بأقلامهم (حول منجزه)

فاطمة عبد الله: تأملات ثقافية سياسية في الخطاب الشعري النثري لمجموعة يتهادى حلما للأديب ماجد الغرباوي

اللغة، والرغبة، والخيبة

Language, Desire, and Disillusionment

Cultural–Political Reflections in Arabic Prose

Poetic Discourse of Dreams Drifting softly by Majid Al-Gharbawi

***

الإطار النظري والمنطلق النقدي

يفترض النقد السياسي الثقافي أن النص الأدبي ليس مجرد كيان لغوي معزول عن السياق التاريخي والاجتماعي، بل بنية دلالية تتشكل ضمن منظومة الخطاب الجمعي. فالنص الشعري والنثري على حد سواء يعكس الصراعات الداخلية للمجتمع ويشتبك مع السلطة والذاكرة، والهوية. وفي هذا الصدد، يؤكد إدوارد سعيد أن "لا وجود لنص بريء سياسياً، فكل كتابة هي اشتباك ضمني مع السلطة، والذاكرة، والهوية"، ما يجعل قراءة النصوص الشعرية النثرية العربية ضرورة لفهم أبعادها الثقافية والسياسية.

من جهة أخرى، يعتبر تيري إيغلِتون الأدب ممارسة ثقافية تكشف الأيديولوجيا المتخفية في اللغة، حيث يشير إلى أن "الشعر هو الشكل الرمزي الأعلى للمقاومة ضد اللغة التي تصنعها السلطة". وبناءً على هذا المنطلق، ينظر إلى نصوص مثل يتهادى حلماً وهمسات لاهثة بوصفها نصوصاً تمتزج فيها تجربة الذات الفردية مع الوعي الجمعي لتكشف عن جدلية مستمرة بين شهوة الخلاص وحقيقة الخراب في الواقع العربي المعاصر.

إن هذه الدراسة تهدف إلى قراءة النصوص النثرية المختارة كمتن واحد يجمع بين الرغبة الفردية والانكسار الشخصي، وبين الوعي الجمعي للخراب الاجتماعي والسياسي، مستندةً إلى إطار تحليلي يجمع بين النقد السياسي الثقافي والتحليل النفسي الثقافي. من هذا المنطلق، يصبح الخطاب الشعري النثري أداة لفهم آليات المقاومة الرمزية، حيث تتقاطع اللغة مع السلطة والرغبة مع الذاكرة، والإيروس مع الثاناتوس، لتشكل بذلك فضاءً معرفياً يمزج بين الجمالي والسياسي والثقافي.

الذاكرة والقداسة بوصفهما فضاءً للخيبة

يتأسس النص الأول على معجم طقوسي: " تتهجد، ترتل، قداس، صومعتي، آيات "، لكنه يحول القداسة إلى منطقة ملوثة بالزمن السياسي.

القداس هنا ليس شعيرة دينية بل طقس عزاء قومي، فحين يقول الشاعر:

"جاد به تموز فما عاد لنا فرح

والموت ينشر راياته السود

فوق سحابات بلد خانت به

نفوس أدمنت الغدر"

تتحول الأسطورة الزراعية (تموز، رمز الخصوبة والبعث) إلى ميتولوجيا الفقد السياسي.

الخيانة ليست عاطفية بل أخلاقية جماعية إنها خيانة الذاكرة والهوية، حيث يتكشف الوطن بوصفه كائناً خانته نفسه.

بذلك يخلق الشاعر ما يسميه والتر بنيامين "جماليات الحطام": الجمال المتبقي في أنقاض التاريخ.

تسييس الجسد والروح

في القسم الثاني من النص، تمتزج الحسية بالقداسة ("دفؤك لهاث أنفاسي" مقابل "قداسة أنفاسي") ليظهر الجسد كـرمز للروح المقهورة تحت السلطة.

الجسد هنا ليس ترفاً غزلياً بل مساحة مقاومة، إنه يستعيد عبر الحلم والعشق، ما صادره النظام الرمزي العام من حرية وطهر.

وهكذا يصبح " الهمس اللاهث " و" الآهات " خطاباً سياسياً مضمراً عن كبت جمعي لم يعد يفرق بين الخطيئة والعقيدة.

استبداد الضوء وانكسار الحقيقة

في المقطع:

"لم يكن سفاحاً ذلك الضوء

إنها طقوس مخالب الشمس

كادت تعاقر صبابة كأس" .

يعيد النص إنتاج الضوء رمز الحقيقة والعقل كقوة سفاحة.

إنها إشارة رمزية إلى السلطة التي تدعى التنوير بينما تمارس القمع باسم الحقيقة.

حين " تعاقر الشمس الكأس،"، نقرأ استعارة للخطاب السياسي الذي يسكر بسطوته الأخلاقية والإعلامية، فيتدنى من الطهر إلى الإدمان على الزيف.

لعبة الخطيئة والبراءة

تتحول مفردات الخطيئة والبراءة في المقطع " هومت آثام البراءة / تستبيح صومعتي " إلى بنية ثقافية:

فـ" البراءة" هنا هي المثقف أو الوعي الجمعي النقي و" الآثام " هي الأيديولوجيا التي تنتهك صومعته.

إنّ صومعة الشاعر هي الخطاب الثقافي الحر الذي يستباح من قِبل النظام السياسي والإعلامي.

بهذا المعنى، يكتب النص عن موت المثقف العضوي بالمعنى الغرامشي واستحالة وجود صوتٍ خارج المعبد الرخامي للسلطة.

البعد الأسطوري كقناع سياسي

استحضار "الوهم البابلي " في الختام:

" ذلك الوهم البابلي

أسدلتُ دونه غشاوة

ورحت ألهو بسحائب الليل"

ليس مجرد ترف أسطوري، إنه استعارة لهيمنة الإرث الإمبراطوري في الوعي السياسي العربي.

"الوهم البابلي" هو الدولة الشمولية الموعودة، حلم القوة الذي ينقلب خراباً والشاعر يسدل غشاوة أمامه كمن يعلن انسحابه من الوهم الجمعي.

هكذا يغلق النص بدائرة تأملية تعيد تعريف الفعل الشعري كـفعل تمرد ثقافي، لا كحلم غنائي.

التكوين اللغوي كأداة مقاومة

اختيار النثر الشعري الحر يخدم المنظور السياسي-الثقافي:

فرفض الوزن والقافية هو رفض لبنية السلطة اللغوية الموروثة، وبحث عن خطاب مضاد للنظام البلاغي المهيمن.

تبعاً لأدورنو، " الفن الحقيقي يعبر عن الحرية بقدر ما يقاوم الشكل المفروض"، وهو ما يتحقق في هذه البنية المتمردة على الانضباط الوزني والدلالي .

وبالتالي يمثل النصان من خلال منظورهما الرمزي، سجلاً ثقافياً لوعي عربي مأزوم.

تلتقي فيه التجربة الشخصية (الخيبة، الشوق، الذنب) مع الذاكرة السياسية (الخيانة، السلطة، الوهم البابلي).

اللغة الطقسية تغدو قناعاً لمساءلة المقدس السياسي، والعشق يتحول إلى خطاب مضاد لثقافة الموت والاستبداد .

في المحصلة، ينتج الشاعر نصاً يجسد ما وصفه إدوارد سعيد بـ" المنفى الداخلي". حيث تتحوّل الكتابة إلى فعل مقاومة رمزية، والشاعر إلى شاهد على أمة تصلي في معبد مهدي وهي ما تزال " توقاً إلى رعشة اندهاشٍ سرقتها آلهة النار"

مقاربة النصوص (تسمر الضوء، تبتكرني الريح، شظايا)

من منظور نقدي سياسي ثقافي، تمثل النصوص الثلاثة سيرة رمزية لوطن مأزوم وضمير مثقف يكتب في المنفى الداخلي.

إنها نصوص تجمع بين الجرح الشخصي والمأساة التاريخية وبين اللغة الطقسية والتمزق الواقعي وتحول الشعر إلى وثيقة احتجاج ثقافي ضد التواطؤ والخيانة والخراب القيمي.

إنها ليست "قصائد حب" بالمعنى الغنائي، بل مراث حضارية لأمة فقدت طهرها الرمزي.

يكتبها شاعر يستعيد عبر الأسطورة (تموز، كلكامش، فينيقية) ذاكرة الخصب القديم ليواجه بها خواء الحاضر.

ولذلك يمكن وصفها بأنها بلغة إدوارد سعيد " كتابة المنفى الداخلي، حيث يصبح الحنين موقفاً سياسياً والمجاز أداة للمقاومة."

ايضاً من المنطلق السياسي والثقافي، تقارب هذه النصوص النثرية الثلاثة — "تسمر الضوء"، " تبتكرني الريح"، و"شظايا" بوصفها ثلاثيةً رمزية تجسد مأزق الذات المثقفة العربية داخل فضاء ثقافي سياسي مأزوم. فهي نصوص لا تكتب عن الحنين أو الجمال فحسب، بل عن الخراب الجمعي وعن الأمة التي تستعيد قداسها بلغة العزاء، وعن الكاتب الذي يكتب من داخل منفى رمزي في وطنه.

" تسمر الضوء" انهيار المقدس وانكشاف السلطة الرمزية

" آلهة المعابد الرخامية تركوا الباب موارباً "

"في مراياهم المقعّرة ذوت مصابيح الحانة"

"يستبيح مأوى القداسة

ويستعيد مزماراً سرقته نار الوشاية"

في هذا النص، تتحول الرموز (الضوء، الآلهة، المعابد، المرايا) إلى استعارات سياسية للأنظمة السلطوية التي تنتج الوهم وتحتكر الحقيقة.

" الآلهة" هنا ليست دينية بل سلطوية وثقافية تمثل النخبة التي شيدت معابد الرخام ثم تركتها خاوية، أي تركت المجتمع في فراغ قيمي .

أما " تسمر الضوء" فتمثل لحظة الانكشاف السياسي الميتافيزيقي: الضوء الذي يفترض أن يكشف، يتسمر ويعجز .

إن عبارة " يعانق أوهام الحقيقة" تختزل الخطاب الرسمي الذي يدعي امتلاك الحقيقة بينما يحتضن زيفها.

في المقابل، تمارس اللغة ذاتها المقاومة عبر التلعثم والخلل المقصود في البيان:

" تلعثم الحرف يشكو انبهار خيبته"

فاللغة، باضطرابها تفضح فصاحة السلطة. وهنا تتحقق رؤية إيغلِتون:

" الشعر هو المقاومة ضد اللغة التي تصنعها السلطة."

الشاعر إذن يعيد تفكيك المقدس الرمزي ويحول الشعر إلى ممارسة نقدية ضد السلطة الثقافية التي تشرعن القمع باسم الحقيقة.

" تبتكرني الريح" — تشظي الذات وولادة الأمل في الرماد

" وأنا المسجى بين حرفين

تبتكرني الريح شراعاً يراقص ضوء أقبيتي"

"تراود كلكامش في حلمه فيغمرني الحنين"

في هذا النص، تتقدم الذات المبدعة بوصفها ضميراً ثقافياً مأزوماً معلقاً بين الحياة والموت الرمزي.

العبارة " المسجى بين حرفين " تحيل إلى المثقف الذي يكفن بين الصمت والكلمة في وطن يقصي صوته . إنها الذات الفردية للشاعر لكنها تعكس مأزق المثقف العربي ومأساة الأمة.

أما الريح في رمزيتها المتحركة فهي استعارة للتحول والمقاومة، إذ تبتكر الشاعر " شراعاً"، أي تجعله أداة للعبور وسط العدم.

ومع ذلك، يستدعي النص كلكامش، بوصفه رمزاً للخلود والبحث عن المعنى فيتحول الحنين إلى قوة مضادة للنظام السياسي.

وهكذا يواجه الشاعر السياسة بالأسطورة والعنف بالرمز واليأس بالأمل الذي يتسرب من بين الحروف.

" شظايا" انكسار الوعي الجمعي ومأساة الإنسان العربي

' على سفح الكلمات تدحرجت همهمات صدى

حطام دمك... يروي بيادق اللعبة الفينيقية"

بأي مرفأ سترسي موناليزا تمثالك الخشبي؟"

"لن يتفجر الحجر، صم بكم، فهم لا يعقلون..."

يمثّل نص "شظايا" الذروة المأساوية في الثلاثية، إذ تتحول الذات الشاعرة إلى وعي جمعي محطم يحاور رماد الواقع العربي.

الصور الشعرية المبعثرة (سفح الكلمات، همهمات الصدى، شظايا الحروف) تجسد تفكك الخطاب الجمعي العربي بعد تكرار الانكسارات السياسية.

البيت " حطام دمك... يروي بيادق اللعبة الفينيقية" يستعاد هنا ليعبر عن آلية الاستغلال الدائم للدم، أي عن " اقتصاد العنف" الذي تتغذى منه السلطة.

وحين يقول: " اللعبة الفينيقية"، فهو يشير إلى تكرار الصفقات التاريخية التي تعيد إنتاج الخراب السياسي والثقافي.

" دمك يروي بيادق اللعبة" = الشاعر / المواطن هو الوقود الذي تدار به آلة الهيمنة. هنا تظهر العلاقة بين تجربة الفرد والشأن الجمعي، فالدم الفردي يعكس الواقع السياسي والاجتماعي للأمة.

أما سؤال الشاعر: " بأي مرفأ سترسي موناليزا تمثالك الخشبي؟" فهو سؤال ثقافي سياسي مركب:

من جهة، يحيل إلى استيراد الرموز الغربية (موناليزا) في فضاءٍ مفقود الجمال والمعنى ومن جهة أخرى، يرمز " التمثال الخشبي " إلى هشاشة الهوية العربية المعاصرة التي فقدت أصالتها واستعارت وجوهاً مستوردة.

وفي ختام النص، يقول:

" لن يتفجر الحجر، صم بكم، فهم لا يعقلون ."

فهو يعيد توظيف النص القرآني كصرخة احتجاج ضد الخمول الجمعي، حيث يتحول المقدس نفسه إلى أداة إدانة للسكوت والتواطؤ.

هنا يبلغ النص ذروة التسييس الجمالي، إذ يستعمل الدين والثقافة لتعرية السلطة والمجتمع معاً.

" شظايا" إذن هو نص الانكسار بعد الوعي، شهادة ثقافية على موت الفعل الجمعي وبقاء اللغة كملاذ أخير للكرامة.

البنية الثقافية للمقدس والمدنس

يتكرّر في النصوص الثلاثة ثنائي القداسة والمدنس، لا بوصفه بعداً لاهوتياً، بل كآلية تحليل للواقع العربي.

القداسة تمثل الأصل الثقافي الطاهر (الأرض، اللغة، الطفولة، الحلم)،

بينما المدنس هو النظام السياسي والإعلامي الذي شوه هذا الأصل.

"صفير العاديات يستبيح مأوى القداسة"

في هذه الصورة تتجسد الحرب المعاصرة وهي تقتحم الحرم الرمزي للروح.

كل قداسة تنتهك، وكل معبد يتحول إلى مسرح للوشاية، هو مرآة لتحول الثقافة العربية من منظومة قيم إلى منظومة مصالح.

جدلية المثقف والسلطة / الذات والآخر

تقدّم النصوص نموذجاً دقيقاً لما يسميه ميشيل فوكو بـ" خطاب المقاومة داخل النظام" .

فالمثقف لا يثور من الخارج بل يفكك خطاب السلطة بلغتها ذاتها.

الشاعر لا يعلن العصيان، بل يترك اللغة تتلعثم حتى تفضح هيمنتها.

إنّ تسمر الضوء، تلعثم الحرف وانطفاء المعابد ليست صوراً بل إشارات إلى فشل الخطاب السلطوي في إنتاج المعنى.

الغموض بوصفه إستراتيجية مقاومة

الغموض الكثيف في هذه النصوص ليس ضعفاً دلالياً، بل موقفاً جمالياً وسياسياً واعياً.

وفق رؤية ثيودور أدورنو:

"العمل الفني الحقيقي لا يفصح عن معناه إلا بمقدار ما يقاوم الفهم الفوري فالغموض شكل من أشكال الحرية."

إنّ الغموض اللغوي هنا يترجم رفضاً للوضوح الإيديولوجي الذي تمارسه السلطة الإعلامية والسياسية.

كل انقطاع في الإيقاع وكل صورة مبهمة هو رفض للتجانس الخطابي المفروض.

إذن، من منظور نقدي سياسي ثقافي، تقدم هذه النصوص الثلاثة كوثيقة رمزية لوعي عربي منكسر، تحاور فيه الذات الشاعرة جرح الأمة وذاكرتها.

تتجاور القداسة والخيانة وكذلك الطهر والرغبة ثم الأسطورة والسياسة لتنتج كتابةً تتأرجح بين الاعتراف والاحتجاج.

إنها ليست نصوص حب غنائي بل مرات حضارية لأمةٍ فقدت طهرها الرمزي. يكتبها شاعرٌ يواجه الخراب بالحلم، والخذلان بالذاكرة، والسلطة بالكلمة.

وكما يقول إدوارد سعيد: " المنفى ليس جغرافياً فحسب، إنه حالة وعي، حيث يصبح الحنين موقفاً سياسياً والمجاز أداة مقاومة."

بهذا المعنى، تشكل " تسمر الضوء"، "تبتكرني الريح"، و" شظايا" ثلاثية في كتابة المنفى الداخلي.

يصبح فيها الشعر أداة لاستعادة المعنى وسط العدم

ويغدو الغموض شكلاً من أشكال الحقيقة الوحيدة الممكنة في زمن الخراب.

تجمع هذه النصوص بين تجربة الفردية للرغبة والانكسار الشخصي، والوعي الجمعي للخراب الاجتماعي والسياسي.

تحولات الرغبة والوعي: في ثلاثية “مديات حلم”، “ كلمة هي"، و“عناقيد عشق”

تنهض هذه القراءة على فرضية أنّ النصوص الثلاثة لا تعبر عن تجربة عاطفية أو ذاتية معزولة، بل تشكل خطاباً رمزياً متعدد المستويات تتقاطع فيه الرغبة اللاشعورية مع الوعي الجمعي المأزوم .إنها نصوص تقيم جدلية بين الذات المتوحدة والواقع المتشظي .فتستبطن وفق المصطلح الفرويدي صراعاً بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع.

وفي الآن ذاته تعبر بلغة فوكو وغرامشي عن مقاومة ثقافية ضد أنظمة التشيؤ والقهر.

من هنا تتبنى هذه الدراسة مقاربة نفسية ثقافية. تتوسل أدوات التحليل النفسي في الكشف عن البنية العميقة للرغبة. وتستنير بالنقد الثقافي في تتبع تمظهرات السلطة داخل الخطاب الشعري.

الإيروس (Eros) والتاناتوس (Thanatos) – جدلية الرغبة والألم في "مديات حلم"

يفتتح النص بمقطع يحمل طاقة أسطورية:

"عميقاً تهادت أنامل الشمس

تمزق شرنقة الغرور... "

"توغل .. فلذيذ الطعنات آلامها."

يمكن قراءة هذا المقطع من منظور التحليل النفسي الفرويدي بوصفه تجسيداً لجدلية الإيروس والثاناتوس: حيث يمثل الفعل الشعري هنا تفاعلاً بين الرغبة في الحياة/اللذة (Eros) والرغبة في الموت/الألم (Thanatos). على خلاف قراءة فرويد التقليدية التي تعتبر الصراع بين الغريزتين صراعاً داخلياً متعارضاّ، يرى لاكان أن الرغبة تتشكل داخل بنية اللغة، حيث تصبح فعلاً خطابياً يسعى إلى "الآخر الكبير"، أي إلى معنى أوسع يتجاوز الإشباع الغرزي المباشر.

يمثل تعبير "لذيذ الطعنات" في النص مثالاً على ما يسميه فرويد التكرار القهري، أي وسيلة لاشعورية للتحرر من الكبت الداخلي، لكنه في الوقت ذاته يأخذ بعداً ثقافياً أنطولوجياً: فالذات الشاعرة هنا فردية، لكنها تمثل أيضاً وعياً جمعياً مأزوماً، يسعى لاستعادة التوازن الرمزي في مواجهة الخراب السياسي والاجتماعي. إذ تتحول الرغبة إلى فعل مقاومة داخلي ضد ما يفقده الفرد في واقع مأزوم .

الوعي الجريح والمثقف المنفي – قراءة ثقافية في "كلمة هي"

ينتقل هذا النص من البعد النفسي إلى بعد سياسي ثقافي واضح، إذ يلاحظ الشاعر:

"سدنة المحافل الباذخة بطونهم خاوية

إلا من زفرات جروح وقليل من بقايا موبقات..."

" تنزلق بي إلى هاوية الذكريات

إلى وطن مزقته حراب بائسة."

في هذا السياق، تمثل "سدنة المحافل" رموز السلطة الثقافية الزائفة، بينما تعكس "الحراب البائسة" القهر السياسي الذي يمزق المجتمع. يمكن قراءة النص وفق منهج النقد السياسي الثقافي كما يلي: المثقف لا يثور خارجياً، بل يفكك خطاب السلطة من الداخل، وفق منظور فوكو لـ"خطاب المقاومة داخل النظام".

من منظور غرامشي، يمثل الشاعر هنا المثقف العضوي الذي يربط بين تجربة الذات الفردية والوعي الجمعي العربي، ويحول اللغة إلى أداة مساءلة حضارية. إن استعارة "نثر الآهات في دروب الحفاة" تفضح الفجوة بين النخبة والمجتمع، وتحول النص إلى وثيقة احتجاج رمزية على الخيانة والقمع.

بهذا، يظهر التوازن بين التحليل النفسي للذات الفردية في "مديات حلم" والتحليل الثقافي السياسي للوعي الجمعي في "كلمة هي"، مما يعكس جدلية متماسكة بين الرغبة الفردية والانكسار الاجتماعي والسياسي.

"عناقيد عشق" — الإيروس كفعل مقاومة رمزية ضد التلاشي الجمعي

يختتم المشروع الشعري في "عناقيد عشق" بعودة الإيروس إلى مركز المشهد، لا بوصفه غريزة جسدية فحسب، بل بوصفه قوة رمزية لإعادة إنتاج الحياة والمعنى. يقول الشاعر:

"يا أنتِ كم شهقة حب تؤجج نار الشوق

تحرقني... فأَتوق إلى رؤياك سنبلة عطشى

تراودها الأحلام فترتوي ظماً."

في هذا النص تتجسد الرغبة (Eros) كطاقة إبداعية تتجاوز حدود الجسد لتصبح مشروع خلاص رمزي من العدم السياسي والروحي. فـ"الاحتراق بالشوق" و"السنبلة العطشى" يختزلان ما يسميه فرويد بـاقتصاد اللذة، حيث يتحول الألم إلى شرط ضروري للوجود والمعنى. ومع ذلك، يختلف النص عن النموذج الفرويدي الخالص، لأنه يقدم الإيروس هنا بوصفه فعلاً ثقافياً إنقاذياً لا غريزياً، إذ يعيد الشاعر عبر اللغة بناء عالمه المنهار.

من منظور لاكاني، فإن الرغبة في هذا النص ليست رغبة في "المحبوبة" كشخص، بل في الآخر الرمزي الوطن والذاكرة والحلم الجمعي الذي تماهى مع صورة الأنثى. وبهذا المعنى تصبح الأنثى هنا رمزاً للأمل الجمعي، أو كما يمكن وصفها بلغة فوكو، "تمثيلاً جمالياً لمقاومة الانقراض الخطابي".

تتخذ الذات في "عناقيد عشق" موقع "الأنا الناطقة" التي تسعى لاستعادة التوازن بين الإيروس (غريزة الحياة) والثاناتوس (غريزة الفناء). فحين يقول الشاعر:

"في انتظار فجر صادق

ليس فيه سوى أميرة حب تشع بقلبها

وتعيد لي أياماً ضيعتها عواتي السنين."

فهو لا يتحدث عن حب فردي، بل عن استعادة للمعنى الجمعي أي ولادة جديدة لمجتمع فقد دفء رموزه. فـ"أميرة الحب" هنا ليست امرأة محددة، بل استعارة عن الوطن الحلم وعن عن الذات الثقافية التي أُقصيت بفعل الفساد والتشيؤ.

التحليل البنيوي–النفسي العام للثلاثية: الرغبة، اللغة، والمقاومة

تشترك نصوص الثلاثية ("مديات حلم"، "كلمة هي"، و"عناقيد عشق") في صياغة ما يمكن تسميته بالخطاب الإيروسي الثقافي للمثقف العربي المعاصر.

فـ"مديات حلم" تمثل البعد النفسي للفرد الممزق بين اللذة والألم، و"كلمة هي" تجسد وعي المثقف العضوي الذي يواجه سلطة القمع والخراب، أما "عناقيد عشق" فتقدم الإيروس بوصفه فعل مقاومة جمالية ضد التلاشي الجمعي.

إنها نصوص تجمع بين تجربة الفردية للرغبة والانكسار الشخصي، والوعي الجمعي للخراب الاجتماعي والسياسي.

تعمل الرغبة هنا كطاقة لغوية رمزية تتجاوز بعدها الغريزي لتصبح أداة لاستعادة المعنى والذاكرة.

وبينما يرى فرويد في الإيروس والثاناتوس صراعاً بين غريزتين متعارضتين، يعيد لاكان صياغتهما داخل بنية اللغة، حيث تصبح الرغبة فعلاً خطابياً يسعى إلى الآخر الكبير، لا إلى الإشباع الغريزي.

وهكذا تتحول الكتابة إلى شكل من التحليل الجمعي اللاواعي، حيث تتكثف الأنا الفردية لتعبر عن ضمير الأمة الجريح.

جدلية الإيروس والسياسة في الخطاب الشعري النثري العربي

تظهر هذه الثلاثية أن الشعر لم يعد مجرد مساحة وجدانية أو ذاتية، بل غدا حقلاً تتداخل فيه السياسة باللاشعور، والرغبة بالذاكرة، واللغة بالاحتجاج. فالإيروس في هذا السياق، لا يقارب بوصفه انغماساً في الحب، بل يعاد تأويله كإعلان عن حق الحياة في مواجهة عنف الفناء (ثاناتوس) الذي تفرضه الأنظمة القمعية والتشوهات القيمية. وبهذا المعنى، يحقق الشاعر ما يسميه أدورنو "جمالية المقاومة"، إذ يتحول الغموض والتشظي اللغوي إلى استراتيجية دفاعية ضد التبسيط الأيديولوجي وضد سلطة الخطاب المهيمن.

إنّ هذه النصوص، من منظور التحليل الثقافي–النفسي، تمثل محاولة لإعادة كتابة الذات والذاكرة معاً، حيث الرغبة تمارس بوصفها فعلاً للمقاومة، والقصيدة تستعاد بوصفها فضاءً للوجود. فالنصوص تشتغل على تفكيك السلطة عبر لغة تحول الإيروسي إلى فعل تحرري وتعيد تعريف الجسد باعتباره أفقاً للكرامة الإنسانية، لا مجرد موضوع للذة أو الخضوع. وهكذا تتجلى جدلية الإيروس والسياسة كآلية لإنتاج معنى جديد يتجاوز الثنائية التقليدية بين الروح والجسد، وبين العشق والوطن لتغدو القصيدة ساحةً للصراع الرمزي بين الرغبة والسلطة، وبين الحلم والخراب.

تؤسس هذه النصوص لما يمكن تسميته بـ "جماليات المقاومة" وهي جماليات تقوم على تحويل الغموض إلى أداة وعي، واللغة إلى ممارسة للتحرر الرمزي. فالشعر هنا لا يجمل الخراب، بل يعريه ولا يعيد إنتاج الواقع، بل يزعزع منطقه الداخلي. وبهذا المعنى، يغدو الفعل الشعري ممارسة نقدية تتجاوز الغنائية التقليدية نحو وعي ما بعد حداثي بالذات والوجود.

كما أنّ هذه الكتابة، بمستواها الجمالي والمعرفي تندرج ضمن ما يسميه أدورنو "الفن الذي يعبر عن الحرية بقدر ما يقاوم الشكل المفروض" (Adorno, 1970).

تتكثف في هذه التجربة جدلية متشابكة الأبعاد تجمع بين السياسي والنفسي والثقافي:

سياسياً، في تفكيك الخطاب السلطوي ومساءلة المقدس الزائف.

نفسيا، في إعادة تأويل الرغبة كقوة مقاومة ضد العدم.

وثقافيا، في استعادة الذاكرة الجمعية بوصفها فعلاً للتماسك الرمزي.

إنّ هذه الجدلية تمنح النصوص بعداً أنطولوجياً، إذ تغدو اللغة ذاتها أداة لإعادة تشكيل الوجود في مواجهة العدم والقصيدة شكلاً من "الذاكرة المتمردة" التي تكتب ضد النسيان.

من هذا المنظور، يمكن القول إنّ هذه النصوص تمثل نموذجاً متقدماً لما بعد الغنائية العربية الحديثة، حيث تتقاطع السياسة باللاشعور والجسد بالرمز، والخيبة بالأسطورة. إنها كتابة لا تبحث عن الجمال الخالص، بل عن الحقيقة الممكنة في عالم، على حد تعبير أدورنو "غدت فيه الحقيقة آخر أشكال الجمال الممكن" (Adorno, 1970).

في ضوء ما تقدم، يمكن القول إنّ تجربة الأديب ماجد الغرباوي في نصوصه النثرية تمثل نموذجاً دالاً على تحول الحس الشعري العربي من الغنائية الذاتية إلى الوعي الثقافي النقدي. فالشعر هنا لا يصف العاطفة، بل يختبرها بوصفها شكلاً من أشكال الوعي السياسي والجمالي. ومن خلال جدلية الإيروس والسياسة والرغبة والسلطة تتحول القصيدة إلى خطاب مقاومة معرفية يواجه التشيؤ والاغتراب.

وكذلك، مشروع الأديب ماجد الغرباوي النثري يعيد الاعتبار للغة كقيمة تحررية، ويؤسس لما يمكن تسميته بـ "جماليات الوعي المأزوم"، حيث يلتقي الجسد بالرمز والذاكرة بالمنفى، والحلم بالفعل النقدي. ومن ثم، تسهم هذه التجربة في إثراء مسار الشعر العربي المعاصر، بوصفها كتابةً تنتمي إلى زمن ما بعد الخيبة زمن البحث عن أثر للمعنى في قلب العدم.

***

من إنجاز فاطمة عبد الله