بأقلامهم (حول منجزه)
أسعد عبد الرزاق: قراءة ومراجعة في كتاب: مقتضيات الحكمة في التشريع لماجد الغرباوي
نحو منهج جديد في تشريع الأحكام
مدخل: يعد مجال علم الفقه والتشريع من المجالات التي شهدت تطورا في البنية والمنهج في المرحلة الاسلامية، فلم يتطور علم من العلوم الدينية وينضج كما في علم الفقه وأصوله، فضلا عن كونه المؤثر الأكبر في المجتمع والتاريخ من بين العلوم الدينية الأخرى، وهو بهذه المكانة أصبح يُنظر إليه من ناحيتين، فمن ناحية التفكير المنهجي المنضبط وما أسهم فيه من تهيأة منظومة من الأحكام التي تلبي متطلبات الايمان الديني وتشكيل الهوية الدينية، كان دوره فاعلا على مدى التاريخ الاسلامي.
ومن ناحية توظيفه في تكريس بعض الميول والاتجاهات العقدية التي أدت بنحو وبآخر إلى خلق بعض الأزمات، كان ذلك من نتائجه السلبية، وهي بحدود تتبعي تعود إلى مناهج الفهم البشري وكيفية التعامل مع النصوص التشريعية من قبل بعض البيئات والتوجهات الفكرية.
دأب الفقهاء المسلمون على قراءة النص التشريعي واستقاء الاحكام الشرعية لتوجيه الجانب العملي من الدين، عبر علوم الشريعة والاستنباط وبالأخص علم أصول الفقه الذي يعد من أفضل ما انتجته المعرفة الدينية الاسلامية بنحو عام، بما أسهم فيه ذلك العلم من ارساء لقواعد منهجية منضبطة في تحليل النص التشريعي، بحيث نجح علم أصول الفقه في توظيف العلوم الآلية الأخرى (المنطق والنحو وعلوم اللغة..) في خدمة النص الديني، وهو مما لا يمكن تغافله برغم بعض الإخفاقات التي شابت بعض التوجهات في مناحي الاستدلال الفقهي في مختلف المذاهب الاسلامية.
لذا كانت دراسات الفقه وتشريع الأحكام موضعا لإثارة الجدل والاختلاف بسبب تداخل العلوم والمناهج في عملية استنباط الأحكام، التي تعد من أعقد وظائف علماء الدين، لأن هذا المجال على صلة وثيقة بواقع السلوك والعمل للفرد والمجتمع وبناء النظم ومسارات العيش.
إن قراءة ومراجعة كتاب (مقتضيات الحكمة في التشريع، نحو منهج جديد في تشريع الأحكام- لمؤلفه المفكر العراقي القدير ماجد الغرباوي) تأتي في سياق متابعة المنجز المعرفي في عموم المعرفة الدينية الراهنة التي تتابع أثر الدين في الحياة، ومن هنا تبرز أهمية الكتاب ومراجعته على حد سواء.
وعبر اعتماد منهج تحليلي لا يخلو من النقد التزاما بالحياد والموضوعية برغم العلاقة الطيبة التي تجمعني بالمؤلف، وبرغم التوافق الفكري والمعرفي الذي يجمعني به، لكن ذلك لم يؤثر إلى حد ما على طبيعة القراءة والمراجعة الدقيقة للمنجز المميز الذي قدمه الغرباوي في هذا الكتاب.
المطلب الأول: قراءة في التساؤلات والفرضيات التي بني عليها الكتاب:
بعد تتبع مقدمة الكتاب يمكن تحديدة جملة من المنطلقات التي شرع منها المؤلف في كتابة مشروعه:
يمكن ملاحظة أن الكاتب مدرك جيد لرهانات التجديد وضرورته في مجال الفقه تشريع الأحكام، بعد أن ألمح إلى حجم التطورات التي سادت المشهد الحياتي في العصر الراهن، ومدرك أيضا لحجم الفجوات وخطورتها في البناء المعرفي لعلم الفقه وما تؤول إليه من نتائج على مستوى الأحكام المستنبطة والتي وصلت حد الفتاوى التي من شأنها أن تؤثر في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي.[2]
- لاحظ الكاتب بدقة بدايات التكوين لعلوم الفقه والاستنباط من خلال ما عرض له في مدونة الشافعي التي تعد مساحة تأسيسية أولى على المستوى الاسلامي، وما تمخضت عنها من قواعد وأسس آلت بالنتيجة إلى ما هو عليه الفقه الاسلامي اليوم من نسق معرفي[3].
- يقع الكتاب ضمن سلسلة متاهات الحقيقة وهو ما يشير إلى هم كلي حول منظومة الفكر الديني، عبر الاهتمام بمسائل الفكر الديني بنحو عام من قبيل القيم والاخلاق وأثر العقائد في بناء الوعي الديني وما تتضمنه تلك المجالات من مشكلات حقيقية تمثل هم المثقف الديني في المشهد الراهن، لذا اكتسب مشروع الكتاب طابعا نقديا حادا إلى حد ما.
- يفترض الكتاب بنحو أساس وقوع التعارض بين الشريعة والأخلاق وأن هذا التعارض يهدر القيمة الأخلاقية، ويفرع على هذا الافتراض تساؤلات جدلية أبرزها: ماهو التعارض؟ وما هو سببه؟ وهل يمكن تسويته؟ أم أنه تعارض مستقر؟ وهل يمكن رفعه؟
ويمكن الملاحظة على الافتراض الاساس من عدة وجوه:
1 – ان افتراض وقوع التعارض بين الشريعة والاخلاق يبتني على مقولة التعارض التي تعد مسألة جزئية لها قواعدها في الأحكام الجزئية المتعارضة، بينما نحن بصدد التفكير في التنافي بين الشريعة والأخلاق بنحو كلي ولو بملاحظة بعض الجزئيات لكن التعارض كمصطلح (أصولي/ في أصول الفقه والاستنباط) أخذ فيه تعارض الأحكام بين حكم واجب وآخر مباح أو محرم، مع تساوي الموضوع ودليل الحكم، بينما التنافي بين الشريعة والأخلاق يعد تنافي من حيث روح الحكم لا من حيث تساويهما في قوة الدليل واختلاف سنخ الحكم من جواز أو منع.
2- ان اطلاق (المستقر) على التعارض وافتراضه، لم يدعيه أحد، والكتاب في أطروحته مع كونه ينقد التنافي بين بعض أحكام الشريعة ومبادئ الأخلاق فهو لم ولن يسلم بالتعارض المستقر لأنه اقترح منهجا بديلا من شأنه أن يحل مشكلة التنافي بين بعض أحكام الشريعة من جهة، ومبادئ الأخلاق من جهة أخرى.
3- إن طرح الاشكالية بمصطلحات من داخل علوم التشريع (الفقه وأصوله) يمنح المشروع رصانة علمية من جهة، ويقوي منطلق البعد النقدي في المشروع، إذ يمثل النقد من داخل منظومة التفكير المنهجي الفقهي حالة جديرة بالاهتمام من قبل المختصين الذين تقع على عاتقهم مسؤولية المراجعة والتصحيح فيما بعد إنضاج مشروع الكتاب.
والتركيز أيضا على الحلول بمصطلحات من داخل المنضومة كـ( اسباب التعارض ورفعه) تعد محاولة ناجحة في إكساب المشروع قابلية لإقناع المشتغلين في علوم الشريعة (الفقه وأصوله)، برغم ملاحظتنا على استعمال مصطلح (التعارض) في أصل الفرضية والاشكاليات.
إذن ركز الكتاب في فصله الأول على اشكالية التعارض بين الشريعة والأخلاق، وهذا التساؤل المفصلي أصبح الموجه الأول في مشروع الكتاب، من خلال ما يعرض إليه من مشكلات سادت المنجز المعرفي الفقهي في تعامله مع مشكلات الواقع، ومدى مراعاة الجانب الأخلاقي والقيمي الذي أصبح هاجز الثقافات المعاصرة اليوم.
المطلب الثاني: فرضية الكتاب وإشكالاته:
الارضية التي ينطلق منها الكاتب ليؤسس مشروعه تتضمن فرضية ومجموعة من المشكلات التي تمت ملاحظتها من قبله، وأولى تلك المشكلات هي التعارض بين الشريعة والأخلاق، وفي ظني أن المحور الأساس في اشكلات الكتاب هو ثنائية الفقه والأخلاق، ومدى الانسجام المنهجي، لأن الانسجام البنوي بينهما يكاد يكون محسوما، وهو ما أكده الكاتب من كون التعارض ليس مستقرا وليس في عالم الثبوت، بل في عالم الإثبات والاستدلال، وهو بهذا المعنى يكون منهجيا بالمعنى الأعم لمفردة المنهج..
أولا: اشكالية التعارض بين الشريعة والاخلاق (النقد من داخل المجال المعرفي):
ان تناول هذه الاشكالية من الأهمية بمكان، إذا ما لوحظت بمستوها الكلي والجزئي، ونحن نسلم مع الكاتب أن تناول الكليات ومناقشة الأصول التي يبنى عليها التشريع مما يكتسب أهمية نظرية بالغة الضرورة، وثمة اهتمام ولو نسبي من قبل علماء المسلمين حول هذه المسألة، كما في تناولهم مقاصد الشرع وملازمة الشرع للعقل في بناء الأحكام وتشريعها، وهومما لا يمكن إغفاله بأي حال، لكن الحديث في المآلات والجزئيات يكتسب قيمة وأهمية أكثر من الجانب الكلي.
فعند متابعة أولويات الاهتمام الفقهي على مستوى مراعاة القيم والمبادئ الكلية سوف نجد تفاوت بسيط، بخلاف واقع التطبيق الجزئي لتلك المبادئ ومصاديقها على الواقع، رغم أنه أكد عدم تبنيه للتعارض المستقر بين الشريعة والاخلاق[4]، وهو ما يدعو إلى صياغة عنوان الاشكالية بنحو أدق ليصبح التنافي والمفارقة بين الفقه كمنجز بشري والأخلاق على اعتبار أن الشريعة هي ما انبثق عن عالم الثبوت والواقع من قبل الوحي.
وقد ركز الكتاب في مشروع الكتاب على أهمية مراعاة تلك المبادئ (العدل، الحرية، المساواة، الاخلاق..) وحاول تحديد مواضع الخلل في بعض المسائل كما في مسألة قتل المرتد[5]، وهي المسألة التي تعبر عن الجانب الجزئي من الاشكالية، ولا تقل أهمية عن بقية المسائل التي أشار إليها الكاتب.
ومع متابعة منطلقات البحث عند الكاتب، نلحظ ان النقد يقوم من داخل المجال المعرفي للفقه، ففي البدء ينفي التعارض الجوهري بين الدين والأخلاق على مستوى الواقع التشريعي (عالم الثبوت)، ويقصر الأمر على مستوى فهم الخطاب التشريعي، مع ملاحظة بشرية ذلك الفهم وعدم معصوميته من الخطأ، كما أنه يقف موقفا تجاه تخصيص السنة للكتاب، فيذهب إلى عدم إمكان تخصيص العام القرآني بخبر الواحد الظني، كما ينقل هذا الرأي عن بعض الحنفية[6]، لكنه يشير إلى إمكانية ذلك إذا كان على نحو التفصيل والبيان[7]، ومشهور فقهاء الإمامية مع جواز التخصيص، وهنا تكمن الجرأة في مخالفة المشهور، على أن كثر من العلماء الإمامية يرجحون أن تخصيص خبر الواحد للعام القرآني يأتي في سياق التبيين والتفصيل، ويفترضون أن العام ظني الدلالة، ويقدم الخبر اذا كان قطعي الدلالة، مع التحقيق في مسألة صدور الخبر[8].
كما يؤكد على الاهتمام في فلسفة الأحكام الشرعية وتتبع غايات الأحكام وما تحققه من مصالح وما تدرءه من مفاسد، ويكرس على متابعة ما ينتجه العقل العملي من قيم أخلاقية أصيلة، تكون جديرة بالوعي لها ومراعاتها في ضمن عملية فهم النصوص الشرعية.
ثانيا: فرضية مقتضيات الحكمة في التشريع (التأسيس من داخل المجال المعرفي):
ينطلق الكاتب من ملاحظة مرحلة الجعل، وهو ما يشير إلى محاولة التأسيس من داخل المجال المعرفي لعلم الفقه وأصوله، فيطرح مصطلح (مقاصد الجعل) ويشير إلى أنها غير (مقاصد الشرع)[9]، والمراد من مقاصد الجعل عنده هو ما تقتضيه حكمة وفلسفة التشريع في ضوء مجموعة من آيات القرآن الكريم، انطلاقا من عقلنة التشريع التي تتضمن الكشف عن آليات عملية التشريع بعد تحديد مبادئها في ضوء مقتضيات الحكمة والقيم الأخلاقية، منطلقا من قوله تعالى: (يؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[10]، مستفيدا إمكانية إيتاء الحكمة لأي شخص يسعى إلى بلوغها، من أولي الألباب والعقل، وأهم ما يلفت النظر في أطروحة الكاتب هو (ليست الأحكام في الشرائع السماوية معطى نهائيا، بل أن تشريعها يجري وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وتطورتها)[11]، وخلاصتها أن التشريع يستند إلى قيم أخلاقية يمكن للعقل أن يدركها، ويوظفها لملئ الفراغ التشريعي، وهنا لنا وقفة مع هذا الطرح من عدة وجوه:
على النحو الكلي لا يوجد خلاف على أصل استناد التشريع على القيم الأخلاقية.
جريان التشريع وفق مقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع على النحو الكلي واضح، لكن على النحو التفصيلي يحتاج إلى بناء قواعد تفصيلية جديدة.
ان العقل يمكنه إدراك بعض الكليات من القيم والمبادئ الأخلاقية، لكن تحديد المصاديق موضع خلاف بين البشر في أغلب الموارد والحالات.
إن الإشارة إلى منطقة الفراغ وتوظيف مقتضيات الحكمة لملئها سوف يحدد من فرضية الكاتب في مشروعه، إذ أن التنافي أو التعارض بين بعض الأحكام والقيم الأخلاقية لم يكن في مجال الفراغ التشريعي فحسب بل هناك أحكام دلت عليها أدلة معتبرة (مملوءة شرعا) وتعاني من إشكالية التنافي مع القيم الأخلاقية بحسب فرضية الكتاب.
نقطة القوة في التأسيس:
من الملفت للنظر وما يمثل نقطة القوة في طرح (المنهج الجديد)، هو ما تناوله الكاتب حول توقف فعلية الاحكام على فعلية موضوعاتها، فالاستطاعة مثلا شرط في وجوب الحج، وحكم الحج (الوجوب) متوقف على فعلية موضوعه (فعل الحج) والذي بدوره متوقف على شرط الموضوع (الاستطاعة)، من هذه الصورة التحليلية للحكم الشرعي التي قدمتها المدونة الفقهية والأصولية، انطلق الكاتب في صياغة منهج مقتضيات الحكمة في التشريع، ليجعلها على الأقل أحد أركان تحقق موضوع الحكم، مع تبنيه عدم كفاية تحقق موضوع الحكم من ناحية الفعل وبعض شروطه كما في الاستطاعة، بل يدعو وبنحو واضح إلى فحص موضوعات الأحكام (كأفعال للمكلف) من حيث مدى انسجامها مع الحكمة في التشريع والقيم الأخلاقية، وهو ما يدعو بنحو حثيث إلى الاهتمام بحكمة التشريع في أثناء فهم الدليل واستنباط الحكم واصدار الفتوى، فلابد أن يكون الحكم ناظر للواقع ومحكوما بالمبادئ التي تحفظ مصالح الإنسان، وليس الحكم مجرد التزام بمقتضى العبودية ومنطق التعبد فحسب، بل هو التزام بمنطق القيم الأخلاقية التي تحفظ وجود الإنسان، ومقاصد الشرع بنحو عام.
ولم يغفل الكاتب أيضا، ما لهذه العملية من جانب معقد كما أشار إلى ذلك[12]، وإن قراءة النصوص الشرعية في مقام الاستنباط لن تكفي في ادراك الملاك والمصلحة مطلقا، مالم تتم الإحاطة ولونسبيا بما يصرح به القرآن الكريم من مبادئ وقيم وقواعد عليا، تحكم الفهم الفقهي للنصوص الشرعية وتوجه عملية الاستنباط بما يوافق مقتضيات الحكمة في التشريع.
كذلك أسس إلى معالم جديدة حول مفهوم التشريع والقرآن الكريم، عبر التأكيد على وحيانية النص القرآني، من جهة، وفهم مغاير لقداسة النص القرآني من جهة أخرى، إذ تعتمد رؤيته حول القداسة على ملاحظة خصوبة النص وثرائه وعمقه وإمكانية كبيرة لتأويله والبحث في أعماقه، بخلاف التعبد المحض الذي يلغي الإرادة والواعية للإنسان المتدبر[13].
وللواقع أهمية بالغة في رؤيته حول النص التشريعي في القرآن، ولما كان القرآن الكريم يشير بنحو واضح إلى واقعية الأحكام كما في قوله تعالى: (ويسألونك.. ويستفتونك)، فإن هذا الشاهد يؤكد على أن القرآن الكريم في بعض مسائله جاء استجابة إلى واقع محدد، ومنه يمكن إدراك أن الأحكام الشرعية منها ما هو زمني محدود، ومنها ما هو مطلق لكل زمان ومكان.
ومن المسائل التي أسس إلى نقدها وإعادة قراءتها هو ما اشتهر عند الأصوليين: (المورد لا يخصص الوارد)، لكن الكاتب يشير إلى أن فعلية الحكم ترتهن لفعلية موضوعه، والمورد أحد طرق تشخيص شروط فعلية الموضوع وهي نتيجة هامة بنظره، وتوافقا مع ما يؤكد عليه السيد محمد باقر الصدر من ارتهان فعلية وعدم فعلية الحكم لفعلية وعدم فعلية الموضوع[14].
ويرتبط هذا الجانب بمبحث هام يتعلق بالقضايا الحقيقية والخارجية والتمييز بينها في موضوعات الأحكام، ويعد هذا المطلب من المطالب الأصولية المتداخلة مع الفلسفة كما بحثها مفصلا السيد الطباطبائي في كتابه الفلسفة والمنهج الواقعي، والتمييز بين نوعي تلك القضايا يساعد كثيرا على إعادة النظر في موضوعات الأحكام التي يتم عبر تنقيحها التمييز بين الأحكام المطلقة والأحكام المحدودة بزمان دون زمان.
ربط التشريع بالأصول والمبادئ:
لم يعهد الواقع الاستنباطي أن يتم الربط بين المبادئ من جهة، وإجرائيات الاستدلال من جهة أخرى، بحيث يتم استحضار المبدأ الكلي في أثناء عملية استخراج المعنى الجزئي من النص، وربما تضمن هذه العملية في سياق قبليات الفقيه والمؤثرات التي تحكم فهمه، فيكون تحصيل حاصل، لكن ليس بالنحو الذي يدعو إليه الكاتب، إذ استدعى مقاصد الجعل كحلقة بديلة عن عدم إمكان إدراك الملاك والمصلحة، كما يذكره مفصلا في كتاب آخر[15]، فيفترض وجود مبادئ وقيم تحدد تلك الملاكات التي تعد متعسرة الإدراك على العقل الفقهي، وتلك المبادئ والقيم تمثل مرجعيات كلية تدخل شرطا أساسا في تشكل لائحة الاستدلال على الحكم الجزئي، وتتصل تلك الأصولوالمبادئ بالمجال العقدي والرؤية الكونية، بحيث تزول الفجوات بين الفقه من جهة، وعلم العقيدة من جهة أخرى، عبر علاقة تتضمن رؤية فلسفية وكونية عن الإنسان ووضعه تحت نظر التشريع كمنظومة كلية شاملة.
ويوضح الكاتب أن تلك المقدمات والمبادئ يتم إدراكها بالتأمل الطويل ومن قبل نخبة مستوعبة للتشريع بنحو كلي وعلى قدر عال من الوعي بمتطلبات الواقع الانساني.
والملاحظ أن الكاتب في الغالب يحيل إلى كتابه (الفقيه والعقل التراثي) الذي يتضمن تفصيلات معمقة عن ضرورة اتصال الفقه بفلسفة القيم والأخلاق من جهة، وبفلسفة الإنسان وواقعه من جهة أخرى، محاولا الخروج من النسق التقليدي الذي يكتفي بالقواعد المحددة والتي تكون صارمة منهجيا، إلى مساحة أوسع تتضمن وعي القيم، ووعي الإنسان، ووعي الواقع، بمنهج عقلي/عقلاني، يتوخى استحضار الكلي في مقام استنباط الجزئي.
وتحت عنوان (مبادئ التشريع) تناول الكاتب فرضية مقتضيات الحكمة وما تقتضيه من أن الأحكام تشرع وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع على وفق الواقع وضروراته، ويقصد بمبادئ التشريع تلك القيم والتصورات الكلية التي بموجبها يحدد مستوى الالتزام بالحكم الشرعي[16] ويتساءل حول ما إذا كانت مبادئ التشريع مبادئ إنسانية أخلاقيه كونية ثابتة في عرف العقلاء حتى تكون صالحة كمرجعية معرفية لملئ الفراغ، وفي النهاية يجيب عن ذلك بالإيجاب ويستحضر الأدلة التي تدعم هذه الفرضية، من خلال مبادئ عدة تمثل مرجعيات جزئية، والجديد هنا أتنه يؤسس إلى الإطار المرجعي الموحد بين مختلف المجالات المعرفية، مؤكدا أن المرجعية للفقه لا للفقيه، ملتفتا إلى قيمة التراكم المعرفي في المجال الفقهي الذي يسوغ الرجوع إليه من باب العرف التشريعي، كما يشير إليه الكاتب صراحة.[17]
ويتناول في المبدأ الأول مركزية العدل وعدم الظلم ويعتمد نصوص القرآن الكريم مثل قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان..) فإذا كان العدل قد أمر به القرآن الكريم مراراً فمن الأولى الالتزام به شرعياً، ومن ثم يحلل مفهوم العدل والعدالة في ضوء النص القرآني وينطلق إلى المبدأ الثاني السعة والرحمة، وهو مبدأ أساس في تشريع الأحكام قرآنية وتؤكده بعض النصوص القرآنية مثل قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم..) والآية في نظر الكاتب تصرح بقصدية الانتقال من العسر إلى اليسر وتحرير الناس من معاناة التشريعات السابقة وهنا ينتقل إلى فكرة ضرورة أن تراعي الشرائع الواقع وضروراته، والإسلام يختم تلك الشرائع بتخفيف ما كان يعانيه الناس من الشرائع السابقة وهو ما يؤكده قوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم..)، والمبدأ الثالث المساواة، والمساواة عند الكاتب هي شرط صدقية عدالة الأحكام، وإنما تسري على الجميع، والمبدأ الرابع هومراعاة الواقع، وهو ما يجب مراعاته لتوقف فعلية موضوع الحكم على فعلية جميع ما يرتبط به، فالواقع هو موضوع الحكم، ويشير الكاتب إلى التحولات التي تلاحق الواقع وهي ملاحظة بالوجدان كما يشير الكاتب أيضا إلى فكرة جوهرية في طرحه تتمثل بوحده المبادئ التشريعية إذ يذكر مجموعة أدلة وشواهد تؤكد وحدة مبادئ التشريع بين الأحكام السماوية والوضعية بما يتيح ملء منطقة الفراغ بعيدًا عن وصاية الفقيه سوى خبرة الفقيه الفقهية والقانونية، ووحدة المبادئ هذه تكرس حالة العقلانيه في الفقه الإسلامي وتؤكد ضرورة الاحتكام إلى الخبرة المتراكمة والمعارف البشرية في إطار وفي مجال القوانين والأحكام والتشريعات.
ويخلص في آخر بحثه إلى ضرورة تفعيل ولاية الشريعة بدل ولاية الفقيه ويعني بولاية الشريعة وهي أن تحكم الشريعة بالأدوات المجملة واستحضار العرف التشريعي والسيرة العقلاء، كل ذلك يقدم معرفة إجمالية من شأنها أن تقدم مساحة خاصة من المعارف التي تعين على استنباط الأحكام الشرعية وفق متطلبات الواقع.
أن هذا الطرح يساوي ما تطلق إليه بعض الفقهاء والباحثين من مصطلح روح الشريعة ومذاق الشرع ويمكن أن نفيد من طرح الكاتب أن المسألة في جلها تتعلق باستلهام القواعد والأحكام من خلال المعاني الإجمالية والكلية في التشريع التي يستفاد منها الفقيه في عملية قراءة واستنباط الأحكام الشرعية.
خلاصة
جاءت هذه القراءة بنحو موجز ومختصر، بعد متابعة الفصلين الأولين، اللذين تضمنا نسبة من التأسيس، وبقية الفصول كانت على موضوعات لا تقل أهمية عن الأول والثاني، فالفصل الثالث تناول مسألة الفراغ التشريعي بدءا من تكونها لدى الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وانتهاءا بما يعرض إليه الكتاب من منهج جديد، تكتمل ملامحه من خلال بقية الفصول، إذ يعرض الفصل الرابع إلى الأسس الأخلاقية للتشريع، وعلى غرار بقية الفصول البالغة اثني عشر فصل.
ومن الجدير بالملاحظة أن المشروع قائم على ملاحظة ونقد الفقه بنحو عام، وبمختلف اتجاته ومذاهبه، ولم يقتصر على الفقه الامامي، لأن كثيرا من التطبيقات التي ساقها الكاتب كانت نماذج لطروحات سلفية متشددة لا تمثل الرؤية الفقهية الإسلامية العامة، بسبب انفرادها بمنهج خاص في قراءة النصوص التشريعية، وهو ما يدل على سعة اهتمام وأفق الكاتب.
إن المشروع في هذا الكتاب لايمكن استيعابه من دون الاطلاع على بقية المنجز المعرفي للمفكر الاستاذ ماجد الغرباوي، فضلا عن كونه سلسلة مترابطة من البحوث التي تبعت كتب ومؤلفات أخرى في سياق تجديد المعرفة الفقهية.
إن ما يميز المساحة الفكرية التي يتحرك فيها المفكر ماجد الغرباوي، هي المجال العملي الواقعي الذي يوفره علم الفقه وما يختص به من قرب وصلة بالواقع، وهو ما يفتقد إليه عقل النخبة، إذ يغلب التعمق في المفاهيم والتنظير من دون الإحاطة بتفاصيل الواقع التي يتناولها مجال الفقه والأحكام بنحو تفصيلي، وهو ما تمكن منه الغرباوي بنحو دقيق أضفى طابعا شموليا على طروحاته، وبالأخص الكتاب الذي بين ايدينا، وسوف تكون هناك تتمة لهذه القراءة الموجزة للكتاب لتنتهي منها لاحقا بنحو مفصل بعون الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.
***
بقلم: ا. م. د أسعد عبد الرزاق الاسدي
كلية الفقه/جامعة الكوفة
.....................................
[2]- ظ: مقتضيات الحكمة في التشريع، نحو منهج جديد في تشريع الأحكام- ماجد الغرباوي،ص: 5-6
[3]- المصدر نفسه، ص: 7-8
[4]- المصدر نفسه، ص 22.
[5]- المصدر نفسه، ص: 25
[6]- ظ: نهاية السول للإسنوي (2/ 459)
[7]- ظ: مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص: 17
[8]- ظ: محمد جواد مغنية، علم اصول الفقه في ثوبه الجديد: 190
[9]- مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص:31.
[10]- البقرة: 269
[11]- مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص: 33.
[12]- المصدر نفسه، ص: 35.
[13]- المصدر نفسه، ص: 52.
[14]- الصدر، محمد باقر، دروس في علم الأصول: 126
[15]- مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص: 120.
[16]-المصدر نفسه، ص: 85
[17]- المصدر نفسه، ص: 106
.........................................
* مشاركة (66) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).
رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي
https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10