مقاربات فنية وحضارية

علاء حمد: النسق الحركي الفاضح في لوحات الفنان العراقي معراج فارس

ياترى هل تجذبنا الألوان: الحارة والباردة في المنظور والتعامد الفنيين في لوحات الفنان العراقي معراج فارس؟ لا أميل كثيراً إلى الأنظمة الهندسية بقدر ما أدخل بشكل تلقائي من ناحيتي منظور الألوان وشبكاته المتعدّدة والفاصل الفعلي للحركة الفعلية؛ حيث أنّهما تشكّلان تشكيلاً فجائياً تؤدّيان إلى عنصر الدهشة، وإذا ترجمنا هذه الأعمال من الناحية النصّية، فهي المدرسة السريالية التي من الممكن تحويل كلّ عمل إلى نصّ. ويقودنا هذا النصّ إلى شبكة من الأشياء، الأشياء التي أكّد عليها (مارتن هايدغر)؛ لسنا هنا في بيت سلفادور دالي، ولا في بيت للتكعيبية عندما يجالسنا بيكاسو، نحن في بيت الفنان العراقي معراج فارس... عرج بنا بين الكرسيّ الوحيد والنازل بموقف مؤقت، وبين الفتاة الطائرة التي تتمشّى في الهواء الطلق لكنّها في المدخل التكويني للقبلة.277 معراج فارس

من خلال المنظور الكتابي لحركة الألوان ودلالاتها نلاحظ بأن الوتيرة الإدراكية واحدة، وهي الوتيرة الانتقالية وهذا ما تؤكده الألوان الدالة الحركية والتي اعتمدت الظاهراتية، أي أنّ صرخة اللون كانت المزار الأول للأعمال الفنية للفنان العراقي معراج فارس.

تزول سلطة العقل عندما نكون في التلقائية، وذلك بسبب حركة الفرشاة وتلقائيتها في الرسم والتلوين، وقد وضّح الفنان بأنّ الدالة التي أكد عليها هي اللون الأزرق، مثلما مرحلة بيكاسو الزرقاء عندما رسم عازف القيثارة المسن. ولكن في الوقت نفسه، لا أعتبر مرحلة الفنان معراج فارس مرحلة زرقاء بقدر ما أنّ هناك اللون اللازوردي الذي يميل إلى بوابة بابل؛ هذه التشبيهات التي اعتمدها تدخل ضمن نظرية الاستعارة، وكأنّي أمام التفكير الناقد وهو الأسلوب للتقدم والتنوّع في انزياح الألوان وانزياح الخطوط البيانية التي دمجها ضمن اللون الظاهراتي.278 معراج فارس

فقد أكّد موريس ماندو في كتابه تاريخ السريالية: (وتصبح المفاجأة الحافز الأكبر الجديد: الأسلوب الجديد يتميّز عن جميع الحركات الفنّية والأدبيّة التي سبقته، بعنصر المفاجأة والمكانة التي يجعلها لهذه المفاجأة. فلسنا بحاجة، في بدء بحثنا، إلى اختيار حدث ما عرف بسموّه، واللجوء إلى أنظمة قد سبق للذوق أن أقرّها، بل نستطيع الانطلاق من حدث يومي، مثلاً: إنّ منديلاً يقع، يمكن أن يصبح رافعة. – تاريخ السريالية – ص 22 – موريس ماندو – ترجمة: نتيجة الحلاق – مراجعة: عيسى عصفور – من منشورات وزارة الثقافة السورية 1992م.).

إنّ النزول إلى عبقرية الحركة الفعّالة لكلّ لوحة من لوحات الفنان العراقي معراج فارس، هناك اتجاهان؛ الأوّل موضوعية اللون والتي تفهم (من خلال الفلسفة الظاهراتية) على أنها نصّ مترجم على لوحة اعتمد على اندماج الألوان ضمن القائمة اللونية، والثانية؛ حركة الذات الحقيقية والتي كانت انطلاقة للفعل الحركي من خلال الموضوع، وهناك ما يدلّ على امرأة منطلقة كأنّها حاملة بيرق الثورية وتحتها سمكة وبلبل، يلتقيان في حركة المرأة، فالفنّان لا يتخلّى عن رمزيته، بين القول المتقدّم للبلبل، وبين البراءة الصامتة للسمكة.279 معراج فارس

طائر يعانق سمكة، في منطقة كتب على فخذها ممنوع الوقوف والتوقف، وهذا ما يقودنا إلى أنّ العناق والحبّ واللقاء من الممنوعات في بلاد ما بين عشيقين، ومن هنا تكون للسرّية التامة محاطة بعناق لا يعلم به الجميع، ولكن نلاحظ وجود السمكة والتي ألبسها اللون الأخضر والذي يدلّ على الأمل والتأمل وكأننا أمام مساحة ترفض الابتعاد عن الطبيعة.

ومن خلال المنظور النسقي وترتيباته الفنية من الممكن أن نجعل من اللوحة، لوحة بصرية، وتكون هي الترجمة الفعلية عندما نحدّق بكلّ لوحة من لوحات الفنان معراج فارس؛ فقد اعتبر هذه الأنساق، هي الكشف عن الألغاز الحياتية، ولكي نكون في المنطقة الأكثر إثارة، علينا الرمز إلى بعض الشيفرات التواصلية، وعندما نطرق باب اللوحة لكي ندخلها، نلاحظ دعوتها قبل التحديق.280 معراج فارس

هناك فكرة تداولية وقد ترسّخت عند الفنانين والنقاد، تقول: إنّ الفنّان لكي يكون حداثياً، لابدّ أن يكون صادماً.

هناك المحسوس الذي يتبع للحسّية وهناك المحسوس الخاص الذي ذكره ابن سينا (وأعني بالمحسوس الخاص ذلك الذي لا تستطيع أن تحسّه حاسة أخرى والذي يمتنع وقوع الخطأ فيه. فمثلا البصر؛ حاسة اللون – الإدراك الحسي عند ابن سينا – ص 53 – د. محمد عثمان نجاتي). وهناك أيضاً كما يؤكد ابن سينا الحسّية المشتركة، ولكن توقفت أمام جدلية اللون ومجاوراته في الطبيعة من جهة، وجدليته في اللوحة من جهة أخرى، حيث أنّ اللوحة عبارة عن نصوص صغيرة، وهي الحركة الفعلية للألوان أوّلا، والمشهد الفكري الموازي للون ثانياً.281 معراج فارس

لا يعتمد الفنّان معراج فارس على التجريد في فصل اللوحة عن العقل، بل هي الرؤية الحسّية التي تؤثر على المحسوس، ومحسوسات الفنّان، تنتمي إلى الكيفيات الذاتية، ومن هنا تخرج المعالم الخيالية للفعل التخييلي الذي أصبح دالة للفنتازيا في التواصل المبدئي، والفاضح للنسق الحركي في جميع اللوحات التي اعتمدها كتبشير فنّي كي يُظهر الفعل القولي المتقدّم.

من خلال الأبعاد اليومية، أخذ الفنان نقاطاً وعلامات وقرائن إشارية في التحدّي والتمرّد، والفنّ بلونه الأزرق بحدّ ذاته يعتبر تمرّداً على بقية الألوان وذلك لما يمتاز به من عذوبة فنية وذائقة عليا. ومن خلاله، فإنّ المألوف يسبح في بحيرة اللامألوف، والمعقول يزيله من أمام عينيه، كي يتكئ على اللامعقول، ومن هنا يبني لوحاته التي اعتمدت الألوان والتي ظهرت جنباً إلى جنب لتكوين مظهرها الحقيقي في الأشياء المألوفة.

لقد سعى السرياليون إلى الالتماسات المعرفية التي تقودنا إلى:

معرفة اللاوعي: وهي تلك المعرفة التي تعتمد على تلقائية الفرشاة في منظور الألوان والأبعاد والتعامد، فليس من الضروري نقل هندسة الأشياء بخطوطها البيانية، بل من الممكن التلاعب بتلك الخطوط أو تحويل الأشياء، كأن تكون امرأة على شكل سمكة، ورجل يرتدي ثياب طير، كما نلاحظ في لوحات الفنان العراقي معراج فارس.

مداعبة الموضوع: من الممكن استخدام المداعبة واللعب بالأفكار من جهة، وعكسها على الألوان من جهة أخرى، وقد ظهرت هذه المداعبة في الألوان التي أمامنا، وذلك من خلال بعض موضوعات اللوحات والتي من الممكن ترجمتها إلى نصوص تواصلية.

المخيلة الفنّية: وهي على علاقة مع الذات الحقيقية التي أكد عليها زعيم السريالية بريتون؛ وتكون المخيلة مشبعة بالموضوعات الفنية وترى كلّ شيء أمامها من الممكن تحويله إلى لوحة. وعملها كعمل الذات الشاعرة.

اللعب بالألوان: ويتمّ التأكيد على ظهور اللون العالق بالذات الحقيقية أو مخيلة الرسم، والتي تعني أنّ مناطقها ملتزمة باللون المفضل لدى الفنّان.

***

كتابة: علاء حمد

في المثقف اليوم