مقاربات فنية وحضارية
رضا الصُخني: فن هند بشير
تختبيء هند بشير خلف اقلام ملونة وتشاهد العالم في صمت. تتحرى الامكنة وتجس نبض الوقت بيديها ثم لا تلبث ان تكشف خباياها على الورق. ان الفن عمل يشبه السحر؛ ينظر الى الخارج لكنه يمس الداخل في العمق الخفي من النفس. يستطيع الرائي ان يقرأ بعينيه ما تقوله صورها عن ذلك الوجع المكتوم الذي يشبه عشيّات الوداع حتى وهي ترسم رسوماً تنقلها عن صور صنعتها كاميرا. تنظر مليّاً في تلك الوجوه ثم يتذكر قلمها او ريشتها تلك الغصص البعيدة فتبدأ حكاية سردية بين كل خفقة واخرى. كنت انظر بإمعان الى دواخل شخوصها فتنهال حكايات كثيرة. لقد اعتدتُ، كمشاهد، ان آخذ المسار المعاكس لطريقها، كرسامة، انزل الى الاعماق ثم اصعد واتفحص الرؤى ويتجلى شئ وراء هذا الوجه او هذا الوجد.
ذلك الورد المتدلي من نوافذ الذاكرة او تلك الاشجار المتباهية بجمالها تحت شمس الربيع او عقائص الزهر محبوسةً في اواني الزجاج كلها تنطق بالبهجة ذات الحزن الوديع مثل حبات المطر الخريفي لقلب مستوحد. انها رسوم هند بشير يونس العراقية الموصلية الشمالية التي نمت شجرتها في الجنوب حيث كان والدها المحامي يعمل في الناصرية فكان العراق بكل بدنه في ثنايا روحها.
الفن يشي بالاسرار. وسواء كان نغماً أو شعراً أو رسماً فالروح الكلي يتراءى في ضمير المتلقي. هكذا تبدو رسوم هند بشير بعبق هو خليط من روائح الثقافة الطيبة. قراءاتها ومعارفها. هند اصلاً متخصصة في علوم الاحياء المجهرية بشهادة ماستر أهّلتها للعمل في الجامعة وفي المختبر. هل الرسم غوص في اللامرئي من تفاصيل الاحياء الدقيقة؟
لقد بدأت موهبة هند مبكرةً حيث كانت ترسم منذ طفولتها ولكن ذاك كانت هبة الله الفطرية. لقد تعلمت الرسم كصياغة فنية منهجية وتقول انها تتعلم بلا انقطاع. لكنها لم تصنع لنفسها ضجيجاً. اصدقاء محدودون يعرفون عن فنها دون معارض ودون لافتات. وحين شاهدت رسومها الاولى حاولت التقصي في فضاء المعلومات لكنني لم اجد شيئاً. يبدو عالمها صموتاً باختيارها.
عادةً أَستغرقُ في فن الرسم كما أَستغرقُ في الشعر. في زيارتي الاولى لباريس قضيتُ ست عشرة ساعة من يومين في متحف اللوڤر منتشياً بفرح غريب تخالطه سحب كآبة غامضة وانا اجول بين اطياف لا تنتهي من الحلم. كثير من اعمال اللوڤر رسمت لوجوه بشرية بعضها لملوك وأباطرة وأرباب ديانات متقلدين نياشين الابهة واخرى لشحاذين مشحونين بفقر فاضح لا تخفيه عتمة الحجرات الرطبة الباردة. وفي البندقية عند الساحة المواجهة لقبة الكاتدرائية حيث ترتفع جدران البازليكا العالية ينتشر الرسامون المتكسبون من رسم وجوه السواح. كنت اشاهد حركة ايديهم الرشيقة تنقل تفاصيل وجوه تحت الشمس او تحت اضواء المساء. لكنْ ثمةَ فارقٌ بيِّنٌ يميّز رسوم النظر السطحي عن رسوم الغور في الذات. هذا بالضبط ما رغبت في كشفه وانا اتحدث عن رسوم هند بشير.
لهند موقع على الفيس بوك يمكن لمن يستقصي ابعاد فنها ان يزوره ويستمتع بما تعرضه:
https://www.facebook.com/groups/182592435629693
رضا الصُخني