أقلام حرة
علي الطائي: هل يحتاج الله إلى هيرمينوطيقا كي يُفهم؟
في مجتمعاتٍ تعاني من أمّية معرفية متفاقمة، ومن ارتباك أخلاقي، وانجرافٍ سهل نحو الخرافة والتديّن السطحي، يبرز مشهد يبدو للوهلة الأولى عبثيًا حدّ التناقض: خطابات فلسفية معقّدة، ومقالات مُثقَلة بالمصطلحات، ومحاضرات تُلقى بلغة لا يفهمها إلا القليل، بينما الشارع يزداد بُعدًا عن المعنى، وأقرب إلى السذاجة الفكرية والتأويل الديني المشوَّه. هنا لا يكون السؤال عن قيمة الفلسفة بذاتها، بل عن جدوى هذا النوع من الخطاب، ولمن يُكتب، وما الذي أضافه فعليًا إلى وعي المجتمع أو أخلاقه أو قدرته على التمييز.
الفلسفة، في أصلها، لم تكن لغة نخبوية مغلقة، ولم تُخلق لتُحجَب عن الناس. سقراط لم يحتج إلى مصطلحات معقّدة وهو يحاور العامة في السوق، وأفلاطون لم يكتب أطروحاته في لغة غامضة بل في حوارات حيّة، والديانات نفسها — وفي مقدّمتها الإسلام — لم تُخاطب الناس بوصفهم فلاسفة، بل بوصفهم بشرًا. القرآن لم ينزل بلسانٍ مغلق، ولم يطلب من المتلقّي أن يمتلك أدوات فلسفية كي يفهم مقاصده الكبرى؛ قال بوضوح: العدل، الرحمة، الصدق، حفظ النفس، كرامة الإنسان. لغة فصيحة، عميقة، لكنها مبينة، تصل إلى الراعي كما تصل إلى التاجر، إلى الأمي كما تصل إلى المتعلم.
المشكلة تبدأ حين يتحوّل الشرح الديني أو الاجتماعي إلى استعراض لغوي، وحين تُستبدل الفكرة بالمصطلح، والمعنى بالزخرفة الاصطلاحية. نسمع اليوم خطابات مليئة بالهرمينوطيقا، والأنطولوجيا، والبراغماتية، وكأن هذه المفاهيم، بحدّ ذاتها، تحمل خلاص المجتمع. لكن السؤال البسيط الذي لا يُطرح هو: ماذا فهم الناس؟ ماذا تغيّر في سلوكهم؟ هل خفّ العنف؟ هل تراجعت الطائفية؟ هل انحسرت الخرافة؟ الواقع يقول إن الفجوة بين الخطاب النخبوي والشارع تتّسع، لا تضيق، وأن اللغة المعقّدة لم تُنتج وعيًا، بل أنتجت اغترابًا إضافيًا.
الدين، حين يُشرح بلغة لا يفهمها الناس، لا يعود هاديًا، بل يتحوّل إلى طقس فارغ أو شعار أيديولوجي. وحين تُقدَّم المفاهيم الأخلاقية الكبرى بلغة غائمة، يملأ الفراغَ خطابٌ أبسط، لكنه أكثر خطورة: خطاب الخرافة، والتكفير، والتعصّب. ليس لأن الناس يكرهون العقل، بل لأن العقل حين لا يخاطبهم بلغتهم، يتركونه ويبحثون عمّن يفهمونه، ولو كان مضلِّلًا.
هنا تبرز مسؤولية المثقف والفيلسوف. ليس مطلوبًا منه أن يتنازل عن العمق، بل أن يفهم أن العمق لا يعني الغموض، وأن الفكرة القوية تستطيع أن تكون واضحة دون أن تكون ساذجة. الفيلسوف الذي لا يستطيع إيصال فكرته إلا بلغة مغلقة، ثم يلوم الناس على عدم الفهم، لا يمارس تنويرًا، بل يعيد إنتاج نخبوية عقيمة. الفلسفة، إن لم تمسّ الواقع الاجتماعي، تبقى ترفًا ذهنيًا، لا قوة تغيير.
في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، وفي العراق تحديدًا، لا نعاني من نقص في الدين، بل من اختلال في الخطاب الديني، ومن انفصال بين النص وروحه الأخلاقية. الدين حاضر بقوة، لكن الأخلاق غائبة، والشعارات كثيرة، لكن القيم ضعيفة. هنا لا يكون الحل في مزيد من التعقيد الفكري، ولا في إغراق الناس بمصطلحات لا تعني لهم شيئًا، بل في إعادة الدين إلى لغته الأولى: لغة الإنسان، والضمير، والسلوك اليومي.
هل للدين ذنب في ما نعيشه؟ النص بذاته ربما لا!!، لكن الخطاب الذي قُدِّم باسم الدين، نعم. وحين يلتقي خطاب ديني مشحون بالعاطفة مع خطاب فلسفي معزول عن الناس، تكون النتيجة مجتمعًا بلا بوصلة: لا عقلًا ناقدًا، ولا إيمانًا أخلاقيًا حيًا. القرآن لم يحتج إلى وسائط لغوية معقّدة ليبني أمة، ولم يستخدم لغة لا يفهمها الناس، بل خاطب الفطرة قبل العقل، والوجدان قبل المصطلح.
لا أدعو إلى إلغاء الفلسفة، لأن كل الناسِ فلاسفة وإن لم يشعروا!! ولا إلى تبسيط مخلّ، ولا إلى تسطيح المعرفة، لكننا بحاجة ماسّة إلى مسؤولية لغوية وأخلاقية في الخطاب. أن نقول ما نريد قوله بوضوح، وأن نختار المصطلح حين يكون ضروريًا، لا حين يكون زينة. فالمجتمع الذي يغرق في الجهل لا يُنقَذ بخطاب لا يفهمه، ولا يُصلَح بدروس لا تصل إليه.
إن أعظم فشل للفكر ليس أن يُعارَض، بل أن يُتجاهَل. وإذا كانت الفلسفة، أو الخطابات الدينية المعقّدة، لا تغيّر شيئًا في واقع الناس، فعليها أن تراجع نفسها، لا أن تتهم المجتمع بالقصور. فالمعرفة التي لا تُضيء الطريق للناس، تبقى حبيسة الورق، مهما بلغت من العمق والرصانة.
***
بقلم: د. علي الطائي






