اخترنا لكم

محمد البشاري: سلطة المثقف.. الدور الممكن بعد الحداثة

لم يكن المثقف يوماً كائناً منعزلاً عن أسئلة الوعي والمعنى، بل ظل حارساً يقظاً للقيم وساعياً نحو تأويل العالم في ضوء العقل والتجربة والضمير. لقد صاغت الحداثة صورته كممثل للعقل الكوني ومنظّر للعدالة، وناظم للمعرفة، في سياق كلي شمولي.

غير أنّ هذه الصورة تخلخلت مع تحولات ما بعد الحداثة، التي أعادت مساءلة المفاهيم المؤسسة: الحقيقة، العقل، التقدم، وأخرجت المثقف من موقع الناطق باسم الكل، إلى فاعل ضمن فضاء تعددي يتطلب الحذر والتواضع المعرفي. فالمثقف الحداثي قد تكلّف أحياناً دوراً يتجاوز المعرفي نحو ما يشبه النبوءة الفكرية، متكئاً على يقينيات عقلانية متعالية، ومتحدثاً باسم الإنسان المجرد، غير أنه، كما كشفت القراءات النقدية، كان في كثير من الأحيان يتكلم من داخل منظومة معرفية مشروطة، تستبطن تصورات مخصوصة للكون والإنسان والمعنى.

أما الفكر ما بعد الحداثي، فقد قلب الطاولة على هذه الطموحات، حين أبان أن كل خطاب هو نتاج سياقات، وأن الحقيقة ليست معطى خالصاً بل بناء رمزي، وأن المثقف ليس فوق التاريخ، بل غارق فيه. هذا التحول، رغم عمقه، لم يقد إلى إعادة بناء دور المثقف على نحو إيجابي، بل أدّى إلى انحسار سلطته الرمزية، وتراجع قدرته على إحداث الأثر الجمعي.

لقد تحوّل إلى «خبير» أكثر من كونه حاملاً لمشروع فكري، وابتعد عن الأفق التأويلي لصالح الأدوار الوظيفية. وفي ظل تسارع الزمن الرقمي، وتكاثر المنصات، وتفكك المرجعيات، صار حضوره باهتاً، وصوته عرضة للضياع بين ضجيج الآراء اللحظية. في هذا السياق، يبرز النموذج الذي قدّمه المفكر الإسلامي علي شريعتي، والذي لا يُستقى من مرجعية غربية، بل من فقه الوعي النابع من التجربة الحضارية الإسلامية.

لم يكن شريعتي يسائل موقع المثقف من حيث هو سلطة رمزية، بل كان ينظر إليه بوصفه حاملاً لأمانة فكرية ومعنوية، ينطلق من وجع الإنسان لا من تنظيرات متعالية. فالمثقف عنده ليس فقط من يُحسن التأويل، بل من يحمل همّ التغيير المعرفي، ويصوغ وعياً قادراً على ملامسة الضمائر لا مجرّد العقول. لقد اختار شريعتي أن يكون المثقف شاهداً لا خطيباً، مؤولاً لا مفسراً، سائلاً لا واعظاً. إنه المثقف الذي لا يكتفي بتوصيف الواقع، بل يذهب نحو إعادة فتح الأسئلة الكبرى للوجود والمعنى والكرامة.

ليس بالضرورة أن يقدّم أجوبة نهائية، بل إن يُبقي على جذوة السؤال حيّة، وعلى القلق المعرفي يقظاً، لأن لحظة السؤال هي لحظة التغيير الحقيقي. وهكذا يعود دور المثقف ليُعرّف من زاوية مسؤوليته الأخلاقية في حفظ الذاكرة، واستنطاق المعنى، وتجديد صيغ الفهم بعيداً عن الصخب الإعلامي أو الاستعراض الخطابي. ليس هو من يتصدر المنابر، بل من يقف خلف الكلمة الصادقة، والحكمة المسؤولة، والعقل الحاضر بضمير حي.

في زمن التشتت الرقمي والتسطيح المعرفي، تصبح الحاجة إلى هذا النوع من المثقف أمراً وجودياً، لا خياراً ثقافياً فقط. المثقف الذي لا يُعرّف بمكانته الأكاديمية، بل بأثره المعنوي، لا بسلطته الرمزية، بل بحضوره كضمير تأويلي يعيد ربط الإنسان بذاته، والتاريخ بمقاصده، والمعرفة بسؤالها النبيل: ماذا يعني أن نفكر لنكون أكثر إنسانية؟

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 10 يونيو 2025 23:29

 

في المثقف اليوم