اخترنا لكم
عبد الجواد ياسين: في نقد الكهنوت (1)
مناقشة حول المؤسسة الدينية
لم تنشأ في الإسلام هيئة منظمة من رجال الدين، ذات بنية إدارية مستقلة، وصلاحيات سلطوية مدعمة بالنصوص، على غرار الكنيسة الكاثوليكية. فهل يعني ذلك أن تاريخ الإسلام لم يعرف فكرة “الكهنوت”. أم أن هذه الفكرة، التي تضرب بجذورها في التاريخ العام للتدين، فرضت نفسها داخل السياق الإسلامي في صيغة مغايرة للصيغتين اليهودية والمسيحية؟
إسلاميًّا، لا تتضمن النصوص أي تكليف بإنشاء مؤسسة تمارس الوظائف التاريخية للكهنوت: التواصل مع الإله والتعبير عن إرادته/ خدمة الطقوس والشعائر/ تمثيل الديانة وحراسه اللاهوت.
1- في مرحلة التأسيس الأولى، ظلت هذه الوظائف حكرًا على النبي الذي يختص دون غيره بنقل الوحي، وإملاء التكاليف، والدفاع عن كيان الديانة الناشئة. في هذا السياق المبكر لم تكن “الدولة” قد تبلورت كجهاز سلطة منظم، ولم يكن “الفقه” قد تشكل كقوة نظرية موازية من خلال طبقة الفقهاء التي ستظهر لاحقًا في أواخر عصر التدوين.
2- مع تبلورها الصريح وظهور طابعها الديني (في العصر العباسي)، ستفرض الدولة نفسها -بإسناد فقهي- كحارسه للدين وستسند إلى الفقهاء مهمة القضاء والفتوى وخدمة الطقوس.
3- بامتداد عصر التدوين، الذي استغرق القرون الثلاثة الأولى، كانت جماعة الفقهاء تتشكل طبقة متميزة بالمعنى الثقافي الاجتماعي، وأمكن لها القيام ببعض الأدوار السياسية، وبشكل تدريجي ظل نفوذ هذه الطبقة يتصاعد مع تفاقم حركة التدوين من ناحية، وتراجع قوة الدولة المركزية من ناحية ثانية. وبالنتيجة تطورت إلى مؤسسة معنوية تحتكر تفسير النص، والتحدث باسم الديانة وتحل محل الدولة “المتراجعة” في حراسة اللاهوت. أي صارت تتوفر على سلطة نظرية واسعة على الجمهور في ظل الثقافة الاجتماعية السائدة الخاضعة كليًا لهيمنة الدين.
4- بسقوط النظام التقليدي للدولة الإسلامية (المركزية) وظهور نموذج الدولة الوطنية الحديثة، ستعود الدولة رغم توجهها العلماني إلى تقمص دور حراسة الدين في إطار عصري. كان على الدولة الوطنية الناشئة حديثًا في القرن التاسع عشر تأميم هذه السلطة النظرية التي يتوفر عليها الفقه، وتوظيفها سياسيًّا لاحتواء الفقهاء داخل جهازها الحكومي. ومنذ هذه اللحظة ستكتسب الطبقة الفقهية ربما للمرة الأولى في السياق السني خصائص بيروقراطية ذات طابع مؤسسي.
مع ذلك، وبسبب طبيعة التكوين، لم تندمج الطبقات الفقهية كليًّا داخل البنية المدنية للدولة، وظلت هناك مسافة موضوعية فاصلة بينهما، تضيق أو تتسع وفقًا لقوة الدولة، ودرجة وعيها بدورها المدني التجديدي. وفي هذا السياق كانت “المؤسسة” الفقهية تكشف من وقت لآخر عن نزوعات سلفية لا تتطابق مع الأهداف العلمانية للدولة، وتعبر حيالها عن مواقف استقلالية خصوصًا بعد تصاعد المد الأصولي، وتراجع زخم الحالة المدنية.
5- هذا على المستوى العام السني، أما شيعيًّا، فيلزم التنبه إلى فارق نسبي طفيف، إذ كانت الطبقة الفقهية الشيعية قد توفرت على هذه الخصائص البيروقراطية في وقت أسبق؛ ولأسباب مختلفة أشير الى الظروف السياسية والثقافية التي لابست نشوء وتطور التشيع من مواقع المعارضة: فكرة “الإمامة” التي انتهت سياسيًّا إلى طريق مسدود، أفضت إلى فكرة “الغيبة الكبرى”، ومن ثم إلى فكرة النيابة المنظمة عن الإمام الغائب، من خلال الفقهاء، التي تم تأسيسها على نصوص منسوبة إلى الأئمه وإلى النبي، ما أسفر عن تراكم سلطات تنظيمية وإرشادية مدعمة اقتصاديًّا بموارد تمويل شرعية دائمة يوفرها “الخمس”.
-2-
فيما يلي سيدور النقاش على محورين:
١- الأصول التاريخية للكهنوت، كيف نقرأ التمايز الإسلامي في هذه المسألة بالقياس إلى اليهودية والمسيحيه رغم اشتراكه معهما في خط التدين الإبراهيمي الكتابي.
2- السياق المعاصر: كيف نقرأ السلطة التي تتوفر عليها الطبقة الفقهية في الواقع الإسلامي الراهن؟
سينصب النقاش على نموذجين رئيسيين؛ النموذج المصري الذي تمثله مؤسسة الأزهر، والنموذج السعودي الذي تمثله المؤسسة الوهابية. إلى أي مدى تتوفر كل منهما على خصائص “المؤسسة الدينية” بالمعنى الضيق؟ كيف تشتغل كل منهما كسلطة قابضة في مواجهة المجتمع والدولة؟ كيف تكشف هذه المواجهة عن “إشكاليات” ثقافية وقانونية معقدة في ظل المستوى الراهن للتطور الاقتصادي والاجتماعي؟ أو إلى أي مدى صارت هذه المؤسسة تشير إلى طبقة طفيلية زائدة على حاجات ومشاغل المجتمع الحديث؟ وإلى أي مدى تمثل عبئًا على كاهل الدولة ذات الدستور المدني الصريح، كما في النموذج المصري، أو ذات الطموحات التجديدية كما في النموذج السعودي.
-3-
الأصول التاريخية
يرجع ظهور الكهنة إلى وقت مبكر من تاريخ التدين المعروف، وفي القدر المتيقن كان الكهنوت قد تحول إلى مؤسسة ذات خصائص سلطوية في جميع الأنساق الدينية في الشرق الأدنى وحول المتوسط قبل بدء التجربة العبرية. (في مصر على سبيل المثال؛ نقرأ عن حضور ثابت للكهنوت عند بداية عصر الأسرات 315 ق. م. وعن قوة نفوذ الكهنة في المملكة القديمة 2613 ق. م. وتصاعد هذا النفوذ فيما يعرف بعصر الكهنة من القرن السادس عشر وحتى القرن الرابع عشر ق. م).
في هذه الأنساق ظل الطابع الطقوسي يهيمن على بنية الديانة رغم تبلور اللاهوت النظري. وظلت خدمة المعبد تمثل الوظيفة الأولية للكهنة، إضافة إلى دور التواصل مع الإله، والوساطة بينه وبين الناس، وبينه وبين الملك، فضلاً عن تمثيل الديانة والترويج للاهوتها الخاص ارتبطت فكرة الدين بحضور الكهنوت وبسلطة الملك، وبوجه عام ظلت المؤسسة الدينية قريبة من الدولة، وتداخلت معها لتحقيق مصالح متبادلة، الأمر الذي أسهم في تكريس الطابع “الجماعي” للدين وربطه بالوعي العام كسلطة فوقية ملزمة. ورغم أنها حافظت على نوع من الاستقلال حيال الدولة ولعبت بعض الأدوار السياسية بقيت تشتغل في الغالب كسلطه ثانوية قابلة للتوظيف من قبل الملك.
اليهودية: الكاهن/ النبي
بالتوافق مع نمط التدين السائد، نشأت اليهودية منذ البداية كديانة كهنوتية ذات طابع طقوسي، وبحسب سفر الخروج (35- 40) ولدت مؤسسة الكهنة بأمر إلهي مباشر في عصر موسى، أي قبل دخول كنعان: وجه الرب بتعيين هارون في منصب الكاهن الأكبر وتخصيص المنصب بالوراثة لأبنائه اللاويين. كما وجه بإقامة خيمة مقدسة كمقر دائم (بالمقاييس الصحراوية)، تتم من خلاله عملية التواصل، وخدمة الطقوس. وأبدى الرب اهتمامًا بالتفاصيل، من مواد البناء، وتصميم المبنى، وترتيب محتوياته، إلى صناعة التابوت والمائدة، ومذبح البخور، ومذبح المحرقة، ومرحضة الاغتسال، وبناء دار خارجية حتى الثياب الكهنوتية، وصفيحة الإكليل المقدس التي صنعت من “ذهب خالص نقي، وكتبوا عليها كتابة نقش الخاتم: قدس الرب. وجعلوا عليها خليطًا من الإسمانجوني لتجعل على العمامة من فوق كما امر الرب موسى”
(39/30-31).
الإصحاحات من 25 -40 من سفر الخروج تشرح عملية بناء المعبد الأول: خيمة الاجتماع، الدار الخارجية، التابوت، المائدة. ورغم البيئة الصحراوية الخشنة يجري الحديث عن استخدام كثيف للذهب والفضة والنحاس وخشب السنط، وعن تصميم بناء يقوم على أعمدة مغطاة بقضبان من الفضة والنحاس وألواح مزينة بالذهب، كما يجري الحديث عن ثياب كهنوتية قرمزية وأرجوانية مطعمة بالذهب.
التصميم الهندسي للمبنى والمواد المستخدمة لا يتناسب مع المرحلة الصحراوية المبكرة التي يعالجها سفر الخروج، بل يشير إلى مراحل زمنية متأخرة، حين كانت تأثير الكنعاني كما سنعلم من النصوص والوثائق اللاحقة واضحًا على الكهنوت العبري، في شكل المعبد، والمذبح، والمحارق، كما في ملابس الكهنة، وترتيب وظائفهم، إذ تظهر أيضًا تأثيرات مصرية واضحة (في التأثير الكنعاني على الكهنوت العبري (انظر إلياد، مارسيا، تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية، فقرة 60)، وفي التأثير المصري الكنعاني المشترك انظر ريدفورد، مصر وكنعان وإسرائيل).
-4-
في هذا الشرح يكشف سفر الخروج عن خصائص طقسانية كهنوتية فجة، تنتمي إلى نسق التفكير الديني التقليدي السائد في الشرق الأدنى القديم، ويكشف من ثم عن أصل الديانة العبرية، وهي تصدر عن هذا النسق شبه البدائي وتتطور عنه. نحن حيال تماثلات صريحه مع التقاليد المعروفة في الديانات المصرية والكنعانية و الآشورية البابلية؛ حيث الدين فعل كهنوتي يدار من المعبد كمقر مركزي يسكن فيه الرب، أو يأتي كي يتجلى بالقرب منه.
يحتاج الرب إلى طاقم احترافي ومتخصص لخدمته في مكان محدد خاص. ويقوم هذا الطاقم -الذي عليه ارتداء ملابس بعينها كزي رسمي- بتقديم الخدمات المطلوبة للإله، وفي مقدمتها الأضحيات القربانية، التي بقيت -ضمن شعائر طقوسية أخرى- شاهدًا ينتمي إلى ميراث التدين البدائي القديم. ويختص الطاقم دون غيره بعملية التواصل مع الإله والتوسط بينه وبين الناس.
-5-
تقليديًّا، ظلت العمليات الدينية تدار وتوجه من خلال مؤسسة الكهنة القريبة من السلطة السياسية، وظل الكهنة يمارسون وظائف الرؤية التقليدية القديمة للتواصل مع الإله/ الرب، رغم وجود رؤاه مستقلين ومتنبئين مستقلين. ورغم وجود “أنبياء” ومعارضين تواصل حضورهم الى ما بعد تدمير الهيكل والنفي الى بابل.
لقد أدى الأنبياء المعارضون دورًا ملموسًا في التراث الأدبي الذي سجله العهد القديم، ولكن الدور الأساسي في عملية بناء الديانة يرجع إلى الكهنة. وتم ذلك من خلال الإشراف على عملية “التنصيص” الرئيسية التي كانت تجري على مراحل متعاقبة من مرحلة الملك يوشيا في القرن السابع ق. م، حين تولد سفر التثنية عن سطر الشريعة (أعلن عن اكتشافه في المعبد الكاهن الأكبر حلقيا) حتى مرحلة التأسيس الختامية في المنفى البابلي وفي أعقاب العودة (في التأثير الحاسم لمرحلة النفي والعودة 586- 440 ق. م، انظر فنكلشتاين، التوراة مكشوفة، الفصل 12).
بعد سقوط مملكة يهوذا، في أواخر القرن السادس ق. م، تزايدت أهمية الكهنة كممثل وحيد للهوية العبرية، سواء بين البقية التي استبقاها البابليون في يهوذا أم بين المنفيين في بابل؛ حيث سيتحول “الكاهن” حزقيال إلى “نبي”، ويؤدي بالصفتين معًا دوره التمهيدي المعروف لإعادة تأسيس الهيكل، ومن المنفى سيعود “الكاهن” عزرا الكاتب وسليل عائلة الكاهن الأول هارون، ليضع الصيغة النهائية للديانة اليهودية كما تبلورت في المنفى تحت ضغوط القهر والأمل في الخلاص.
بعد العودة من المنفى- يشرح فنكلشتاين- “كانت إحدى الوظائف الرئيسية للنخبة الكهنوتية علاوة على إدارة عبادات تقديم القرابين المجددة، وطقوس التطهير، الإنتاج المستمر للأدب والكتاب المقدس للحفاظ على وحدة الجماعة اليهودية وتماسكها في مقابل جميع الغرباء من حولها” (التوراة مكشوفة ص 369). ويلاحظ فنكلشتاين مع عدد من الباحثين: “أن المصدر الكهنوتي في التوراة مدون بعد النفي، وهو يشير الى بروز دور الكهنة وعلو شأنهم في جالية الهيكل في أورشليم.
ولا يقل أهمية عن ذلك أن التنقيح النهائي للتوراة يرجع أيضًا إلى هذه الفترة، وذهب العالم التوراتي ريتشارد فريدمان إلى أبعد من ذلك؛إذ اقترح أن المنتج الذي أعطى الشكل النهائي “لشريعة موسى” كان عزرا الذي يوصف بشكل محدد ب “كاتب شريعة إله السماء” (عزرا 7/ 12).
في مرحلة ما بعد العودة من المنفى، وفي ظل التسهيلات الفارسية، لم ينقطع حضور الأنبياء “الكبار”، ولكن سلطة المؤسسة ممثلة في الكاهن الأول أو “الكاهن العظيم” كما تسميه الأسفار المتأخرة، ظلت تحتل موقعها المتقدم المكرس من الرب، وظل الأنبياء يقرون لها بهذا الموقع.
التطورات اللاحقة أسهمت في تعزيز السلطة الكهنوتية على اليهود. ومع الضغوط اليونانية والرومانية التي انتهت بتدمير الهيكل الثاني سنة 70م، تشتت كثير من اليهود في أنحاء العالم الروماني. لكن سلطة المؤسسة الكهنوتية ظلت تجاور سلطة الحكم الذاتي الضيقة في يهوذا، وامتدت إلى الجاليات اليهودية في الشتات، مدعمة – في الغالب- بتصريح رسمي من السلطات المحلية، يمنحها صلاحيات واسعة ليست دينية طقوسية فحسب، بل أيضًا ذات طابع اجتماعي تشريعي.
المسيحية
تمثل الكنيسة المسيحية النموذج التاريخي الأبرز لمفهوم “المؤسسة الدينية”، بالنظر إلى اكتمال المفهوم وامتداده الزمني، وحجم نفوذه وتأثيره على المسار العام للتطور. وهو النموذج الذي لفت الانتباه بأدائه السياسي والثقافي، إلى مساوئ الكهنوت وجنايته الفادحة على تاريخ الوعي، ووضع فكرة الدين برمتها موضع الاتهام بوصفها نقيضًا مباشرًا للطبيعة الإنسانية. تبلورت المسيحية كديانة مستقلة عن النسق اليهودي بعد انتقالها إلى المحيط الروماني الهيليني الأوسع وتخففت نسبيًّا من حمولة التاريخ العبري، فتوجهت بلاهوتها إلى الأمم وأعفتها من إلزامية الشريعة. لكنها لم تقطع جذريًّا مع النسق الديني الثقافي الذي أنتجها (فهي نشأت أصلاً كتطوير لثقافة الأمل في الخلاص التي تفاقمت في القرون العبرية المتأخرة تحت ضغط الإحباط السياسي المتواصل)، لذلك، ورغم التعديل الجسيم الذي أدخلته على مفهوم الألوهية التوراتي، ظلت تحتفظ بالنصوص العبريه كجزء من الكتاب المقدس، ومن ثم بروايتها التاريخية عن الآباء والأنبياء الذي التي سيتعين إعادة تأويلها.
كما ظلت تحتفظ بنظام الكهنوت، أي تشكلت كديانة تقليدية تدار من داخل المعبد، من خلال هيئة متخصصة لها صلاحيات التواصل والنطق مع الإله والنطق باسمه. مع حضور آليات التنظير اليونانية ستطور الكنيسة تأصيلات أكثر تجريدًا وأقل تاريخانية لوجودها ودورها في العملية الدينية، لكن هذه التأصيلات لم تغير من طبيعتها كمؤسسه تختص دون غيرها – كما في الديانات القديمة- بمهمة التواصل واستقبال الوحي الإلهي.
الرب، الذي كان يبدو في العهد القديم قريبًا من البشر، ومنغمسًا في تفاصيل حياتهم (ممثلين في الشعب العبري) وحده قرر النزول بنفسه إلى العالم (في هذا الشعب بالذات)، وكشف عن ذاته في شخص المسيح، فصار المسيح هو “وسيط الوحي بكامله وموضوعه في آن واحد”، (الدستور العقائدي حول الوحي الإلهي “كلمة الله” Die Verbum، المجمع الفاتيكاني الثاني 1962 – 1965)، ومن هنا لم يعد ثمة حاجة إلى الأنبياء، فوظيفتهم كانت تنحصر في تعريف الأمة العبرية بالإله الآب الوحيد الحي تمهيدًا لمجيء المخلص الموعود وبمجيئه تم الوحي واكتمل “فالعهد الجديد نهائي لن يزول أبدًا، ولن يرجى أي وحي قبل الظهور المجيد الثاني للمسيح” (الدستور العقائدي).
لكن الحاجة إلى الكهنوت ظلت قائمة. فقد صار الوحي حاضرًا حضورًا نهائيًّا في الكتاب المقدس بعهديه، وبشكل حصري أوكلت مهمه تفسيره إلى “سلطة الكنيسة”، غير أن سلطه الكنيسة لا تنحصر في التفسير، بل تمتد إلى صلاحيات إنشائية واسعة على مستوى اللاهوت والتشريع: ” فالكنيسة لا تنهل اليقين عن محتويات الوحي كلها من الكتاب المقدس وحده”، بل أيضًا من التقليد المقدس الذي ورثته الكنيسة عن الرسل، وهي في الحالتين مؤيدة “بإلهام الروح القدس”، والمعنى الواضح أن الكنيسة “بما لها من سلطان رسولي من المسيح” صارت أمينة على الوحي، بديلاً عن الأنبياء خلافًا للمؤسسة العبرية التي كانت تشتغل إلى جوار الأنبياء. (انظر الدستور العقائدي).
-7-
كان ظهور هيئة منظمة تمثل الديانة الناشئة واقعة مفهومة في إطار الثقافة الدينية السائدة على المستويين اليهودي والروماني، وكانت الحركة المسيحية تعمل في مناخ جدلي عنيف مقابل أطراف يهودية ووثنية متعددة. وساعدت سياسات الاضطهاد الروماني على شحن وتنشيط حاجاتها التنظيمية المبكرة.
قبل نهاية القرن الثاني كانت الحركة المسيحية في روما قد أفرزت بالفعل كنيسة شبه منظمة بمسميات تراتبية لإدارة النشاط الديني المتفاقم وتمثيل الديانة الجديدة لكن الكنيسة -ولكي تتحول إلى مؤسسة شمولية طاغية- كانت بحاجة الى التطورات السياسية الهائلة التي بدأت بتحول الدولة الرومانية إلى المسيحية في القرن الرابع:
طوال مرحلة الاضطهاد اتخذ الكهنوت -كعادته- موقفًا سلميًّا مهادنًا حيال الدولة، وجرى تسويق النصوص “العلمانية” التي تحض على طاعة السلطات القائمة، وتنفي السعي إلى إنشاء مملكه أرضيه (انظر رومية: 13، ويوحنا 36/ 18).
تحول الدولة إلى المسيحية أنهى مرحلة الاضطهاد، وفرض حالة من التصالح، لكنه سيؤدي إلى خلق نوع جديد من التوتر السياسي والديني، بسبب تصاعد حضور الكنيسة كسلطة موازية لسلطة الدولة.
لم يسفر التحول عن ذوبان الكهنوت في الدولة، أو اندماج الدولة في الكهنوت، بل عن حالة من ازدواجية السلطة تتسع لحضور الطرفين كمؤسستين حاكمتين داخل المجتمع، مما أدى إلى خلق نوع من التداخل ظل يتطور بمرور الزمن لصالح الكهنوت على حساب الدولة.
بوجه عام، ظل هذا التوتر قابلاً للاحتواء في المراحل المبكرة، في ظل نوع من التوازن الهش الذي رسم ملامحه القديس أغسطين بحديثه عن الفصل بين “المدينتين” الروحية والمدنية ترجمة لظروف القرن الخامس. لكن مع تفاقم نفوذ الكنيسة سيجري تجاوز النصوص السلمية والعلمانية لصالح النصوص الناموسية (السياسية والتشريعية) في العهد القديم، ليكشف الكهنوت عن شراهته الكامنة حيال السلطة، وليقدم -كما لاحظ روسّو- “من خلال المملكة الروحية المزعومة، أعنف حكم استبدادي في هذا العالم” (العقد الاجتماعي، الترجمة العربية، دار القلم، بيروت، ص 204).
لقد طور الكهنوت المسيحي نسخته الخاصة من مبدأ “الحاكمية الإلهية” الكامن في صلب التدين الإبراهيمي “الحصري”. وذلك من خلال إجبار الأمراء على محاربة الهرطقة والإلحاد؛ أي بتوظيف سلطة الدولة لفرض صيغة بعينها من صيغ الإيمان كي تسود كلمة الرب على العالم، وهو نفس المعنى الإسلامي المتطرف الذي يوجب استخدام السيف “كي تكون كلمة الله هي العليا”. واعتمد الكهنوت في تأسيس هذا المبدأ على تأويلات مبكرة لآباء الكنيسة، ومن بينهم أغسطين نفسه؛ الذي سمح في القرن الخامس باستعمال القوة ضد “الدوناتيين” المنشقين على الكنيسة الكاثوليكية. لكنه سيحظى بخدمات تنظيرية أوسع على يد توما الإكويني في القرن الثالث عشر، حين سيبلغ نفوذ الكهنوت ذروته في الغرب الكاثوليكي.
في أوائل هذا القرن تولى إنسنت الثالث كرسي البابوية، وبدأت الكنيسة ترسم خطة ممنهجة لفرض العقيدة الكاثوليكية، ونفي أي آخر غير ديني أو ديني يفكر بطريقة مختلفة، وهي الخطة التي ستنتهي بتداعيتها إلى إنشاء “نظام التفتيش” الذي أطلقه البابا جريجوري التاسع، نحو عام 1233، واكتمل إطاره القانوني مع البابا إنسنت الرابع عام 1252.
تراجع الكهنوت
في القرن الرابع عشر، بدأت حركة النهضة في إيطاليا تثير موجة من التحولات الثقافية العقلية، كانت كافية للكشف عن وحشية الكهنوت، ولفت الانتباه إلى دوره المباشر في إفساد الحياة السياسية والاقتصادية (تملك الكنيسة ثلث الملكية الزراعية) وتعطيل حركة العقل والتطور العلمي. ومع تزايد نفوذ الأمراء المحليين وظهور أنظمة ملكية قوية سيتفاقم حضور “الفكرة الوطنية” كأساس جديد للدولة على حساب الإمبراطورية الرومانية “المقدسة”، وستولد حركة الإصلاح البروتستانتي كتيار مسيحي واعٍ “بمشكل” الكهنوت، ومناقض لسلطته التاريخية، وسوف تلعب هذه الحركة- خصوصًا في صيغتها اللوثرية- دورًا في تعزيز التطور المدني العلماني الذي سينتهي إلى النموذج الحديث للدولة الوطنية.
-9-
من داخل نسق التفكير الديني ذاته كانت حركة الإصلاح البروتستانتي قادرة على اكتشاف الزيف والنفاق والتناقض الأخلاقي في أداء الكهنوت، وعلى إثارة الشكوك حول صحة الأسس الكتابية التي بنى نفسه عليها.
وفي أدبيات التنوير المبكرة سيقف التيار العلماني على مساوئ الكهنوت بوصفه سببًا للشرور الناجمة عن ازدواجية السلطة، لكنه لن يهدف إلى إلغاء أو إلى استبعاد الدين كليًا من نطاق الدولة، بل إلى “ضبط” نفوذ الكنيسة، وإخضاعها لسلطة الدولة الزمنية.
كانت الازدواجية هي الهاجس الذي برز كمعضلة بنيوية مزمنة تمنع تطور المجتمع والدولة، ويبدو هذا الهاجس واضحًا في صياغات مختلفة لنظرية العقد الاجتماعي، من هوبز(ت 1679)، الى إسبينوزا (ت 1677)، ولوك (ت 1704)، حتى چان چاك روسّو (ت 1778) “تكلم روسّو عن المسيحية الرومانية، أو “دين الكاهن” الذي يمزق الفرد والمجتمع بين مملكتين روحية وزمنية، فهو يمنح الناس شريعتين ورئيسين ووطنين، ويجعلهم خاضعين لواجبات متناقضة. ولم يصل الناس إلى معرفة نحو من يلتزمون بالطاعة، للسيد أم للكاهن” (العقد الاجتماعي، السابق، الفصل الثامن، الديني المدني).
في القرن الثامن عشر سيتبلور “التنوير” بوصفه موقفًا تفكيريا مناقضًا للسلطة الدينية بالذات، أو في المقام الأول، أي لسلطة الكهنوت من حيث هي السلطة الأكثر رجعية والأوسع هيمنة على المجالين العام والخاص. يشرح كانط: “عصر التنوير هو خروج الإنسان من حالة “القصور” التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو دالة العجز عن استخدام الفكر عند الإنسان إلا من خلال إنسان آخر، فالناس قد حررتهم الطبيعة منذ زمن بعيد من “وصاية” غريبة عنهم، لكنهم ظلوا قصرًا طوال حياتهم عن رضا منهم، بحيث يسهل على غيرهم فرض الوصاية عليهم”.
المسؤولية عن هذا القصور، بحسب كانط، تقع -أيضًا- على هؤلاء الأوصياء “الذين صمموا على ممارسة سلطة عليا على الإنسانية، فبعد أن أطبقوا قيود البلاهة على قطعانهم، وعملوا على مراقبة هذه المخلوقات الهادئة مراقبة دقيقة كي لا تسمح لنفسها بالمجاسرة على أدنى خطوة خارج الحقل الذي حشرت فيه، أظهر لها الخطر الذي يهددها إن هي غامرت بالخروج وحدها، ولكن الخطر ليس كبيرًا في حقيقه الأمر، لأنها لو أقدمت عليه فسوف تتعلم السير بعد عثرات قليلة”.
من بين هذه الوصايات القابضة التي كرست قصور الإنسان عبر التاريخ. يشير كانط إلى وصاية الكهنوت بوصفها الوصايه “الأكثر ضررًا والأشد خزيًا” (انظر كانط، ما هو التنوير، 1784).
في القرن الثامن عشر، سيطور التيار التنويري في فرنسا هجومه ضد الكهنوت، فسهام النقد لم تعد موجهة إلى مؤسسة الكنيسة وأدائها السياسي فحسب، بل إلى المسيحية وفكرة الدين الذي اعتبر في ذاته مصدرًا لإثارة التوتر داخل الفضاء الاجتماعي.
وهو التوجه الذي عبر عنه ڤولتير وهولباخ وكلاود هلفتيوس وچوليان دي لا متري.
لكن الهجوم الكاسح على الكهنوت سيبلغ ذروته مع نيتشه، في أواخر القرن التاسع عشر، بعد ما كانت ضغوط الحداثة قد أجبرته على التخلي كليًا عن نفوذه في المجال العام (السياسي التشريعي)، وجزئيًا عن نفوذه في المجال الخاص (الاجتماعي الفردي).
بالنسبة إلى نيتشه، مشكله الكهنوت أكثر “جذرية” مما يبدو عليه: الجناية الكبرى على حياة الإنسان وقعت على يد الكهنوت. المعنى الحقيقي -الذي يمكن الإمساك به- لحياة الإنسان هو كونه حيوانًا بشريًّا حرًا مفطورًا الطبيعة الغريزية على إرادة الاقتدار (انظر جينالوجيا الأخلاق، المقدمة) هذا المعنى صار عرضة للتحريف والتشوه منذ ظهور “الكاهن” الذي اخترع مفهوم “الأخلاق” على نحو يوافق طبيعته وهي طبيعة العبيد (الضعفاء) لا طبيعه السادة (الأقوياء) القادرة على الفعل. قيم السادة هي قيم الروح “الحرة المحاربة”، وقيم العبيد هي قيم “الضغينة” الناجمة عن العجز، وهي قيم تعويضية مؤجلة جرى تكريسها عبر المعجم الديني الذي ابتدعه الكاهن للانتقام من السادة المتغلبين (خير وشر، خطيئة، محبة، ثواب، عقاب، ضمير، واجب، مسؤولية، مثل، آلهة) عبر هذا المعجم يختبئ الكاهن في قاع الوعي الإنساني الراهن.
الأخلاق الدينية -بحسب نيتشه- تقنية ماكرة للسيطرة على إرادة الفعل التي تحرك الحياة، والهدف المعلن هو “تربية” الإرادة و”تهذيبها”، بينما هي في الواقع ترمي إلى “تدجينها” وعقابها بذنب طبيعتها الحيوية. الكهنوت يعتبر الحياة في حد ذاتها ذنبًا لا يغتفر. فيما الحياة هي ببساطة كل ما وجدنا أنفسنا عليه من نزوع حيواني وغرائز وحريات ورغبات وطاقات ولذات وذكاء، وهي جميعًا “سابقة” على النموذج الأخلاقي “المؤنسن” الذي روَّج له الكهنوت تحت اسم المثال الأعلى.
لقد وضع الكهان السم في الدسم، فشوهوا المعنى الحقيقي للحياة، وزرعوا في الوعي الموروث روح العجز والكراهية: “إن الكهان، كما هو معلوم، هم شر الأعداء. ولكن لماذا -لأنهم أكثر الناس عجزًا، ومن العجز يتولد الكره مرعبًا وموحشًا روحيًّا ومسمومًا كأشد ما يكون. لقد كان أشد الناس كرهًا في تاريخ العالم على الدوام كهانًا، وكان هؤلاء الكارهون أيضًا من أشد الأرواح مكرًا- فإزاء روح الثأر التي تسكن الكهان لا يكاد يدخل أي روح آخر في الاعتبار. وما أبلد تاريخ البشر لولا الروح التي تأتت إليه من العاجزين” (انظر جينالوجيا الأخلاق، ترجمة فتحي المسكيني، مؤسسة مؤمنون ومعهد تونس للترجمة، الطبعة الثانية، 2017، المقالة الأولى، فقرة 7).
في قاع العقل الإنساني الراهن يختبئ الكاهن في شكل ثقافه مضمرة تسربت الى نسيج اللغة. ولذلك فإن كل تفكير حقيقي ينطوي على مقاومة أو محاربة لروح الكاهن التي ترسخت في أعماق الوعي الإنساني، واستطاعت أن تتسلل وتعشش حتى داخل الفكر الحداثي النقدي ذاته.
بحسب نيتشه، لم يستطع هذا الفكر الحديث أن يتخلص من التركة القمعية للكهنوت. لقد نجح في إنشاء معجم “جديد” للقيم يقدم نفسه كمعجم صوري حيادي موضوعي وكوني، لكنه في الواقع ظل داخل مفهوم “القيم” الكهنوتي ذاته، وفي هذا السياق اعتبر نيتشه أن جميع “الأفكار الحديثة” كالمساواة والديموقراطية والواجب والاحترام والمهنية، هي تنويعات متنكرة على معجم الكهنوتية، واعتبر أن كانط الذي تكلم عن أخلاق الواجب، ورغم نقده الصريح لوصاية الكهنوت، لم يقدم أكثر من كهنوت عقلي بلا طقوس. وحتى “الإلحاد” الذي يظن نفسه ممثلاً للطور الأعلى من غريزة الحرية، لم يسلم من تقنيات الكهنوت القيمية، فهو لا يقدم تأسيسا “جذريًّا” (من خارج سلم القيم) لقيم الحرية، ولذلك فهو حتى الآن ليس أكثر من إيمان، أو مثال “نسكي مقلوب” استيلاء صفيق على مكان الإله الأخلاقي الذي صار شاغرًا، في خلط مزر بين الإنسان الأعلى الذي استولى على الأسماء الحسنى الإله التوحيدي والإقدام على الذهاب لجسور إلى “ما فوق الإنسان” بوصفه مطلب الحياة الحرة، التي تتمتع بصحة ميتافيزيقية جيدة، لا تطلب أقل من: خلق نمط بشري من نوع جديد” (جينالوجيا الأخلاق، المقالة الثالثة، فقرة 27، انظر المقدمة الشيقة بترجمة فتحي المسكيني).
بحسب نيتشه أيضًا، كرس الكهنوت مقولة أخرى لا تقل خطرًا عن أضلولة الفضيلة، هي مقولة “الحقيقة” التي صارت تهيمن على الفكر بجميع مستوياته، بما في ذلك الفلسفة، وحتى العلم، بوصفها مرجعية مطلقة لا يحتاج وجودها الى تبرير من خارجها. وفقًا لنيتشه ليس ثمة واقع “موضوعي” ثابت أو متفق عليه، وليس ثمة مقولات نهائية مطلقة حياديه أو بريئة؛ ثمة حمولات آيديولوجية كامنة في جوف اللغة التي صنعها تاريخ الكهنوت، ولذلك فإن عملية التفكير الحر تعني دائمًا أننا حيال موقف تأويلي، وهنا يميز نيتشه بحسم بين “التأويل” الحر كغريزة سيميوطيقية خاصة بالحيوان البشري، والتاويل “الديني” كمكر لاهوتي لئيم يقوم على تحريف النصوص واستعمالها كإرادة اقتدار مريضة لا تقوى على مواجهة الحياة فتعوضها بضرب متنكر من إرادة العدم” (جينالوجيا الأخلاق، المقالة الثالثة، فقرة 28، انظر مقدمة الترجمة العربية السابقة).
والآن سأنتقل إلى السياق الإسلامي المبكر.
يتبع
***
عبد الجواد ياسين – قاضي ومفكر مصري
عن منصة تكوين، يوم: 17 / سبتمبر / 2024 م