مقاربات فنية وحضارية
كاظم شمهود: الفنان العراقي حمودي طاقات ابداعية فنية وموسوعة ثقافية
ولد جميل حمودي في بغداد عام 1924 وتخرج من معهد الفنون الجميلة عام 1945ـ وشارك في معارض جماعة اصدقاء الفن وجمعية الفنانين العراقيين. كما شغل حمودي مدير المتحف الحديث ـ كولبنكيان ـ في بغداد خلال فترة الستينات، وفي وقت لاحق اسس قاعة اينانا (احد الهة سومر). ومنذ كان طالبا في معهد الفنون الجميلة اصدر مجلة طلائعية عام 1945 اسمها الفكر الحديث تهتم بشؤن الفن، حيث شكلت هذه المجلة الريادة في التنوير الثقافي والفني في وقت كان فيه المجتمع يرضخ تحت نير التخلف والتحجر والاستعمار.
سافر حمودي الى باريس لاكمال مشروعة الثقافي وهناك اسس مجلة ثقافية فنية عام 1949 اسمها ـ عشتار ـ واقام له اول معرض هناك عام 1950. وقد كتب عنه عدد من النقاد الفرنسيين منهم ميشيل سي فور وكاستون ديك وغيرهم. ويعتبر حمودي موسوعة ثقافية وفنية فهو بالاضافة الى الفن له بحوث في النقد والعمارة والشعر وقد اصدر مجموعتين شعريتين باللغة الفرنسية بعنوان: احلام من الشرق.
جميل حمودي والحرف العربي
يذكر ان جميل لما حل في باريس انتابه الحنين الى ارضه ومجتمعه، ولكي يطفي هذه النار العاطفية الملتهبة فقد لجئ الى استخدام الحرف العربي في لوحاته فهو خير كهف وملاذ من قساوة الغربة.. فقد استخدم الحرف العربي في لوحاته كعنصر تشكيلي وكذلك كمفهوم خطابي لغوي. وذلك حتى يشعر بالطمأنينة والانتماء الى تراثه واصله. وهو اقصى ما يستطيع عمله في تلك البلاد البعيدة. وقد تكون حركة الكرافيتي التي انتشر في الشوارع في باريس في ذلك الوقت احد الاسباب التي لفتت نظر حمودي الى اهمية الحرف في التشكيل. وكانت تلك الحركة العفوية قادها شبان من الطبقة الفقيرة حيث اخذوا يرسمون في الشوارع وعلى الجدران ومحطات المترو. ومزجوا في اعمالهم بين الحرف اللاتيني والشكل. وكانت بمثابة نوع من التعبير والاحتجاج على الظروف المأساوية التي يعيشونها.
وشعر حمودي بان جمال الحرف العربي بخطوطه المتنوعة يشعره بهويته ويهدئ من لوعة الغربة ويمنح اللوحة فضاءا جماليا رمزيا ولغويا مثل لوحة ـ الله والبشر، 1959 ـ ولهذا فان الكلمات التي ظاهرة في هذه اللوحة يمكن قراء تها. وبالتالي فان استخدام الحرف عند حمودي جاء بصورتين الاولى هو كعنصر تشكيلي والثاني كرمز لغوي يمكن قراته وفهمه...
وهو بهذا الاتجاه والاداء يختلف عن بعض الفنانين العراقيين مثل شاكر حسن ال سعيد الذي طرح الحرف كعنصر روحي صوفي كوني يثير التأمل والتفكير كما ظهر ذلك في نظرية البعد الواحد التي طرحها عام 1971. وكذلك يختلف عن الاخرين الذين استخدموا الحرف كعنصر تشكيلي جمالي يساهم في بناء اللوحة مثل رافع الناصري وقتيبة الشيخ نوري ومديحة عمر وغيرهم.
في عام 1950 اقام له اول معرضا في باريس استوحى اعماله من الحرف العربي وجمال تشكيلاته التي تصرخ بهويتها العربية، فنرى الحرف يسبح في فضاء اللوحة باشكاله الهندسية المتنوعة والمتقاطعة والمتعانقة وكأنها في توادد وتراحم. واحيانا يصعب قراءة هذه الاعمال، ورغم ذلك فحمودي يضع اسماء او عناوين لهذه الاعمال، مثل لوحة ـ الله والمرأة الخالدة ـ والنفط يحرر الشعوب والمرأة الخالدة والسمفونية الخالدة.. ونجد الخلفية تشكل حركة متماشية ومنسجمة مع حركة الاحرف، كما نرى احيانا كثافة في التشكيلات الحروفية مما يصعب قراءتها.
التجريد في اعمال حمودي
يذكر هربرت ريد انه يعتقد ان وراء هذه المظاهر المتعددة في الطبيعة حقيقة خالدة واحدة وان مهمة الفنان هو اكتشاف تلك الحقيقة وهذا هو الاتجاه الميتافيزيقي. والحرف العربي حرف في حقيقته تجريدي رمزي له كيان روحي وهو ينطق من خلال صوت الانسان العربي، ولهذ نجد ان شاكر حسن ال سعيد ربط الحرف بعالم الكون. وبهذا الاتجاه التجريدي ذهب الفنان الروسي كاندنسكي الذي اقام مذهبه على اساس فلسفة شبنهور الجمالية والذي يرى ان كل الفنون تطمح الى ما وصلت اليه الموسيقى من تجريد، فهي تدخل الى المستمع دون اذن او واسطة مادية. في اعمال حمودي نشاهد عالم معقد من الاشكال الهندسية من مثلثات ودوائر واقواس ومربعات ونقاط. ويحملنا كل ذل الى عالم كاندنسكي ومدرسة التجريد. ولكن اين تكمن القيمة الجمالية في هذه الاعمال؟. يقول افلاطون ان الدوائر والمربعات والمخاريط هي جميلة بحد ذاتها جمال مطلق. والحرف العربي هو حرف تجريدي وظاهرة صوتية رمزية وجمالية مطلقة.
وقد تنوعت انشغالات حمودي بين التجريد والحروفية وكذلك بين التمثيل الواقعي والالوان الشرقية الحارة. فنجد احيانا ان حمودي يجمع بين الحروفية والشكل الواقعي. ورغم المسحة التجريدية التي تطغي على اعماله الا ان مواضيعة تنتمي الى الثقافة والمفاهيم الشرقية. وكان لحمودي دور كبير منذ الخمسينات في تحويل الفن العراقي من التقليد الواقعي الى الحداثة، فعمد الى تهديم الاوضاع الفنية القديمة وبناء شيئا جديدا متأثرا بالاساليب الاوربية الحديثة. وربما هو اكثر الفنانين العراقيين جرأة وبحثا وعمقا في التراث.
وكان بول كلي الذي حط في تونس عام 1914 هو اول من لفت نظر الفنانين العرب الى اهمية الحرف العربي وقيمه الجمالية في التشكيل، وقد رسم عددا كبيرا من اللوحات يظهر فيها الحرف العربي عنصرا فريدا تشكياليا جميلا في اللوحة.
***
د. كاظم شمهود