كتب واصدارات
حول كتاب: مقاربات في الفكر والثقافة والأدب
تحتل الموضوعات الفكرية والثقافية الحيز الأكبر من نتاج العلّامة الشيخ محمد علي التسخيري؛ إذ أثرى المكتبة الإسلامية بعدد كبير من المؤلفات والبحوث والمقالات التي تقارب شتى مجالات الفكر والثقافة والشأن الإسلامي الحركي والدولي، وكان كثير منها إضافات نوعية، عالجت قضايا إشكالية أساسية، وخاصة تلك التي ظهرت بالتزامن مع تجربة التطبيق الإسلامي المعاصرة.
ومما ظل يميز المسيرة الفكرية للعلّامة التسخيري، طوال خمسة عقود، هو إفساحه المجال لزملائه ومساعديه وتلاميذه، بإنتاج بحوث مشتركة معه، أو تحت إشرافه، في إطار تعاون علمي غير متعارف كثيراً في الساحة العلمية، ومن يطّلع على بعض نتاجاته المنشورة؛ سيجد اسم آية الله التسخيري مقرونة بأسماء أُخر، وهو ما كان يعدّه كسباً للساحة الفكرية؛ لأنّ النتاجات المشتركة، كما كان يقول: «تمثل ثمرة تعاون علمي وفكري وثقافي جماعي، يثري البحث ويوسع آفاق المعالجات».
ومما صدر له في هذا المجال: مشروع «تفسير القرآن الكريم» الذي بدأه بمباركة أُستاذه الإمام السيد محمد باقر الصدر، ومشروع «الأحاديث المشتركة بين السنة والشيعة»، و«دراسات فقهية مهمة»، قدم أغلبها إلى مجمع الفقه الإسلامي، وكذا بحوث فكرية وثقافية صدرت في كتب أو في الدوريات العلمية والبحثية. ولعلّي أكثر مستشاريه وتلاميذه استفادة من هذا المبدأ، أي مبدأ كتابة البحوث المشتركة معه؛ بسبب العلاقة القريبة والطويلة زمنياً، وتفرغي للعمل الفكري إلى جانبه فترة من الزمن.
وهذا الكتاب الذي يحمل عنوان: «مقاربات في الفكر والثقافة والأدب»، هو جزء من ثمرة علاقتي الفكرية والعملية بالعلّامة التسخيري، وتتلمذي المنهجي والعلمي عنده، خلال ثلاثة عقود. وأقول جزء؛ لأنّ الدراسات والمقالات التي ضمّها الكتاب هي جزء مما كتبناه بشكل مشترك، وليس كل ما كتبناه، وربما سأنشر جزءاً آخر منها مستقبلاً. وقد نُشرت بعض دراسات هذا الكتاب باسم الشيخ التسخيري، وأُخر باسمي، وثالثة باسم بعض المؤسسات، كما أنّ بعضه غير منشور.
والحقيقة أنّ فكرة إصدار هذا الكتاب المشترك هي فكرة قديمة، ربما تعود إلى عشر سنوات سبقت رحيله، وقد فاتحت بها سماحته حينها، لكنّ عامل الوقت كان سبب التأخير والتجميد؛ لأنّ عملية الإعداد تحتاج إلى تفرغ ووقت ليس بالقليل. بيد أنّ رحيل شيخي وأُستاذي التسخيري (في 18 آب/ أغسطس 2020م)؛ حفّزني على الوفاء له بجملة من الأعمال، منها إعداد هذا الكتاب، وكتابين آخرين، الأوّل بعنوان: «التسخيري المواطن الإسلامي العالمي»، والثاني: «ذاكرة التسخيري».
وربما تحتاج مسيرة علاقتي بالعلّامة الشيخ محمد علي التسخيري إلى كتاب لوحدها؛ فهي علاقة لها خصوصية معنوية وعملية. ففي العام 1979، حين سمعت باسمه للمرة الأُولى من مسؤولي الحركي، وأنا في النجف، بات حلمي أن أراه وحسب، وكذا آخرين من روّاد الحركة الإسلامية العراقية، وهو ما حصل بالفعل في العام 1980، حين رأيته للمرة الأُولى، وحتى بداية العلاقة عبر مجلة «التوحيد» في العام 1984، ثم ترؤسي تحرير المجلة، خلفاً له وتحت مسؤوليته المباشرة في العام 1991، وحتى أصبحتُ مستشاره وضمن فريق عمله ومرافقاً إيّاه إلى كثير من دول العالم، بدءاً من العام 1998. وتتوّجت مسيرة تتلمذي له وتعاوني معه خلال مرحلة إشرافه على أُطروحتي الماجستير بعد العام 1999، ثم الدكتوراه بعد العام 2003.
وكنت ولا أزال أقول: إنّ أغلب ما لديّ في حياتي؛ يعود فضله إلى الله (تعالى) أوّلاً، ثم إلى شيخي التسخيري؛ ليس في الجانب العلمي والفكري والثقافي وحسب، بل في الجانب العملي والوظيفي والاجتماعي والعائلي أيضاً؛ لأنّ الشيخ لم ينظر إليَّ يوماً نظرة أُحادية ترتبط بالجانب الوظيفي أو الأُسري أو الفكري؛ بل كنت أحظى بتبنّيه وعنايته الشاملة. ولطالما عبّرت له عن خجلي وشعوري العالي بالمسؤولية تجاه هذه الرعاية، وكان يجيب بأنّ هذا هو منهج أُستاذه الإمام السيد محمد باقر الصدر. ويشهد الله أنّ شيخي التسخيري لم يحسسني لحظةً بالمنِّ أو بأنّي تلميذه أو موظفاً عنده، أو أنّ هناك فارق عشرين عاماً من العمر بيننا، وفارق سنين أكبر في المستوى العلمي والفكري، أو يتشدق بأنّه تلميذ الإمام الصدر والإمام الخميني؛ بل كان يردّد دائماً كلمة (تعاون) و(نتعاون). ويكفيه عظمةً أنّه بذلك يزرع الثقة في نفوس تلاميذه ومقرّبيه، ويعطيهم فرصة النمو الروحي والنفسي والعلمي. وكان جوابه لمن كان يستفهم منه: «كيف تضع علي المؤمن رئيساً لتحرير مجلة التوحيد، أهم مجلة فكرية بحثية، خلفاً لك، وأنت من أنت، وهو لم يبلغ 27 عاماً من عمره؟». فكان جوابه يخجلني كثيراً؛ لأنّه يصفني بما لا أستحقه، تعبيراً عن ثقته ودعمه وتحفيزه. وكنت أدعو الله دائماً أن أكون عند حسن ظنّه، وأن لا أتسبب في إحراجه يوماً، وأحمد الله أنّه ظل يفتخر بثمار هذه الثقة حتى قبل وفاته بأيام معدودات.
وبالنظر لكون مسيرة التبنّي هذه، هي تجربة إنسانية وعلمية مميزة ومفيدة؛ فقد أفردت لها جزءاً من كتاب: «ذاكرة التسخيري»؛ علّها تكون أُنموذجاً يحتذي به رموز العلم والفكر مع المحيطين بهم من الشباب.
لقد تم تقسيم دراسات هذا الكتاب ومقالاته تقسيماً موضوعياً، ثم توزيعها على ستة فصول، وخمسة ملاحق.
حمل الفصل الأول عنوان: (قواعد تجديد الفكر الإسلامي)، واحتوى على مقاربتين، الأُولى: (التجديد في الفكر الإسلامي ومعالم المرونة في التشريع)، تناولت موضوعات مظاهر التجديد والمرونة في الشريعة، ومنافذ الفكر البشري إلى المساحة المشروعة، وقواعد ضبط التجديد، والطريق إلى التجديد للحاضر والمستقبل. أمّا المقاربة الثانية: (تجديد الشريعة الإسلامية واستدعاءات المستقبل)، فهي حوار تداولي مشترك تناول علاقة التراث بالمستقبل، وضرورات تجديد علم الكلام، ومنهجية فلسفة الفقه، وقراءة الشريعة بذهنية المستقبل وتطوير فقه المقاصد.
فيما حمل الفصل الثاني عنوان: (مرجعية أهل البيت الإسلامية)، وضمّ مقاربتين، الأُولى: (المرجعية العلمية والتفسيرية لأهل البيت)، وبحثت في المرجعية العلمية للمسلمين في القرآن والسنّة، والمكانة العلمية لأهل البيت في الواقع الإسلامي، وأُسلوب المناظرة والحوار في حياة أهل البيت العلمية، والإنتاج العلمي لأهل البيت، وتكريس أهل البيت علمهم في خدمة مصالح الأُمّة. وتناولت المقاربة الثانية: (مرجعية رسالة الإمام السجاد في الحقوق)، ولا سيّما الحقوق الإلهیة وحقوق النفس والحقوق العامة.
وتناول الفصل الثالث (الواقع الإسلامي وتحدّيات التنمية المستدامة)، وتم إدراج ثلاث مقاربات، الأُولى: (الإسلام في الألفية الثالثة)، درستُ فيها موقع الإسلام في الثقافة العالمیة ومفهوم الثورة الثقافية الإسلامية. في حين حملت المقاربة الثانية عنوان: (الإسلام وتنمیة المجتمع المعاصر)، والثالثة: (مفهوم العلم من منظار الإسلام)، وتناولت مفهوم العلم بین الفكر الوضعي والفكر الإسلامي، والترابط بین العلوم الشرعیة والعلوم الطبیعیة، ونظرة القرآن الكریم إلى العلم الطبیعي، والعلم الطبیعي في الحدیث الشریف، وموقع العلم في مسیرة الحضارة الإسلامیة.
أمّا الفصل الرابع الذي خصّصناه لموضوعات: (الأقلیات المسلمة في الغرب)؛ فقد احتوى على ثلاث مقاربات، الأُولى: (الأقلیات المسلمة في الغرب وتحدّيات الاغتیال الثقافي)، وعالجت المظاهر المتفرعة عنه، وخاصة التربوية والتعليمية والاجتماعية والحقوقية والثقافية والإعلامية، ثم طرحت معالجات وافية في أغلب المجالات الحياتية. بينما تخصصت المقاربة الثانية في معالجة حقوق الأقليات المسلمة في الغرب في ضوء التشريعات الغربية، والثالثة في واقع ومشاكل الأقليات المسلمة في أُوروبا الشرقية بين العهدين الشيوعي والديمقراطي.
بينما تناول الفصل الخامس (حوار الحضارات والأديان والمذاهب)، وعالجت المقاربة الأُولى منه: (قيم الحوار والتعايش في الرؤية الإسلامية)، وتناولت قيم الحوار ومبادئه وأنواعه وأطرافه وآدابه وأخلاه من وجهة نظر اسلامية، إضافة إلى نماذج من حوارات الرسول والأئمة^. وحملت المقاربة الثانية عنوان: (المسلمون والعلاقة المتوازنة بين الحضارات)، وعالجت موضوعات الحاجة الإنسانية للحوار، وكونه مبدأً إسلامياً، وقدرته على تحقيق هدف الأمن والسلام، وخيارات البشـرية لتحقيق الأمن والسلام، وعالمية الإسلام، ومسؤولية الأُمّة الإسلامية تجاه السلام العالمي والتمهيد لحكومة السلام العالمية. في حين تناولت المقاربة الثالثة: (مستقبل الحوار الإسلامي ـ المسيحي)، ودوافع الحوار بين الأديان والإرهاب، وبيئة ظهور الإرهاب وعوامل اجتثاثه.
وكان الفصل السادس محطة ثقافية أدبية، عنوانها: (أدب أبي فراس الحمداني وسعدي الشيرازي)، ومقاربته الأُولى حول: ( تصالح المتعارضات في شعر الأمير العربي أبي فراس الحمداني)، وتحديداً ثنائيات: الفخر بالعشيرة والشكوى منها، والغرور والتذلل، والعفة والتحلل، وكبرياء الأمير وبكاء الأسير، والتدين والجبروت. أمّا المقاربة الثانية فكانت حول: (التفاعل بين الأدبين العربي والفارسي)، والتي أخذت أدب الشاعر الفارسي سعدي الشيرازي أُنموذجاً؛ فقد درست التكامل الثقافي بين العرب والإيرانيين والتفاعل بين الأدبين العربي والفارسي، وشعر سعدي ونثره المعبرين عن هذا التفاعل.
وفي الختام، أتقدم بهذا الجهد إلى روح شيخي وأُستاذي المفكر والفقيه والقائد العلّامة محمد علي التسخيري، عرفاناً مني بفضله الأكبر في حياتي بعد الله (تعالى)، وإحياءً لذكرى رحيله الأُولى. إذ لا يزال الشعور بالألم والغصة برحيله تملآن الروح والعقل، الأمر الذي يدعونا إلى مواصلة منهجه ومسيرته الفكرية والثقافية.
***
علي المؤمن