اخترنا لكم

السيد ولد أباه: العدالة المعرفية والفخ الغربي

في إطار ابستمولوجيات الفضائل التي هي مبحث فلسفي جديد، بلورت الفيلسوفة البريطانية ميراندا فرايكر نموذجَ غياب العدالة الابستمية الذي تعني به أشكالَ الغبن والتفاوت الصادرة عن خلفيات معرفية وإدراكية، غالباً ما تكون غير واعية. وفي هذا السياق، تميز فرايكر بين نموذجين من غياب العدالة المعرفية،، يتعلق أولهما بالشهادة والتزكية ويتعلق ثانيهما بالتأويل والفهم.

النموذج الأول يعود إلى المصادرات القبْلية المسبقة ذات الصلة بالمنزلة الاجتماعية، مثل وضع المجموعات المهمشة والمقصية لأسباب تاريخية أو ظرفية حالية، بما يولد ضرباً من التشكك والتوجس إزاء أقوالها وشهاداتها، بغض النظر عن مضامين الخطابات والأفكار نفسها.

 أما النموذج الثاني، فينبع من المصادر التأويلية المتقاسمة التي تحول دون دمج واستيعاب بعض أنماط الخطاب والقول في دائرة المعقولية والمعنى، لكونها غير قابلة للضم إلى النسق المرجعي القائم.

 ما تؤكد عليه فرايكر هو أن حالات الاستغلال والغبن لا تتعلق دوماً بسياسات التمييز والاستغلال الاقتصادية (كما يرى اليسار التقليدي)، بل قد تنتج عن العوامل الثقافية ومحددات التمثل والتصور، أي صراع التصنيفات الذي كثيراً ما يلتبس بصراع الأصناف (الطبقات والفئات الاجتماعية).

 ومن هنا تبنت فرايكر مقاييس ابستمولوجيا الفضائل التي تعتبر أن نظريات المعرفة بنيت تقليدياً على مرجعية النص أوالخطاب من حيث براهينه الداخلية ومضمونه الموضوعي، دون اعتبار للوضع الأخلاقي لحالة المؤلف أو منتج القول. ووفق هذه الرؤية، لا تقاس صلاحية الخطاب بنسقه الدلالي أو قوته البرهانية، والحال أن المعارف الإنسانية ظنية احتمالية، لا توجد فيها حقائق مطلقة ولا يمكن التأكد علمياً من حقيقتها، ولذا كان من الأجدى التركيز على ظروف إنتاجها ومعايير تشكلها من حيث القيم الثقافية والضوابط المنهجية التي يتبعها ويعتمدها المؤلفون.

 لقد بلور القدماء، منذ أرسطو، منهجيةَ المنطق الصوري الذي اعتبروه ميزاناً لقياس المعارف الصحيحة، ثم تخلى المحدثون عن هذا المقياس محبذين المنهج الرياضي التحققي الذي وضعه ديكارت وطوّره فلاسفة العلم المعاصرون، قبل أن يكتشفوا أنه غير مجد في المعارف الإنسانية التي هي تجارب تأويلية تُنال بالفهم لا بالتفسير، وبالحدس لا بالبرهان الموضوعي.

 بيد أن الفكر الإنساني الحديث ظل متشبثاً بفكرة الكونية المعرفية، أي خضوع كل المجتمعات البشرية لنفس النماذج التفسيرية، على اختلاف سياقاتها التاريخية والاجتماعية.

ومنذ هيغل تكرست هذه الرؤية الخطية للتاريخ الإنساني في سيرورته الأحادية، وقدم فيلسوف الوضعية أوغست كونت قانوناً مرجعياً لهذه السيرورة في محطاته الثلاث المشهورة، قبل أن يدعي ماركس أنه اكتشف قوانين التاريخ البشري.

 إلا أن الأمر هنا لا يتعلق بمجرد خيارات فلسفية، بل باتجاه كامل سيطر على الدراسات الإنسانية، ولم تضعفه الاكتشافات الانتروبولوجية للمجتمعات المغايرة التي أطلق عليها الجيل الأول من علماء الأثنولوجيا عبارة «شعوب متوحشة» أو «بدائية».

 لقد طرح المفكر الأرجنتيني «والتر ميغنولو» خيارَ «العصيان المعرفي» epistemic disobedience في مواجهة ما اعتبره «السردية الغربية» التي قامت على احتكار الكونية وإقصاء الثقافات الأخرى من دائرة المعقولية والحقيقة. والهدف هنا هو بوضوح محاربة الهيمنة المعرفية الغربية وإعادة الاعتبار لابستمولوجيات الهامش (في أفريقيا وأميركا الجنوبية أساساً)، تقويضاً لمسلّمة اختصاص الغرب بالعلم والمعنى. ومن الجلي أن هذا الاتجاه أصبح له تأثير واسع في بلدان الجنوب، لكنه لم يؤد إلى نتاج فكري نوعي، في ما وراء المحاولات الهشة لاكتشاف فلسفة أفريقية شفهية بالاستناد إلى تراث الحكمة المحلي (فلسفة البانتو مثلاً)، أو السعي لاستبدال العلوم التجريبية بالممارسات السحرية والطوطمية في أميركا اللاتينية، وهو الاتجاه الذي بدأ مبكراً في أعمال عالم الأنتربولوجيا الفرنسي المعروف كلود ليفي شتراوس.

 فكرة العصيان المعرفي لتحقيق مطلب العدالة الابستمية الذي تحدثت عنه ميراندا فرايكر لا غبارَ عليه، وليس مدارَ اعتراض، إلا أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن نماذج وأدوات العلوم الإنسانية لا تزال من إبداع وإنتاج علماء غربيين.

 بل إن فكرة العصيان المعرفي ذاتها نشأت من داخل الفكر الغربي نفسه، مع محاولات الفيلسوف الألماني نيتشه في نهاية القرن التاسع عشر إبطالَ التصور الثابت الذي قامت عليه الحداثة الأوروبية، أعني كونية العقل الذاتي وحياديته المعيارية. فمفكرو ما بعد الكولونيالية مضطرون اليوم للرجوع إلى التيارات التفكيكية والنقدية الغربية في الحملة الهجومية على المركزية الثقافية والمعرفية الغربية، وهم بهذا المعنى يعبرون عن أحد وجوه وتجليات الحداثة الغربية التي يتوهمون الخروج عليها!

***

السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 8 يونيو 2025 23:45

في المثقف اليوم