بل إلجام علماء الكلام أنفسهم عن علم الكلام، مع دعوة إلى إقصاء «عوام الفقهاء» من المدينة الإسلامية. ولله در أبي حامد الغزالي الذي أفرد كتاب العلم، من «إحياء علوم الدين»، لسبر أغوار نفوس هؤلاء العوام، قبل أن ينادي ابن رشد بضرورة تطهير المدينة الإسلامية من آفاتهم العلمية والخلقية.

قد يثير البعض شكوكاً على هذا الموقف فيقول: إن فيما تقوله دعوة إلى إيقاف الحركية الفكرية داخل المجتمع بما هي حركية تتغذى من التّناقضات والمتضادات الفكرية؟ ونسارع فنقول: من بديهيات القول إننا نعاني في حركيتنا الثقافية المعاصرة من وضع يغيب فيه التعامل غير النقدي مع تراثنا وماضينا، وهو ما يجعلنا نستدعي إشكالات الماضي لحاضر لم يعد له من نسب كبير إليها، وأن المطلوب اليوم هو سعي حثيث إلى إقامة علاقة تأويلية جديدة مع القديم، قراءة تتغذى من مكتسبات المناهج الحديثة والعلوم الإنسانية من أجل قراءة تراثنا قراءة تجد في التّجاوز طموحاً إلى تأسيس ذات عربية، بشخصيتها القاعدية، فاعلة في الحقل الفكري المحلي والعالمي، ومستشرفة آفاق الكونية التي كنّا دوماً جزءاً منها قبل أن تنحسر أدوارنا في التاريخ.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 10 يوليو 2025 22:30

 

في المثقف اليوم