اخترنا لكم
محمد الخشت: كيف يتجاوز الدين والعلم أساليب النقاش القديمة؟ (1)
"تتردد فى داخلى ثلاثة أصوات: أحدها يحمل مصباح الحكمة الروحية الآتية من الأنبياء، والثانى يحمل عدسة المعرفة التجريبية والرياضية الآتية من العلماء، والثالث آتٍ من الحكمة الكلية للفلاسفة.
الأول هو الدين، والثانى هو العلم، والثالث هو الفلسفة. الأول يجيب عن سؤال: «لماذا نحن هنا؟ وماذا يجب علينا أن نفعل؟»، والثانى ينشغل بالإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالكيفية: «كيف يعمل الكون؟ ما القوانين التى تحكم الطبيعة؟ وكيف يمكننا تسخيرها؟». والثالث إنما هو جسر تتساءل العقول المارة عليه: «ما طبيعة الحقيقة؟ وكيف نصل إليها؟» و»ما معنى الخير؟ وكيف نحققه فى الوجود؟». ولا شك فى أن هذه الأسئلة الغائية الكبرى: لماذا؟ وكيف؟ وما الحقيقة؟ وما الخير؟ وماذا يجب علينا أن نفعل؟ هى مفاتيح الوجود الإنساني.
وحين ينشغل العلم بالإجابة عن أسئلة الواقع المادي: كيف يعمل الكون؟ فإن الدين يضيء أسئلة الغاية الكبرى: لماذا خُلقنا؟ وما مصدر القيم؟ لكن الفلسفة تتساءل، عن الأصول المشتركة، بين هذه الأسئلة الثلاثة، وكيفية تداخلها فى الوعى الإنساني، والتحقق من ذلك كله. وإذا كان الدين يعتمد على الوحى الإلهي، كمصدر أساسى للمعرفة، والعلم يعتمد على التجريب والملاحظة، فإن الفلسفة تنطلق من التأمل العقلى والتجريد؛ لفهم البنية الكامنة خلف هذه المناهج المختلفة. وغاية الفلسفة هنا، ليست الإجابة الحاسمة مثل الدين، بل مساءلة وفحص المعنى نفسه؛ للتأكد من دقته وسلامته، فى حدود العقل وحده، أو هكذا ينبغى أن يكون. فالفلسفة، تنظر فى كل هذا لتفهم حدود العقل والوجود.
ونظرًا لهذا الاختلاف فى المناهج، كان النقاش الداخلى فى عقلي، بين الدين والعلم والفلسفة، دائمًا، حوارًا، ولم يكن صراعًا فى يوم من الأيام. لكن الفلسفة تدخل فى هذا الحوار لتعيد صياغة الأسئلة من جديد، فتقول: هل هناك مساحة مشتركة يمكن أن تجمع بين الدين والعلم؟ وكيف يمكن لهذه الأصوات الثلاثة أن تتكامل، دون أن تلغى إحداها الأخرى؟ تطرح الفلسفة هذا التحدي، بوصفها وسيطًا عقلانيًا، لا ينتمى إلى المطلق الدينى أو النسبى العلمي، بل تسعى – من وجهة نظري- إلى بناء جسر بين هذين العالمين، ثم تصعد لتنظر من منظور شامل إلى الوجود.
عزيزى القارئ، لك أن تتساءل: كيف تبحث عن الحقيقة؟ قد تجد نفسك منجذبًا إلى صوت الروح أو العقل الكلى الذى يقودك «حدْسًيا»، أو بلغة أبسط: «بالبصيرة» نحو النقاء الروحى فى الدين. وعلى سبيل المثال، عندما تواجه تساؤلات عميقة، عن معنى الحياة، أو الغاية من وجودك، قد تلجأ إلى القرآن لتجد فيه إجابات غائية تخاطب روحك، مثل آية: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عُبثٌا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ» (المؤمنون: 115)، «الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» (الملك: 2)، «وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ» (آل عمران: 191). فالقرآن يرفض العبثية، ويؤكد أن الحياة لها معنى كبير وهدف سامٍ .هنا، الدين يمنحك يقينًا وراحة، فى أن حياتك لها غاية سامية تتجاوز حدود هذا العالم، ويمكنك أن تراهن عليها.
أو ربما تأخذ طريقًا آخر، وتغوص فى البحث العلمى لفهم أسرار العالم المادي. مثلا، عندما تتأمل كيف يتكون المطر، سوف تجد أن العلم يقدم لك تفسيرًا دقيقًا يعتمد على قوانين الفيزياء: تبخر الماء من البحار، ثم تكثفه فى السحب، ثم سقوطه أمطارًا بفعل الجاذبية. العلم هنا يجيب عن سؤال «كيف» بشكل دقيق ومباشر، مما يسمح لك، ليس فقط بفهم الطبيعة، بل أيضًا بتسخيرها لمصلحة البشرية، مثل بناء السدود لتخزين المياه دون إلحاق ضرر بالآخرين ودون جور على حقوقهم التاريخية.
أما الفلسفة، فهى تأخذك إلى مستوى مختلف تمامًا؛ فهى لا تعطيك إجابة جاهزة كالدين، ولا تفسيرًا عمليًا كالعلم، بل تجعلك تسأل عن معنى هذه الإجابات نفسها. مثلًا، إذا سألت: «هل الحياة جديرة بأن نحياها؟»، أو «ما سبب وجود الشر فى العالم؟ أو «ما الذى يجعل المعرفة يقينية؟ أو «هل تفسير العلم للمطر يكفى ليجعلنى أفهم جمال السحب والمطر أو رمزيتهما فى حياتي؟»، فإنك هنا تدخل عالم الفلسفة. إنها تدعوك للتأمل فى حدود العقل: إلى أى مدى يمكننا فهم العالم؟ الفلسفة تسأل هذه الأسئلة بعمق، مثلما فعل سقراط عندما قال: «الحياة التى لا نخضعها للتأمل والتفكر لا تستحق أن تُعاش». وقد وردت هذه العبارة فى محاورة «الدفاع» (Apology) لأفلاطون. قالها سقراط فى أثناء محاكمته، عندما دافع عن فلسفته وسعيه المستمر للبحث عن الحكمة والمعرفة. فى هذا السياق، يشير سقراط إلى أن التفكر والنقد الذاتي، هما جوهر الحياة الفاضلة، وأن العيش دون ذلك يعنى العيش بلا غاية أو معنى حقيقي. بهذا، الدين يخاطب روحك وبصيرتك، والعلم يخاطب عقلك العلمى العملي، والفلسفة تجعلك تفكر فى العلاقة بين الاثنين، بل تجعلك تفكر فى كل شيء، وكيف تشكل هذه الأصوات الثلاثة فهمك للوجود بكامله.
وتأسيسا على ذلك، فإن الدين، بملامحه التى تتجاوز حدود المرئي، هو الحلم الإنسانى بالوصول يوماً ما إلى المطلق. أما العلم، بمنهجه التجريبى والرياضي، فهو الأداة التى تحسن معرفتنا بالكون ونرجو أن تجعل حياتنا أفضل. وبينهما، يختبئ السؤال الكبير: كيف يمكن للحلم أن يتعاون مع الأداة، وكيف يمكن للأداة أن تحقق الحلم؟ لن يتحقق هذا بدون تجاوز الماضى وتجاوز أساليب النقاش القديمة، وهذا ما يجب أن تقوم الفلسفة بالإجابة عنه، كمراقب ووسيط وصانع للأسئلة والتحليلات النقدية التى تكشف تداخل الأبعاد الروحية والعقلية والمادية. ومن ثم تجسير الفجوة بين الجميع".
***
د. محمد عثمان الخشت
عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الأحد 29 ديسمبر 2024