أقلام حرة
عبد السلام فاروق: يوسف زيدان وصناعة الأوهام!

تطفو على السطح بين الحين والآخر معارك فكرية تبدو للوهلة الأولى وكأنها صراع بين رؤى وتيارات، لكنها في العمق تكشف عن أزمة بنيوية في علاقة المثقف بالتاريخ وبالواقع وبالذات.
حوار يوسف زيدان وفاروق جويدة عبر شاشة عمرو أديب لم يكن مجرد مناظرة بين مثقفين، بل كان عرضاً لمرض أعمق: أزمة المثقف العربي في زمن الانهيارات الكبرى. لنحاول تفكيك هذه الأزمة عبر منهج تحليلي نقدي يستند إلى الجدل الناعم الذي يلامس العمق دون عنف، ويفكك الخطاب دون تشويه.
هوس التفرد وصناعة الأوهام
ليلة أمس، وبلا أي مناسبة، استضاف الإعلامي عمرو أديب الشاعر فاروق جويدة، وسبح اللقاء (المباشر) بينهما في بحر من الأوهام والخزعبلات - بهذه الكلمات بدأ يوسف زيدان هجومه على جويدة وأديب، متهمًا إياهم بنشر دعوى عجيبة هي أن "مصر لم يعد فيها مثقفون". لكن المفارقة تكمن في أن زيدان نفسه، عبر سلسلة من المواقف والتصريحات، كان يساهم في تفريغ الثقافة المصرية من مضمونها عبر خطاب يقوم على ثلاثة أركان:
الأول: الادعاء بالتفرد المعرفي قائلا: "عدد صفحات كتبي تجاوز 40 ألف صفحة، وتجاوز عدد الرسائل الجامعية حول أعمالي في العالم 50 رسالة علمية بين ماجستير ودكتوراه". هذا الخطاب الذي يعتمد على الكم بدل الكيف، وعلى الإحصاءات بدل القيمة الفعلية، يحول المثقف إلى بائع سلع في سوق الثقافة الاستهلاكية.
الركن الثاني: استغلال التاريخ لخدمة الأنا في هجومه على صلاح الدين الأيوبي، لم يقدم زيدان قراءة نقدية جديدة بقدر ما قدم "نقيض الأسطورة" كأسطورة بديلة: "صلاح الدين كان أعرج في الحقيقة، بينما جسّده أحمد مظهر في الفيلم كضابط من سلاح الفرسان، وكان وجهه مشوّهًا". إنها نفس النزعة الأسطورية لكن بعلامة معكوسة.
الركن الثالث والأخير فيقوم علي اختزال الثقافة في الصراع الشخصي حيث يتحول النقاش حول التاريخ والهوية إلى معارك شخصية بين زيدان وهذا أو ذاك، كما حدث في اتهامه لجويدة وأديب بالهجوم عليه شخصيًا بسبب "تصحيحي لخرافة الناصر أحمد مظهر". الثقافة هنا لم تعد حوارًا بين أفكار بل أصبحت ساحة لتصفية الحسابات.
على الجانب الآخر، كان الشاعر فاروق جويدة يعبر عن أزمة جيل بأكمله قائلا: "كنت أذهب في شبابي إلى صحيفة الأهرام وأقابل كبار الأدباء مثل توفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس، أما اليوم فأشعر بالوحدة وأعيش في غربة حقيقية". إنها صرخة جيل وجد نفسه فجأة خارج الزمن، أمام واقع ثقافي لم يعد يعرف كيف يتعامل معه.
لكن فاروق جويدة نفسه وقع في فخ الماضي كأسطورة ذهبية، فبدل أن يحلل أزمة الثقافة المصرية تحليلاً بنيويًا، اختزل كل شيء في "انقسام المبدعين على أنفسهم"، وفي الهجوم على من يشككون في شخصيات تاريخية مثل صلاح الدين الأيوبي أو خالد بن الوليد. إنه نفس المنطق الذي يتبناه زيدان لكن من الجهة المقابلة: اختزال الثقافة في حماية الرموز بدل تفكيكها ونقدها.
الثقافة المصرية بين التضليل والجمود
في قلب هذه المعركة، تبرز أزمة الثقافة المصرية التي أصبحت ساحة لصراع خطابات متضادة: أولا: خطاب التضليل الذي يمثله زيدان بادعاء كسر التابوهات بينما هو في الحقيقة يقدم تابوهات معكوسة. عندما يقول إن "صلاح الدين لم يحرر القدس"، وأن "قلاوون وأولاده هم من أعادوا فتحها لاحقًا"، فهو لا يقدم قراءة تاريخية جديدة بقدر ما يستبدل أسطورة بأخرى.
أما خطاب الجمود والذي يمثله جويدة عندما يحول التاريخ إلى مقدسات لا تمس، والنقد إلى "خزعبلات" كما وصفها عمرو أديب. هذا الخطاب يحول الثقافة إلى متحف للتحنيط بدل أن تكون حقلًا حيويًا للنقاش.
الخطاب الإعلامي: الذي يحول كل شيء إلى عرض، كما حدث في برنامج عمرو أديب حيث تحول النقاش الثقافي إلى "بحر من الأوهام والخزعبلات" بحسب تعبير زيدان نفسه. الثقافة هنا لم تعد سوى مادة للتسلية والصراع الدرامي.
نحو ثقافة نقدية حقيقية:
في خضم هذه العواصف، تبرز الحاجة إلى ثقافة نقدية حقيقية تتجاوز الثنائيات الزائفة: النقد لا يعني التضليل: يمكن نقد صلاح الدين الأيوبي دون اللجوء إلى التهويل أو التشويه، كما يمكن الدفاع عنه دون تقديس. التاريخ ليس مجموعة ثوابت مقدسة ولا هو ساحة لتفريغ الأحقاد.
عندما تتحول الثقافة إلى صراع بين زيدان وجويدة أو غيرهما، نفقد القدرة على رؤية الأزمة البنيوية التي تعاني منها المؤسسات الثقافية والتعليمية في مصر.
المثقف الحقيقي ليس ذلك الذي يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، ولا الذي يختزل المعرفة في الإثارة والإبهار. المثقف هو ذلك القادر على النقد الذاتي قبل نقد الآخرين.
في النهاية، المعركة ليست بين زيدان وجويدة، بل بين ثقافة تقوم على النقد والمراجعة والمساءلة، وأخرى تقوم على التضليل أو الجمود. مصر لم تفقد مثقفيها، لكنها ربما فقدت -لحظة- القدرة على تمييز الثقافة الحقيقية من زيفها. والسؤال الأهم: كيف نعيد للثقافة مكانتها كحقل للمعرفة لا ساحة للصراع، وكأداة لفهم العالم لا لخلق الأوهام؟
***
د. عبد السلام فاروق