مقاربات فنية وحضارية

مؤيد عبد الستار: أعمدة آشوكا ومسلة حمورابي

(كل الناس أبنائي وليس من واجب على المرء أسمى من العمل لخير الإنسانية)...آشوكا

آشوكا هو الامبراطور الثالث لمملكة موريا في الهند، حكم 273 ق.م - 232 ق.م. وأعمدة اشوكا هي اعمدة كونكريتية مصنوعة من الحجر الرملي Sandston*. فوق قمة العمود تمثال لحيوان (أسد أو ثور أو فيل). ونقشت زهرة اللوتس في القمة ايضا وهي التي أصبحت رمزا للبوذية، أما الاسد فهو دلالة على القيادة والملوكية.1853 BOUDA

صنعت الاعمدة في القرن الثالث قبل الميلاد. (268-232 قبل الميلاد) في مدينة ساماث في الهند، وكل عمود مقسم الى ثلاثة اقسام:

1- القاعدة

2- المحور

3- القمة

تمثل الاعمدة رمز الالتزام الهندي بالبوذية ودعوة للسلام والتسامح، نقش عليها أربعة مراسيم بأمرمن آشوكا، وتعد من بين اولى التماثيل الحجرية في شبه القارة الهندية، ومن بين الاعمال الفنية المتطورة ويتضح تأثير العمارة الاخمينية عليها.

من الجدير بالذكر ان الانتقال من تماثيل الخشب الى تماثيل الحجر حدث في الفترة بين 350 - 185 ق. م في امبراطورية موريا التي حكمها اشوكا.

تم اكتشاف أول عمود في القرن السادس عشر الميلادي، وتدل هذه الاعمدة على التأثير الكبير للبوذية في تطور الثقافة الهندية، وتطور المجتمع. وتأثير البوذية في توحيد الناس من مختلف المشارب والمعتقدات.

تؤكد هذه الاعمدة التزام الامبراطور اشوكا بالعدالة ونشر السلام والتحلي بالصبر.

نقشت مراسيم اشوكا على هذه الاعمدة ووزعت على اماكن مختلفة في مناطق الهند والنيبال. بعض هذه الاعمدة مازالت قائمة حتى اليوم.

مذبحة كالينجا

انتهت حرب كالينجا حوالي عام 261 قبل الميلاد وهي الحرب التي نشبت بين مملكة موريا التي يحكمها الامبراطور اشوكا ومملكة كالينجا الواقعة على الساحل الشرقي من الهند فيما يعرف اليوم بولاية اوريسا وشمال ولاية اندربرادش في الهند.

حرب كالينجا كانت واحدة من أعظم الحروب، حصدت أكبر عدد من الضحايا في تاريخ الهند، راح ضحيتها نحو 250 الف انسان.

اعتذر اشوكا عن مذبحة كالينجا وأكد للشعب انه اليوم لا يفكر الا في مصلحتهم وسعادتهم فقط.

تحول الامبراطور آشوكا الى البوذية بعد هجوم جيشه على كالينجا وتنفيذ مذبحة فيها، فتبنى تعاليم بوذا التي تعرف بالحقائق الاربعة.

تعاليم بوذا

1- الحياة معاناة (المعاناة = الولادة من جديد)

2- الرغبة هي سبب المعاناة.

3- يجب القضاء على سبب الرغبة

4- عندما تنتصر على الرغبة. تزول المعاناة.

كما ان اشوكا لم يفرض على الناس البوذية ولم تصبح البوذية ديانة الامبراطورية، ولكن من خلال دعم اشوكا لها انتشرت بسرعة في المجتمع.

ان الشخص الذي يستوعب ويفهم الحقائق النبيلة الاربعة المذكورة اعلاه يصبح قادرا على فهم كنه الحقيقة التي تنير عقله وتنهي معاناته، المعاناة من الدورة اللانهائية للولادة واعادة الولادة، تكرار هذه المعاناة.

كان لنشر المسلات - اعمدة اشوكا - اثره في الاهتمام بالبوذية، وتم استخدام تماثيل الحيوانات لتتربع على قمة العمود، ونقشت زهرة اللوتس على اعلى العمود ايضا وهي التي اصبحت شعار البوذية، فزهرة اللوتس تنمو من الطين وتتفتح فوق السطح.

معظم الاعمدة يـتربع على قمتها تمثال أسد أو جاموس، على هيئة جلوس او وقوف، والاسد في عرف الثقافة السائدة يدل على الملوكية (Royalty) أو القيادة.1850 BOUDA

مراسيم اشوكا

بعض الاعمدة نقشت عليها مراسيم - قوانين - وترجمت سنة 1830م. في القرن السابع عشر عثر على 150 مرسوما من مراسيم اشوكا نقشت على سطوح الصخور وجدران الكهوف وعلى اعمدة اشوكا.

جميع هذه المراسيم ميزت امبراطورية اشوكا التي امتدت من شمال الهند الى جنوبها وانتشرت حتى وصلت الى ما يعرف اليوم بالنيبال وباكستان وبنغلادش وافغانستان.

نصبت الاعمدة قرب طرق التجارة والمدن الحدودية كي تقرأ من قبل أكبر عدد من الناس. كما نصبت في المدن التي تستقبل الحجاج مثل بودا غافا، المكان الذي حصل فيه بوذا على رسالته، وغيرها من الاماكن المشابهة.

نقشت بعض المراسيم باللغة البراهمية، وهي التي تفرعت عنها معظم اللغات الهندية، وفي غرب الهند عثر على مراسيم نقشت باللغة السنسكريتية، وهناك عمود في افغانستان نقش بالارامية والاغريقية، ما يدل على رغبة اشوكا في الوصول الى مختلف الثقافات في امبراطوريته.

توجد عدة فرضيات عن استخدام اشوكا للاعمدة في نشر رسالته. الاحتمال الوارد هو ان فنانين من بلاد فارس جاءوا الى الهند - امبراطورية اشوكا - بحثا عن عمل، فـنقلوا خبرتهم في صنع الاعمدة الكونكريتية التي كانت شائعة في بلاد فارس.

ان القوانين التي نقشت على الاعمدة لا تتعمق بالفلسفة البوذية ويعتقد ان آشوكا أراد بعمله هذا أن يبين للناس التغيير الذي طرأ على عقيدته وتبنيه حياة مثالية بعيدة عن العنف والقتل **

مسلة حمورابي1852 BOUDA

تعد مسلة حمورابي من اشهر المسلات القانونية ومحاولة مبكرة لتأطير المجتمع من خلال تدوين القوانين وفرضها على المواطنين.

صنعت من حجر الديورانت، اسطوانية طولها نحو 2 متر و25 سم، قطرها نحو 60 سم، عثرت عليها البعثة الفرنسية للتنقيب عام 1902 في مدينة سوسة عاصمة عيلام.(المحافظة الكوردية الواقعة غرب ايران). محفوظة في متحف اللوفر / فرنسا.

لم تعثر بعثات التنقيب على نسخة اخرى منها، واعتقد ان النسخة التي عثر عليها في مدينة سوسة / عيلام، سلمت من التلف بسبب المدينة الحصينة التي استطاعت الحفاظ عليها لقرون.

رغم الفارق الزمني بين مسلة حمورابي وأعمدة آشوكا (يقدر بألف وخمسمائة عام)

الا ان الهدف المنشود للمسلتين متشابه، أراد حمورابي تنظيم المجتمع ونشر افكاره عن طريق نشر القانون والدعوة الى الالتزام به. كذلك آشوكا استخدم الاعمدة -المسلة - الحجرية ونقش عليها القوانين التي يعتقد انها ستغير الناس.

نلاحظ على قوانين حمورابي استنادها الى حكم الاعدام في العديد من المواد التي تتصدر المسلة. وربما الكثير من القوانين كانت قاسية ومجحفة بحق المتهم، فعلى سبيل المثال، المادة الاولى تنص على مايلي: إذا اتهم سيد سيدا وأقام عليه دعوى بالقتل ولكنه لم يستطع اثباتها فان المتهم يعدم.

أما المادة الثانية فهي غريبة حقا، تعتمد على السحر، فاذا اتهم شخص شخصا آخر بالسحر ولم يستطع تقديم الدليل، فعلى المتهم القاء نفسه في النهر فاذا غلبه النهر ستعطى ثروته للمشتكي واذا نجا من النهر يعدم المشتكي وتعطى ثروته للبرئ.

ولناخذ مثالا آخر، المادة 21: اذا بقر – فتح – سيد ثغرة في دار ما فعليهم أن يعدموه أمام تلك الثغرة ويقيموا عليه الجدار.

ومثل ذلك الكثير من احكام الاعدام التي تدل على جبروت الحاكم الذي يظهر كطاغية لا يلتمس حلولا منصفة لابسط المشاكل ويلجأ الى اقسى القوانين كالاعدام والاغراق بالنهر.

ولست هنا لاقدم دراسة مفصلة عن مسلة حمورابي ولكني وددت الاشارة الى الفرق الكبير بين الامبراطور آشوكا الذي افاق على نتائج حرب كالينجا وأراد التكفير عن القسوة التي شاهدها فوضع منهجا لاشاعة الامن والسلام من خلال المراسيم التي سجلها على مسلة صنع منها العديد من النسخ ووزعها على مختلف الولايات في مملكة موريا التي يحكمها طولا وعرضا. والقوانين القاسية لمسلة حمورابي.

***

د. مؤيد عبد الستار

......................

* يتراوح طول العمود بين 12 م الى 15 مترا، يزن العمود الواحد. منها حوالي 50 طنا، سَـلم من عوادي الدهر 19 عمودا من الاعمدة الاصلية.

** ينظر مقال:

The Pillars of Ashoka by Dr. Karen Shelby

https://smarthistory.org/the-pillars-of-ashoka/

*** حول مسلة حمورابي راجع كتاب: شريعة حمورابي، ترجمة محمود الامين، دارالوراق، لندن، 2007.

في المثقف اليوم