روافد أدبية
أمين كُبّة: المقامة العرونكيّة

حدّثنا ماجد بن وسام قال: هجعتُ إلى غمٍّ وسواد، ومورٍ وفساد، وظلمٍ للعباد في أرض السواد. وندبتُ حزنًا يُضرَب به الحرّ بالطارش، ويُمجَّد به الذيلُ بالمفارش. ونحن من حالِنا في نفور، نثور وندعو للثغور. قد شكونا حبس السماء، واعتلال الكرماء، وتلوّن الأنواء. واكترى شجاعُنا كفنًا للمصير، وحكيمُنا لحدًا بالتزوير. وانقضى الشعرُ إلى غير رجعة، وانتسب كلُّ فاضلٍ إلى بدعة. وبينما نحن في هذا الوَطَر، نشكو دنيا قِوامها سَقَر، وقلبًا أصلد كالحجر، ودمعًا حُبِسَ فزَنجر، أقبل فينا هاتفٌ على غَرّة، من ديار البصرة.
أنشأ بالحمد والابتسام، يُبشّر برأب دار السلام، يكسو عُراتها بالملابس، ويزيّن تُقَاتها بالمحابس،
يسحر الألباب، ويُرجِع ما عَطَن من الشبّاب، تسترجع الغيرةَ المطويّة، وتُعيد إلى أمّتنا المجدَ والحميّة. ترفرف برحمتها كالريح، ولا تنغرّ بالتصفيق والتلويح. تعود في سموّها السيادة، وترتقي محبتُها إلى الشهادة. كم خفقت في حبّها قلوب، وكم حُلّت في عهدها خطوب، يتصالح في عهدها الزمان، ويختبئ خلف عباءتها الأمان.
فقلنا: ويلكَ! أهيَ بذلك الجلال؟
قال: نعم والله، وأكثر. ثم أقسم بالوعد والقضاء، والماء والظماء، والليل والظلماء. فجلنا وصلنا، وعلى حبّها وصلْنا، ولعهدها صنّا، وفي غرام سيرتها وقعنا، وبالدماء لولايتها وقّعنا، وخلف عباءتها الرحيمة استترْنا، وبهُيام إكرامها للأيتام وجدْنا، ولتزويجها للشباب شهدْنا، وعلى عدوّ الله في الأرض أجمعْنا، وعلى تحرير الأرض اجتمعْنا.
فلمّا أقبلت، علمُ الدين، وصوتُ اليقين، وبلسمُ جراحات المستضعفين، هدرت بحرفٍ مترجفٍ كاللُّقا، بهيبةٍ صيّرتها يُمْنَ التُّقى، وضجّت المواقعُ بحضرتها والمواقع، وقالت: لا يومَ كيوم “أمّ المواقع”، حيث العدوّ في كهفه خانع، ولخطابنا مستمعٌ وخاضع، قِبَبُنا ذُهّبٌ لوامع، وقِبَبُهم فُطّر مباقع. الكونُ لمشيئة حضرتنا خاشع، له من حكمنا فُيوضٌ كواسع. وإنّما نحن أولاد نافع، حامي الجوامع، عن الحق ندافع، وللباطل نلوي ونصارع. ولتشهدْ لفضلنا أركانُ العيان، وقِبَبُ البرلمان. فكلُّ من أنكر فضلنا جاحدٌ خسران، والنعيم لمن صدّق بالبشرى ونشرها للعيان، صدّق بأوليائه، ووفى بما كان، ذلك وعدُ الله في القرآن.
فلمّا التهب الحشدُ بالتصفيق والتهويل، والتأم الشرخُ بحضرتها بالعويل، قالت: تذكّرْ يا ابن آدم كلَّ مسلك، وانتخبْ بالدم فاضلةَ بنتَ عرونك.
ولمّا بادرت الفاضلةُ الجموعَ بالوداع، استيقظتُ كالسكران من بعد الصداع، فألفيتُها تصعد مُصفّحة، لمحتُها من أيّام التحرير. قالوا: إن شيخَها قد مات، واجتمع في سبّ مصيره كلُّ حاسدٍ وشمّات.
فألفيتُه في روضة الزمن، يتّكئ على وهن، وينشد بالشجن.
فقلت: هذا والله شيخُنا عليّ بن أبي ناصر الرسّام، لا سلّم الله دياره، ولا مدّد أوصاره، ولا زاد أمطاره.
واقتعيتُ أضرب حسرتي بضجر، فلا مال أتى منها، ولا مطر.
***
أمين صباح كُبّة