اخترنا لكم

إبراهيم بورشاشن: عن كتاب الأخلاق لأرسطو

قد يرى البعض أن الاهتمام بالنظر الفلسفي الأخلاقي القديم بالقياس إلى ما يعرفه هذا النّظر اليوم من مذاهب كثيرة، هو فضل أو جهل أو شرارة، فما الذي يمكن أن يقدّمه أرسطو لنا، بكتبه الأخلاقية على الأقل، في عصر قد يزعم بعضهم، أنّه قد جبَّ ما قبله من قول في الأخلاق؟

اهتم أرسطو بالأخلاق، وكتب فيها كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس، وكتاب الأخلاق إلى أوديموس، وكتاب الأخلاق الكبرى، رغم ما يقال من شك في نسبة بعض منها إلى أرسطو.

وكتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس، الذي يهمنا ها هنا، هو عشر مقالات في الفضائل المحمودة: النظرية والخلقية والعقلية: الخير، الحكمة، السعادة، الشجاعة، العفة، السخاء، الكرم، الحلم، الرقة، الحياء، الإنصاف، العدل، العلم، التعقل، الروية الجيدة، الذكاء والحكم، والمحبة، والصداقة، وأهمية حياة النّظر والتّأمل.

يعالج هذا الكتاب موضوع الطّبع والإلف والعادة، وهما المعنيان اللذان يُفهمان من الجذر اليوناني لكلمة «إتيقا»، éthos بمعنى الطبع، وéthos بمعنى الإلف والعادة، والفعل الأخلاقي لا يفهم إلا من خلالهما، إذ هو يتحدد في دراسة تشكّل الطبع، من أجل الخير الأعظم الذي يسعى إليه الناس بأفعالهم، ويتواضعون عليه، وهو السّعادة. والمسألة كلها تنصب على الفضائل التي يجب على الإنسان أن يمتلكها، وأن يمكّن منها الأطفال للوصول إلى السّعادة الفردية وكذا سعادة المدينة. لأن السعادتين معاً، سعادة الفرد وسعادة المدينة لا تنفصلان.

لا يمكن فصل الفرد عن مدينته، عند أرسطو، فكمال الفرد لا يتحقق له إلا في المدينة اجتماعياً وسياسياً. إن الفرد يعيش داخل ثقافة معينة، وكل ثقافة تسعى إلى تكوين مواطنيها وفق نموذج معين، على نمط السعادة، الفردية والجماعية التي تتمثَّلها. إن الهدف هو حياة سعيدة، وهي الحياة الناجحة، لكن كيف نعيش حياة سعيدة؟

يميّز أرسطو بين ثلاثة أنواع من الحيوات: أولاً، حياة الفكر والتأمل، ثانياً: حياة المتعة، وأخيراً، حياة الأفعال الجميلة المنبثقة من الفضيلة، أي من الجودة. ومن خلال تحليل هذه الضروب الثلاثة من الحياة ينتصر أرسطو لحياة التأمل، دون غمطه حق الحياتين الأخريين. فالحياة الفكرية أفضل عنده، وممّا يرجح أفضلية حياة التأمل أن الإنسان ليس أفضل ما في الوجود، وأن دراسته لما هو أفضل منه يجعل منه إنساناً أفضل. لذا يدعو أرسطو إلى الاستغراق في حياة التأمل، لكن هذا الاستغراق لا يحول دونه والأخذ بأسباب السّعادة الأخرى المعروفة بالخيرات المادية، من صحة جيدة، وجمال، وحظوظ، ومن صداقة.

إن الفضائل لا توجد للإنسان بالطبع، بل هي مرتبطة بتعوّد الإنسان عليها، ولذا فإن تعويد الإنسان منذ طفولته على أفعال الخير هو ملاك الأمر كله في المدينة. وهدف كتاب الأخلاق هو بيان شروط تحقيق الحياة السعيدة، ومن خلال تكوين أفضل للطّبع نصل إلى تحقيق ذلك.

ويمكن تلخيص النظرية الأخلاقية لأرسطو في عدة جوانب أساسية: الفضيلة وسط ذهبي، والفضيلة مكتسبة، والفضيلة لها سبب بالعقل، والفضيلة ممارسة اجتماعية، والفضيلة تحقيق للغرض الأسمى السعادة.

وأخيراً، إن كتاب الأخلاق لأرسطو خزَّانٌ من الفضائل النظرية والأخلاقية والفكرية التي لاتني العصور الفكرية تغترف منها على الدّوام، ومن هنا فإن العناية بهذا الكتاب ضرورة فلسفية وأخلاقية لفهم كيف تشكّل الخطاب الأخلاقي على المجرى الصناعي من جهة، وكذا التّعلم من طرائقه التربوية ومضامينه الأخلاقية، و«كتاب الأخلاق لنيقوماخوس» هو صِنْوٌ لكتاب الخطابة الذي سنتحدث عنه في الحلقة المقبلة بإذن الله تعالى.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 24 يناير 2025

في المثقف اليوم