كتب واصدارات
مدني صالح.. الخروج على المألوف السائد
بمناسبة صدور أعماله الكاملة
من بين الكتب التي قرأتها العام الماضي باستمتاع كتاب "المشي فلسفة" للفيلسوف الفرنسي المعاصر "فريدريك غرو" المولود عام 1965 والمتخصص في ميشيل فوكو، ويعمل حاليا استاذ الفكر السياسي في معهد الدراسات السياسية في باريس. وقد صدر لغرو بالعربية ثلاثة كتب هي "ميشال فوكو " – ترجمة محمد وطفة وكتاب "العصيان " – ترجمة جمال شحيذ " وكتاب " المشي فلسفة " – ترجمة سيعيد بوكرامي –
يقال دائما ان الفلسفة ولدت مع المشي، وان فعل التفلسف يتوافق مع التأمل، وكان الراحل مدني صالح يحب ثلاثة اشياء " المشي مسافات طويلة.. والصمت الطويل.. والصيام بلا انقطاع عن الطعام مدة أيام طويلة "
في تاريخ الفلسفة اليونانية نجد ان الفلسفة ارتبطت بجولات المشي التي كان يقوم بها طاليس المولود عام " 624 ق.م، حيث كان من عادته ان يسير في طريقه لا يلتفت إلى أحد، لم يكن يسير كما يفعل معظم الناس ممن يعرفون هدفهم ويتأكدون من مواضع أقدامهم. فقد كان رافعاً رأسه الى السماء ومشغولاً بتأمل النجوم. ويخبرنا ديوجينيس اللانرتي في كتابه حياة مشاهير الفلسفة – ترجمة امام عبد الفتاح امام – ان طاليس كان يخرج كل يوم من بيته يسير وهو يتأمل النجوم، وذات يوم وقع في حفرة واخذ يصرخ طلبا للعون، فشاهدته امراة عجوز، فردت عليه بقولها " أي طاليس، كيف تزعم ان بوسعك ان تعرف كل شيء في السماء، وانت عاجز عن رؤية ما هو تحت قدميك". سؤال المراة الساخر كما يقول ارسطو هو الذي دفع المفكرين الاوائل إلى التأملات الفلسفية.
من السعادات التي عشتها في الايام الماضية هي قراءة الاعمال الكاملة للفيلسوف العراقي "المشاء" مدني صالح والتي صدرت عن دار الشؤون الثقافية بجهود الاساتذة الدكتور فيصل غازي مجهول والدكتور محمد فاضل عباس وباشراف الصديق الدكتور عارف الساعدي. ولعلني اعتبر نفسي سعيد الحظ بتعرفي على بعض الاساتذة الاعلام وكان مدني صالح واحدا منهم، وكانت علاقتي بهم تتباين بتباين اهتماماتي في القراءة، فعندما كنت انغمس في قراءة الفلسفة وتدور اسئلتها في رأسي، اجد الحل في اجابة مدني صالحة الممزوجة بالدقة العلمية والسخرية المحببة، كنت آنذاك اقرأ مقالاته المنشورة في صحيفة الجمهورية، واسأل نفسي: هل سأتمكن يوما ان اكتب بمثل هذه الطريقة الفذة، واصحوا من هذياناتي على صوت مدني صالح يردد:" مدني صالح احسن ناثر فني في الادب العربي المعاصر ".
من الصعب تخيل مدني صالح انسانا مجاملا، او مترددا في قول كلمة الحق، ينطبق عليه بيت الشعر الذي كتبه ابراهيم ناجي " واثق الخطوة يمشي ملكاً "، نرجسي من طراز خاص، كريم في العطاء:" اتباهى بالذي اعرفه، فاعرضه على الناس كي اكسب حسن ظنهم بي ". ساخر على طريقة الساخطين، يتخذ من الصدق سبيلا، يعترف ان حرفته في الحياة هي الثقافة التي يعتبرها هواية وغاية.في معظم كتاباته اراد أن يؤكد ان المعرفة تسخر من المعرفة ذاتها، حين تتحول المعرفة الى أداة بيد من لا يعرفون قيمتها الحقة. يؤمن بأن الفلسفة ليست نقاشا بيزنطينيا، ولا جمهورية للعاطلين، ولا كتب ونظريات وإنما هي ممارسة تضيء جوانب الحياة المظلمة وتؤسس لإرادة القول التي يمكن لها أن تمهد الطريق لإرادة الفعل.
في المرات التي كنت التقي فيها مدني صالح سواء في المكتبة التي اعمل فيها او في كلية الفنون حيث كان الراحل يٌلقي محاضرات لطلبة الدراسات العليا عن فلسفة الجمال، احاول ان اشاكسه، واحسب ان الراحل الكبير كان ينتصر على مشاكستي بقدرته على الجدل النافع، والمثير، فقد كان يتقبل المشاكسه بروح علمية حيث يرى فيها وسيلة من وسائل التعبير عن حماستي " الزائدة " احيانا، ومدني صالح كان بطبيعته يميل الى المشاكسة التي ينظر اليها بوصفها محاولات لادامة حرية النقاش ونقد الآخرين فهو القائل عن نفسه:" اتباهى وابهر الجميع بقدرتي على تبسيط مسائل الثقافة باسلوب لا اجمل منه، وبروح استاذية عالية، عالية في الخوف من الخطأ ".
في مرات كثيرة اسأل نفسي: ماذا لو ان مدني صالح بيننا الآن، يقرأ ما نكتب في الفلسفة ؟ بالتاكيد سنسمع منه كلاما غير محايد، فقد عاش طوال حياته صريحا، لكنه دائم الحنو حتى مع الذين يختلفون معه:" لم ار نفسي قط إلا ما يضاعف احساسي بالازدهار، فإني دائم الخضرة، دائم الاازدهار "، وربما سينشغل عنا في كيفية أن يظل فكره حاضرا في دائرة الحوار. يتحفظ على ما يسمع ويعطي لنفسه فرصة ثم يسأل ثم يظهر اهتمامه وبعدها يتجلى استعداده للالفة بعدها يفكر بما آلت اليه حياته وهل كانت لهذه الحياة من مغزى وسط الاضطراب العام الذي عاش فيه وهل اقترب حلمه من مدينة فاضلة على غرار مدينة فيلسوفه الاثير " الفارابي، وان يحقق امنيته التي اختصرها بالقول:" ان يكتب جملة واحدة تحدث تحولاُ يعتز به وينفع الناس ". كانت الكلمات هي اداة الحياة والابداع في عالم مدني صالح، ومن خلال الكلمات كان يبدو كأنه مشعل حرائق يسعى لتدمير الابنية البالية للفكر الفلسفي، ويشعل الشك في الموروث الادبي، ويزعزع الاوهام التقليدية حول فهم الثقافة.
في مسرحيته الشعرية " بقايا التجربة " نجده يتأمل حياته:
انت بعد اليوم سلوى
وحيال في كتاب
اسفا صليت في حضنك واشتمت
عيوني قدميك
انت يامن انت من صيرتني فصل كتاب
اسفاً ابتاعني الناس كتابا في يديك
وانا اقرا المجلدات الستة التي ضمت مؤلفات مدني صالح تساءلت مع نفسي، هل سيتحول مدني صالح الانسان المفكر الى مجرد كتاب تتناقله ايدي محبيه وتلامذته. بالتاكيد انه اكثر من ذلك ألم يخبرنا ذات يوم انه لا يحب الجرائد والمجلات إلا كونها جامعات للتعليم والتثقيف، وكان يبهجه أن يجد نفسه استاذا نافعا في الكتاب وفي الصحيفة وفي الجامعة، وفي محاورة الآخرين. فهذا المعلم الذي هبط علينا من هيت، والذي عاش حياته كما يهوى في عزلته وايامه البسيطة التي اختارها لنفسه غير عابئ للشهرة والمجد، وقد كان يرى في الانعزال " طريق في الانفتاح على العالم كله، والناس اجمعين ".سنظل ندين له جميعا بالفضل لأنه انزل الفلسفة من عرشها ليفترشها الباعة على ارضفة الشوارغ في صحف ومجلات لا زالت تحمل نكهات حروفه البديعة والعجيبة والمدهشة وروحه السمحة ووصاياه بان نتثقف جيدا، وأن نقرأ في امهات الكتب:" اقرأ لافلاطون وارسطو وللفارابي وابن سينا وللغزالي وديكارت، اقرأ في ديوان المتنبي والمعري ولطه حسين وادم سميث وماركس، اقرأ كتبا في النسبية، وقّلب في كوميديا دانتي وفي فاوست جوته وفي دون كيشوت سيرفانتيس.. لكن تذكر ان الثقافة لياقة وتألق ونقاء قبل أن تكون قراءة وكتابة وتقليباً في المجلدات " – مدني صالح الاعمال الكاملة الجزء السادس
القراءة تانقا وتالقا ونقاء..فمن يعيد قراءة مدني صالح من جديد بعد ان صدرت اعماله الكاملة.. يعيده الى الواجهة بمزيد من الفهم، والدراية، والاكتشاف، والادراك الى اهميته انسانا ومثقفا واستاذا في حياتنا الثقافية كان يقول ان ما يبهره في نفسه: " الخروج على المألوف السائد "
***
علي حسين
رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية