اخترنا لكم
حيدر المحسن: الدشداشة والأركيلة وشاعر المليون

لم تكن قصيدة المرض التي اشتهرت بها الراحلة نازك الملائكة (الكوليرا) عن مصر – دائما عن مصر- هي خطوة الشعر الحديث الأولى، وإنما عثرة لقدم الملائكة اليسرى، سرعان ما تداركتها بالقدم اليمنى، وسارت إلى نهاية الدرب. في حديث ضمني والشاعر إبراهيم الماس، وكنا نتجول في بساتين الرمان في بلدته «بنجوين»، وصف الماس عودة الشاعرة إلى القريض بأنها «رجعتْ رجعةَ الهندل»، وهذا قضيب من الحديد كان يُدار به محرك العجلة من الأمام، فإذا فَلَتَ من قبضة السائق، رجع بقوة وسرعة وربما أدى إلى كسر ذراعه وتعويقها.
لو أردنا تفسير ظاهرة الشعر العمودي الذي يشيع الآن في بعض بلداننا، فإن علينا العودة إلى القصة منذ البداية. أول من نعر بالقصيدة العمودية في الثمانينيات من شعراء الحداثة هو عبد الرزاق عبد الواحد. ظل هذا طوال عقدين يمد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بمطولات في مدحه، محاولا التشبه بالمتنبي وعلاقته مع سيف الدولة في ذلك الزمان، وكانت هدية الرئيس عن إحدى قصائده قصرا يُطل على نهر دجلة. تتالت بعد ذلك الخرز في سبحة شعراء العمود، على قاعدة العملة الرديئة تطرد الجيدة، ونتيجة لهذا الإغراء الذي كانت ساحته مهرجان المربد الشعري كل عام، تناظر عدد الشعراء والقصائد والـ»مكرمات» السخية، مع حروب صدام حسين مع جميع دول العالم، تقريبا، وربما كانت قصائد المديح محفزا قويا له، للسير في خطواته المجنونة.
كان عمود الشعر قد انقصم منذ ستينيات القرن الماضي، مثلما هو معروف، كما أن وريثه، أو ما يسمى بشعر التفعيلة، انحسر إلى درجة أنه لم يكن يطلبه أحد من شعراء الحداثة، بمن فيهم من الأجيال القديمة في ذلك العهد، مثل محمود البريكان وأدونيس وسعدي يوسف. اتخذ هؤلاء من بحريْ المتقارب والمتدارك سلما لقصائدهم، وهما أقل بحور الفراهيدي صخبا وأقربها إلى قصيدة النثر. واختار محمود درويش بحر الكامل واحدا، لجميع نشيده الذي قاله في القضية الفلسطينية، وقد أمسى ظاهرة منبرية في ذلك الزمان، وكان ينتشر بين الجمهور في تسجيل الحفلات التي يُقيمها أينما حل، في أشرطة الكاسيت والفيديو. ثم هجر درويش هذا اللون منذ ديوانه «لا تعتذر عما فعلت» عام 2004، قاصدا النوع الأكثر نثرية من الشعر، «في حضرة الغياب» مجموعة ثبّتَ درويش على غلافها «نصوص» عام 2006. في ذلك الوقت كان سعدي يوسف يكتب أعماله بلغة أقرب إلى السرد، وودع أدونيس منذ زمان بعيد كل ما يتعلق بالوزن والقافية. الشعراء الأهم في عالمنا ساروا في طريق الحداثة، وقد استغرقت هذه أفكارهم ونظرتهم إلى المستقبل. فما هو سبب رجوع الشعراء اليوم إلى القريض؟
الشعر فن يشبه غيره من فنون المعيشة، ولم يكن يوما لهوا أو تسلية. ملاحظة دونتها في أحد الأيام على صفحتي في منصة التواصل الاجتماعي، وهي أن الشعر العمودي، لا يُكتب في هذه السنين إلا في بلاد فيها ثقافة الدشداشة والكوفية والعقال في الملبس، والأركيلة في التكييف في المقاهي والمنازل: وهي العراق والأردن وبلدان الخليج. هناك من أيدني في وجهة نظري، وقسم من القراء كانت لديه اعتراضات غير مقنعة. حسب علمي، لم يظهر أحد يدعي القريض في بلدان المغرب وبلاد الشام، والقسم المتحضر من أرض الرافدين. مصر، هي الأخرى، لم يشتهر فيها شاعر عمودي، فإن كانت هناك ردة إلى القريض فإن سببها واضح، وهو تأثير الأفكار السلفية في الشارع، الجهادية منها على وجه الخصوص، وقد تبنتها الأحزاب الإسلامية. إن من يتزعم حزبا يغذي أفكار الإرهاب لا يستطيع أن يُقنع الشباب بقصيدة نثر لا تصفيق يعقبها ولا التهاب في الأكف والأعصاب.
***
أسأل: هل يُكتب اليوم شعرٌ من خارج صمت قلب الشاعر؟ لأنك إذا أردتَ أن تكون معاصرا فالخطوة الأولى هي أن تنأى إلى أبعد ما يمكن عن الصخب والرتابة والصور المتكررة، وهذه ميزات لا تُفارق ما يُنشر الآن ويسود بين الجمهور، نتيجة للردة الثقافية التي تعيشها بلداننا، لأنه لا شعر يشتهر غير ذلك الذي يبثه أصحاب البرامج والمسابقات الشهيرة: شاعر الرسول وشاعر البُردة وشاعر الحوزة، وشاعر المليون والمعلقة والخيمة والقافلة، وأكثر هذا عبارة عن طفرة قصيرة بقدم واحدة إلى الجانب، أو بالقدمين إلى الوراء، مما يُعرف في الجزيرة والصحراء بشعر النبط. لكن الفن ليس زينة تُزال وتُصنع بسهولة وتُصطنع، إنما هو حاجة اجتماعية تخص الناس جميعا لا الفنان وحده. يقول صاحب المثل: «المظلة تصبح عبئاً على حاملها بعد أن يتوقف المطر». أدى الشعر العمودي دوره في الحضارة وانتهى، وتحجرت روحه فهو تحفة أثرية نزورها في المكتبات التي تخص الكتب القديمة، مثل المراجع الثقيلة في الفيزياء والرياضيات والطب وغير ذلك، والبحث عن وسيلة لإحيائه يشبه نبش القبور من أجل إعادة الحياة إلى العظام عن طريق تزيينها وإكسائها ثيابا من هذا العصر، وهذا لا يجوز حتى في الأحلام.
ماذا نقول، مثلا، في رجل يحمل سيفا ويركب حصانا على كورنيش النيل، ثم يروح يهاجم المارة ويحاول طعنهم. نشرت الصحافة المصرية خبرا عن هذا المعتوه، وذكرت أن الشرطة ألقت القبض عليه، ولا نعرف الجهة التي استقر فيها أخيرا؛ مشفى المجانين أم السجن؟! لكن القوانين التي تحمي المجتمع من المجرمين والمخبولين، غير قادرة على منع الجريمة ضد الأدب.
إحدى وظائف الفن هي أن يكون شاهدا ومؤرخا لثبات الإنسان في عصره. هل يعيش الناس هنا، أي في بلاد العرب التي يقول شعراؤها القريض، في زمان يُريدون الرجوع به بإصرار إلى ما قبل ثلاثينيات القرن الماضي؟ الجواب هو نعم كبيرة لأن الشعر عبارة عن صورة لطريقة عيش الجموع، عبر الامتداد اللانهائي للزمن، بل هو سلاح الإنسان ضد قوى الفناء والعدم، والمثل الذي ذكرته عن الشاب المجنون على كورنيش النيل لم يكن اعتباطا، وإنما ليُلقي الضوء على ما أريد. في عصر أسلحة التدمير الرهيبة يجب على الشاعر أن يقدم أداة دفاعية (جمالية) مناسبة، تحمي المجتمع من الرعب والأهوال التي تسببها الحرب. في الخمسينيات، أي منذ صارت القنبلة الذرية سلاحا، انتهى العمود من الشعر في العالم. قرأ أحدهم قصيدة عمودية في ولاية أمريكية، وجابهه الجمهور بهذه الصيحة: كُف يا هذا! قافية واحدة تقولها ستدفعنا جميعا إلى التقيؤ!
كل شيء يمضي به الزمن والساعة، وسلاح عنتر بن شداد لا يُليق بزماننا. كما أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا وسط الهلاوس والتهيؤات، ويكون شريكا للآخرين في صنع الحضارة. العجيب أننا نُقيم في بلداننا (العراق والأردن وبلدان الخليج) مهرجانا لهذا (القيء) أكثر من مرة في العام، وعذرا على نوع الكلام، ولكن لكل مقام مقال…
إن أسمى ما في الوجود هي مظاهر العقل الإنساني، وتشمل الإبداع الفكري والأدبي والعلمي. ولكي يكون المرء مسطولا فينسى جميع هذه المآثر، ما عليه إلا أن يتعامل مع واقعه بطريقة قديمة وبصورة مريعة، ويتم له هذا حين يُعيد تقويمه وساعاته جميعا إلى القرون الخوالي – ولا تكفيه الأركيلة في سبيل تحقيق هذا المطمح الغريب، الحشيش يؤدي هذا الغرض على أكمل وجه، فهو (يكيف) المرء من أجل أن تتلبسه أفكار بائسة عن الماضي المجيد، ترفع من مكانته في عالم الوهم والخيال.
مَنْ يُقارن بين ما يجري في هذه السنين، مع تلك التي شهدتها بلدان العرب في عقود التنوير في بدايات القرن الماضي، رغم فقرنا وقلة الحيلة في ذلك الزمان، يؤمن تماما بأن أيادي خفيةً تُريد تغيير مجرى حياتنا، إلى ركن مهجور نعتزل فيه العالم، ويغطينا فيه سراب الماضي. هناك من يراهن على أنه بمرور الزمن يتحول الشعر الذي انتهى عصره إلى شيء مفيد، كما يتحول الروث إلى سماد، يكتسب المجتمع به مناعة سلبية قوية، إلى درجة أن الناس لا يستطيعون – وإن شاؤوا غير ذلك – إلا أن يتعاملوا مع واقعهم بطريقة موغلة في القِدم، بينما هم يرفلون في طريقة عيشهم بأعلى وأرقى وآخر ما توصلت إليه المدنية من سبل الرفاهية. من يستطيع أن يقرأ هذه المعادلة، ويبقى حرا في تفكيره، ويستعمل يديه في ما يخص العمل الذي يؤدي إلى تطور البشرية وخيرها؟
الشعر الحديث هو حياة يصنعها الشاعر بواسطة كلمات تنتمي إلى عصره، ويتمثل بها الموسيقى الأرقى للغة. التشكيل، والإيقاع، والصورة الشعرية، وغير ذلك مما بلغته البلاغة الحديثة، أشياء تم التوصل إليها من بعد تراكم قرون عديدة من خبرة الشعراء. وكلما كانت موسيقى الشعر هادئة وسليمة وعلى درجة عالية من التناسق، كانت المشاعر والأحاسيس المبثوثة أكثر إرهافا، والأفكار أكثر تعقيدا، وبعيدة تماما عن جو التصورات والأوهام، والشخص القادر على تمثيلها يكون مستعدا لاكتناه قواه الذاتية بلا هوادة. في عصر المسيرات والإلكترون والقبب الحديدية، يحتاج الإنسان أكثر إلى هذا الوعي، لأنه الوسيلة الوحيدة إلى إدراك ما يدور حوله، والقريض الذي تُقام له المحافل اليوم، بما أن زمانه فات ومات، يقوم على النقيض تماما من هذه الرؤية.
***
حيدر المحسن
عن جريدة القدس العربي، يوم: 12/3/2025