أقلام حرة
صادق السامرائي: اللغة العربية الشاعرة!!

لغة تعبر عن نفحات النفس وأمواجها المتهادية بعذوبة وإنسجام وقدرة فائقة على إطلاق ما فيها من تموجات وأنغام. وهي لغة النشاطات البشرية بعبقها المعرفي الفكري الفلسفي والعلمي ومنظورها الإنساني المطلق. هي لغة جامعة مانعة، تستوعب كل إبداع وعطاء وتمنع أي مضطرب وغثاء.
لغة الإنسان والأكوان التي تجلت فيها أمهات أفكار العصور والأزمان، وإنها لغة جنان العرش ومخلوقات الرحمان. إنها العربية اللغة الشاعرة، وغيرها لغات قاصرة عن الشعر، ولهذا إتخذ أصحابها منحى آخر للتعبير عن الشعر، فانطلقوا بكتابة الشعر المفكك أو المنفلت، والذي نسميه حرا أو ديمقراطيا أو سائبا أو نثريا، وغير ذلك من المسميات.
وراحت تعريفات الشعر تتواكب، وكأنه مخترع من المخترعات، وليس حالة نفسية إيقاعية متوطنة في النفس ولها قوانينها ومحاورها المنتظمة، كدقات القلب وإنسيابية التنفس وحركة الجهاز الهضمي ونبضات الدماغ الكهربائية، وغيرها من إيقاعات الحياة المحكومة بقوانين وأنظمة منضبطة ومتناغمة. وراحت تعريفات الشعر تتواكب حتى صار كل كلام يدعى شعرا، وكأن الحياة بلا نظام وتوازن وإنسجام.
ووفقا لمناهج التبعية والشعور بالإنكسار والدونية، والتفكير بعقول الآخرين، إنطلق العرب في ميادين الشعر المنفلت، حتى صار ما يكتبونه ضد الشعر واللغة، بل أن الشعر فقد قيمته ودوره في الحياة العربية. فآلياته مضطربة التعبير عن الفكرة، وبدى الشعر للمزحة والنكتة والضحك، وليس لإغناء النفس والروح والفكر، وإستنهاض الوعي وتغذية الإدراك وتهذيب السلوك.
فالمجتمعات التي تعجز لغاتها عن التناغم المؤثر، تجنح لتوليد كلمات تحسبها شعرا، لكنها تتحدث عن صور وحالات، وكأنها مقاطع تصويرية لإيصال معنى كامن فيها للمستمع، وكثيرا ما تميل للإثارة والمزحة!!
وقد حضرت العديد من القراءات الشعرية لشعراء معروفين، وما خرجت أهداف القراءات عن هذين المضمارين، فأما تصورات ولوحات فنية مرسومة بالكلمات، أو مقاطع ذات نهايات مباغتة تثير الدهشة أو الضحك، وكأنها قصص قصيرة جدا بخاتمة غير متوقعة.
ومع هذا فأن هذا الشعر شائع وقراءاته متعددة في معظم المكتبات العامة، التي لا تخلو منها قرية أو مدينة في المجتمعات المتفدمة ، وهو باقة أفكار ومقاطع تعبيرية عن فكرة ذات قيمة فلسفية وجمالية، وما بدى على أنه إضطراب أفكار، وإنما تجميع أفكار في لوحة تعبيرية مجسمة بالكلمات.
وفي العربية الحالة تختلف عن الكتابة الغربية للشعر، والتي إضطروا إليها لقصور اللغة، وعدم قدرتها على التواصل بقافية واحدة أو التلاحم بإيقاعات منسجمة، وقد حاولت الكتابة العروضية بلغة أجنبية، فوجدت اللغة الإنكليزية لا يمكن صبها بإيقاعات عروضية كما يمكن للغة العربية.
فحقيقة العروض أنها مُكتشفة وليست مُخترعة، وتمثل الإيقاع الداخلي المتواصل في أعماق البشر، ولهذا تجد الذي يستمع للشعر العربي العمودي يطرب له وإن لم يعرف اللغة، لأن الإيقاع يتواءم مع إيقاع الأعماق.
فالأوزان الشعرية العربية لسان حال الإيقاع الكامن في الإنسان، وقد تمكنت اللغة العربية من تحقيق هذا الإنسجام الرائع مع ما فينا من نبضات حياة وألحان نفس وروح.
فالحياة نغم وإيقاع، وإن فقدت الإيقاع إنتفت وتناثرت وإهتزت أركانها وإضطرب بنيانها، ومن الواضح أن الكثير من الكتابات بالعربية، والتي تسمى شعرا حرا تزدحم بإضطرابات أفكار تتفاوت بشدتها، ويمكن لأي طبيب نفسي حاذق أن يرى ذلك وخصوصا في كتابات رواد هذا الإتجاه، مما يشير إلى أنه تعبير عن علل في الإدراك والتفكير، تدفع إلى رؤية التواصل ما بين الموجودات بطريقة أخرى غير معتادة عند عامة الناس.
ومن المعروف أن الكثير من المرضى الفصاميين يميلون لكتابة الشعر، وعندما تقرأ لهم تجد هذه القدرة التي تبحث عن علاقات غير مدركة أو متعارف عليها ما بين الأشياء، وقد أشار إلى ذلك في مطلع القرن العشرين العالم النفسي (بلوير) في دراسته لإضطرابات تفكير المرضى العقليين.
بينما الشعر العمودي يعبّر عن إنتظام الأفكار ووضعها بعقدٍ إدراكي إيقاعي جامع ومتوالد، له قيمة ذوقية وتصورية ومعرفية، متوافقة مع نبضات الداخل الحي المتفاعل مع ذاته وموضوعه.
كما أن الشعر العمودي يرتب التفكير ويبرمج الدماغ ليكون قادرا على الإنتاج المنتظم، والمتوافق مع إيقاعات الحياة الفاعلة في الأيام وعبر الأجيال، ولهذا تواصلت قدرات المحافظة على الأصول والتقاليد والأعراف في المجتمع، لأنه يخضع لدماغ مبرمج وفقا للمؤثرات الإيقاعية للشعر، وبفقدان دور الشعر العمودي في حياتنا المعاصرة، عمّ الإضطراب والإنفلات والتناثر، وصار السلوك حرا أو مفككا أو نثريا، وفقا لما يتأكد من إضطرابات وإختلالات تعبيرية ذات باثولوجية عالية.
فهذا الإنحراف الذي أصاب الشعر، قد تسبب بصورة مباشرة أو غير مباشر في إنحراف السلوك، وهناك علاقة زمنية ما بين إضطرابات السلوك وبدايات هذا الإنحراف أو الإبتعاد عن الشعر العمودي، فمنذ الخمسينيات والعرب يعيشون في مضطربات متلاحقة، لأن دواخلهم إضطربت، وسلوكياتهم إنقلبت، بما أصابها من فقدان البرمجة الدماغية المتوافقة مع البرمجة العامة للسلوك.
أي أن الواقع العربي يعيش حالة من التفاعلات الفاقدة للوزن والإيقاع، والمزدحمة بالشذوذ التعبيري، وفقا لإنحراف قدرات التعبير عن الأفكار والمشاعر والعواطف بآليات مستوردة، لا تتوافق وحقيقة الذات المنتظمة والمنسجمة مع إيقاعات الكون والوجود بأسرها.
ومن هنا فأن سيادة الشعر المضطرب أو الحر أو المنفلت، اسهم بقوة في صناعة السلوك المتوافق معه، وبفقدان دور الشعر العمودي في الحياة العربية، صار السلوك كما هو عليه، فأورد العرب الويلات المتفاقمة والأزمات المتعاظمة، ولن يهدأ للعرب بال ومستقر إلا بالعودة إلى الشعر العمودي، وتعزيز دوره في ثقافتهم ووعيهم ونفسهم وسلوكهم، ذلك أن الشعر الحر قد حرم العرب من أكبر معين ثقافي ومعرفي في تأريخهم، فأحرق ديوانهم، ومزق كيانهم، وأطاح بعروبتهم.
كما أن تعزيز قيمة اللغة العربية وضرورتها في صناعة الحياة الأفضل، هو الأعظم ضرورة وقدرة على إعادة الروح العربية، وتنظيم العقل وتأهيله للمعاصرة والإبداع الأصيل.
فلنبتعد عن إضطراب الأفكار التي أشاعها الشعر المستورد، ونعود إلى عمود الشعر لتنظيم تفكيرنا وتهذيب سلوكنا، فالشعر العمودي نشاط تربوي وأخلاقي وثقافي ومعرفي، يغذينا بسلاف الروعة والجمال والإنسجام مع أنفسنا والآحرين من حولنا!!
فهل أدركنا أهمية الشعر العمودي وتأثيره على سلوكنا؟!!
***
د. صادق السامرائي