بأقلامهم (حول منجزه)
مجدي ابراهيم: فلسفة الحوار النقدي في مدارات الغرباوي العقائدية.. (فكرة التقدّم)
تتجلى فلسفة الحوار النقدي في مدارات الغرباوي العقائدية في إبراز فكرة التقدم من حيث نقد القيم السلبية التي تعيشها المجمعات الشرقية عموماً، والمجتمع العربي بصفة خاصّة، اتكالاً على الغيب المجهول؛ ولا يمكن أن يكون هنالك تقدّم لأمة من أمم الشرق وهي عالة على منجزات الأمم الغربية المتقدّمة : في العلوم والصناعات والاقتصاد والتكنولوجيا، بل وفي الثقافة والفن والأدب أيضاً.
واقعنا العربي الراهن عالة على منجزات العقل الغربي، لديه خشية ملفوفة بالجُبن الكريه من مواجهة التحديات. والأمة العربية تعيش اليوم بغير وجود وبغير خصائص تفرضها إنْ شاءت على الآخرين، كما يفرض الآخرون خصائصهم عليها وهى قانعة راضية مستسلمة : تستلذ حلاوة الاستهلاك وتستكره مرارة الإنتاج والصبر عليه في كل حين : الاستهلاك في الفكر، وفي العلم، وفي الثقافة، وفي الفن، وفي مطالب العقول والأرواح؛ بل وفي المأكل والملبس والمشرب، وفي مطالب الأبدان على وجه الإجمال؛ تستهلك أكثر ممّا تنتج ولا تطيق الصبر على الإنتاج. والأمة المستهلكة لإنتاج الآخرين من فكر، وعلم، وثقافة، وفن، دون أن تنتج هى من العلوم والأفكار والثقافات والفنون ما من شأنه أن يؤهلها للوقوف أمام الأمم المتقدمة وجهاً لوجه هى أمة تتقلبُ في أعراض الضعف والخنوع، مهيأة لعوامل الغربة الروحيّة والفكرية؛ فإذا بذاتها شاعرة على التحقيق بالاغتراب في مواجهة الذوات الأخرى، لا لشيء إلا لأنها – من قبلُ ومن بعدُ – مسلوبة “الثوابت” التي ترتكز عليها أشراط الهوية العصماء.
على أن زعماء الإصلاح في العالم العربي قاطبة أفاضوا الحديث عن فكرة التقدّم كونها مرتهنة بالإصلاح، ولم يكن الغرباوي هو أول من يطرق هذا الباب، ولكن سبقته جهود وفيرة عالجت مسائل الأوضاع المتردية في العالم العربي؛ فاقت الحصر وألزمت الناظرين إليها روح التشاؤم والقنوط. غير أنه تميز بتجربة يقيمها على أسس فلسفة الحوار النقدي هو الذي وقف عليها وعالج زاوية تخلف الفكر الديني وقصور مستواه عن مسايرة واقع المسلمين الراهن، وهي نفسها الفكرة التي أشرنا في السابق من حيث تلازم التجربة مع الفكر؛ فإنّ التأمل في هذا “الإصلاح” الذي يقترن بفكرة “التقدم”، كان أمامنا واضحاً وضوح الشمس في ضحاها، خلال حركة التنوير العربية التي بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي برفاعة رافع الطهطاوي (1801 – 1873م)، ومن خلال ما تلاه من رموز الفكر الإصلاحي الذين قدموا لأمتهم العربية أصوب الآراء وأدق القضايا وأشدها خطراً على المستويين : الداخلي والخارجي.
فليس بالإمكان مطلقاً غَضّ النظر عنها ونحن نتكلم في الإصلاح وفي التقدم ونتولّاهما بالرعاية والاهتمام. وإذا أردنا أن نغض الطرف بعيداً عن آراء المفكرين والمصلحين وأهل الرأي ودعاة التهذيب وحاملي لواء التغيير في شتى مناحي الحياة : في الفكر، والثقافة، والاجتماع، والسياسة؛ فعلينا إذن أن نطلب من متخلفي الأمة ليقوموا بعمليات الإصلاح والتغيير، وننحي جانباً أولئك العقلاء المفكرين؛ لأن أقوالهم – فيما تبدو لنا – ترفٌ عقلي أو نظرٌ فكرى؛ إنْ هى إلا تزجية للفراغ العاطل. فمن أسف أننا حين نتحدث عن الإصلاح وعن التقدم، نتحدث عنهما ونحن في عزلة عن أولئك الذين خبروهما واستوعبوا دلالاتهما وحفيت أقلامهم في الدعوة إليهما، ليتم تطبيق خطواتهما في مجالات الحياة بالجملة فضلاً عن التفصيل.
ولن يقوم الإصلاح قياماً ذاتياً من تلقاء نفسه؛ لأنه رهن بالتقدم، ولا هو ينغرس فيما فسد من أرض الواقع غرساً عشوائياً بغير دراسة واعية، ولكنه على كافة مستوياته (الدينية، والفكرية، والثقافية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والحياتية على وجه الإجمال) يحتاج إلى مصلحين درسوا وتعبوا في البحث والدراسة حتى تمخضت أذهانهم عن وجوه الرأي المختلفة، وتشكلت لديهم “رؤية” فيما هم يقومون بمعرفته، فكانوا بذلك رموزاً في العمل الإصلاحي : محاوره ومجالاته.
وماذا نقول فيما كان قدّمه جمال الدين الأفغاني (1839- 1897م)، وعبد الرحمن الكواكبي (ت 1902م)، في الربط بين الفكر والسياسة، وفي مجال الإصلاح السياسي على وجه الخصوص. وهل نرى غضاضة إذا نحن أخذنا اليوم على عاتقنا معرفة مجمل الآراء الإصلاحية التي قدمها الشيخ محمد عبده (1849- 1905م)، أو قاسم أمين (1863- 1908م)، أو محمد إقبال (1873 – 1938م)، أو الشيخ مصطفى عبد الرازق (1885- 1947م)، أو أحمد أمين (1886 – 1954م)، أو المفكر المصلح الجزائري عبد الحميد بن باديس (1889 – 1940م)، أو الأستاذ عباس محمود العقاد (1889 – 1964)، أو طه حسين (1889 – 1973م)، أو غيرهم من كبار المفكرين والمصلحين الذين يعلمون عن الإصلاح ومداخله الكثير والكثير، ولا يعزلونه مطلقاً عن فكرة التقدّم حيث لا تقدّم بلا إصلاح؟!
هذه سنة الحياة وسنة التطور فيها على التحقيق. فهؤلاء المصلحون هم في الواقع كانوا خيرة عقول الأمة، ولازالت آراؤهم تنير لنا الطريق، فلا يطلب – مرة ثانية – من متخلفي الأمة أن يقوموا بعمليات الإصلاح والتغيير؛ فعلى الفئة المفكرة العاقلة أن تشرّع، وعلينا نحن أن ننظر فيما شرّعوه؛ لنرى ما يوافقنا منه فتأخذه تنفيذاً مقبولاً غير ساخطين.
إنّ العقول التي عشقت هذا التراب العربي لهى العقول التي عرفت معنى الولاء للضمير فارتفعت به؛ ليكون رمزاً علوياً للإنسان أنيَّ كان؛ فإذا انصلح ضميره، انصلحت تباعاً جميع قواه التي تميزه عن سائر الكائنات الحية. ولك فيما لو شئت أن تجرد من الإنسان عقله، وفكره، وضميره، وأخلاقه، وقيمه، أو تجرِّده من قدراته الروحيّة والفكرية والثقافية والمعنوية على وجه العموم؛ فماذا تراه يكون غير كونه حيواناً أو أشبه بالحيوان؟!
لقد حفيت أقلام مفكرينا الكبار من أجل وضوح الرؤية حول عملية الإصلاح؛ الخاصة بالفرد قبل المجتمع، وكُتِبِتْ كتابات مستفيضة حول هذا الهمِّ الأيديولوجي والتطبيقي على السواء، كانت فكرتها الأساسية تدور حول التغيير والتحديث والتطوير والتجديد تمهيداً لتجلية فكرة التقدم؛ وجميعها اصطلاحات تلف لف تغيير العقلية العربية ونقلها من مراحل الجمود على القديم والانغلاق عليه، إلى مراحل المشاركة في الإنجازات العالمية؛ بل هناك كتب متخصصة كاملة تناولت فكرة التقدم والإصلاح بمستوياته المختلفة وأقسامه المتباينة وأولوياته، فيمن ساهموا بوضوح الرؤية فيه؛ مثلما كتب “أحمد أمين” كتابه “زعماء الإصلاح في العصر الحديث”، ومثلما كتب الدكتور “زكي نجيب محمود” في “تحديث الثقافة العربية”، “وتجديد الفكر العربي”، ومحمد إقبال في “تجديد الفكر الديني”، ناهيك عن فلاسفة المغرب في القديم والحديث والمعاصر، وفي مقدمتهم محمد عابد الجابري في “نحن والتراث”؛ “ونقد العقل العربي” بأجزائه الثلاثة؛ “والتراث والحداثة”؛ وغير هذه وتلك من المصنفات التي كان كتابها مجددين، يدعون إلى الأفكار الإصلاحية الكبرى مقرونة مع فكرة التقدّم، ويهدفون إلى الإصلاح بكافة مستوياته لتتقدم أممهم وتشارك في النهضة العامة. فهل استفادت الجهات المسئولة التي يعنيها الشعب جملة لا الفرد بصفة خاصة، بمثل هذه الجهود المبدعة الخلاقة لإصلاح حال الأمة والتفتيش عن مقومات وحدتها؟ وهل أعطت هذه الجهات المسئولة في أمتنا العربية قاطبة مساحةً حرة في أجهزتها الإعلامية لتعزيز تلك الأفكار الإصلاحية والجهود المستنيرة ودعمها؟!
بادي الرأي عندي : أن الإجابة قطعاً بالنفي، فالعكس هو الصحيح. هناك بعض الدول العربية شجعت الفكر المتطرف، ونمت روح التعصب، واقتدرت بنفوذها المادي على تمويل الأفكار الرجعية، وفتحت الساحة العربية للسقوط في المستنقع الآسن والحمأة الوبيئة : الإرهاب، والتسّلط ومحاربة الأفكار الإنسانية العامة، وقتل التفكير العقلي؛ الأمر الذي ساعد على حل روابط التضامن والاتحاد والاعتصام من الفرقة، تفككت خلالها العروة الوثقى.
في إطار هذا كله؛ وفي ضوء منهجية نقدية تجلّيها فلسفة الحوار، وبتجربة يقترن فيها الفكر مع مسالكه العملية؛ يطرح الغرباوي مسألة تخلف القيم الدينية في واقعنا العربي سواء على مستوى عقائد أهل السنة أو على مستوى عقائد الشيعة، والقيم الدينية يمثلها أشخاص، وتحيا بهم في الواقع الفعلي، فهي في ذاتها لا تمثل شئياً، ولكن يستدل منها على أشخاص يجسدونها، ترتفع بهم إذا ارتفعت فيهم، وتنتكس وتتردى بانتكاسهم وترديهم. وليس ينبغي أن يكون الدين دافعاً للعجز والاسترخاء، يتقدّمه تفكير مغلوط مشوب بالغفلة والاستنامة.
القيم الدينية في بلادنا سادها الاستخفاف بالعمل، وأصبح الناس مجرد عبيد لعقائد الانتظار، ولكل ما هو سلبي يضر ولا ينفع، ويؤخر ولا يقدّم، ويطعن في الجهد والسعي والكفاح والعمل. وعند الغرباوي : أن الغرب يختلف عنا في علاقته بالدين وبالغيب؛ فمنذ إقصاء الكنيسة عن الحياة عامة والسياسة خاصة؛ انطلقت الشعوب الأوروبية نحو العلم والمعرفة وتطور الحياة؛ فأخضعت كل شيء للتجربة والعقل، وراحت تبحث عن الأسباب الكامنة في الكون بعيداً عن التفسيرات الغيبية، فأصابت الهدف وحققت نتائج مبهرة في الحياة، بعدما اكتشفت القوانين المنظمة للكون، وكيفية ترابطها، وصار العالم برمته مديناً لاكتشافاتهم. (مدارات عقائدية ساخنة : ص 28).
هذه حقيقة ظاهرة عند الغرباوي، تراها الأعين وتمسها الحواس ويؤكدها الواقع الفعلي، ولا يستطيع أحد أن ينكرها. أمّا شعوبنا فمسكونة بالغيب، بعد أن وجدت فيه حلاً سحريّاً لكل مشاكل الحياة، ووجدوا فيه تبريراً لعجزهم ولكسلهم وتقاعسهم فراحوا ينتظرون معونة الغيب ليحل لهم مشاكلهم أو يجزيهم يوم القيامة جنات عدن بدلاً من معاناتهم. وهنا يبدو نقد العقائد الرّخوة الهينة الميتة، وليتهم يعتقدون اعتقاداً إيجابياً في الغيب؛ بل عقائدهم الدافعة للعمل سلبية بامتياز؛ لأن الإيمان بالغيب لا يدفع إلى الكسل والخمول، بل يدفع إلى العمل والحيوية والنشاط لملاقاة المصير. فليس العيب في الاعتقاد في الغيب؛ بل العيب في سوء الاعتقاد فيه.
غير أن هذه الفكرة مع وجاهتها لدى “الغرباوي” تجدر مناقشتها في ضوء صراع المعارك الفكرية التي كانت بين الإسلام وخصومه، وكانت مقصورة في الأغلب الأعم على الكتب المتخصصة والدراسات العلمية، خاصة دراسات المستشرقين التي بدأت مع بعثات التبشير فيما قبل القرن الثامن عشر وتطورت دراسات الباحثين الأوروبيين للإسلام في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وكان يعمُّ الإنصاف تطورها أحياناً، كما كان فيها بعض الإجحاف الفاسد والظلم البيِّن أحياناً كثيرة.
وفي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ظهرت النزعة العلمية منهجاً وطريقاً لتمايز البحوث والدراسات بالمزايا العلمية خالصة لوجه العلم والتاريخ؛ فكان أنْ تَوَخَّى الباحثون أمانة العرض والموضوعية، وإخلاص النزاهة لوجه الحق والعدل، والتجرُّد عن الأهواء والأغراض، والبعد عن التعصب والعنصرية : صفات مَنْ يتخذ من المنهج العلمي طريقاً له في بحوثه ودراساته، وفيما يصل إليه من نتائج عن طبيعة موضوعه المبحوث.
فلما أن تشبث الغربيون بهذه النزعة العلمية؛ أفرطوا فيها، فأخضعوا القيم الروحية والإسلامية للمقاييس المادية، وللاعتبارات التي تُقاس بغير مقياسها الصحيح؛ فخرجوا بذلك عن منهج العلم حين سلكوا مسلكاً هو في حد ذاته خطراً على العلم نفسه، وتناسوا في غفلة الإعجاب بالإفراط : إنه من الخطأ المنهجي الذي يفرضه المنهج العلمي الإنساني ذاته، أن نعلق الحقائق النهائية الإسلامية بحقائق غير نهائية هى في الأصل كل ما يصل إليه العلم البشري، وأن نلحق “الثابت”، وهو القرآن والقيمُ الإيمانية، “بالمتغير” الذي لا ثبات فيه، وهو كشوفات العلم وإبداعات العقل البشري، وتجاهلوا أنّ موضوع الإسلام الذي جاء ليعليه ويحييه في الهياكل الآدمية هو “الإنسان” : الإنسانُ في عقائده وأعماله، والإنسان في شعوره وتصوراته، والإنسان في سلوكه وروابطه وعلاقاته، والإنسان في ضميره الذي يدفعه بمقتضى القيم الإيمانية فيه إلى تحصيل العلم وتزكية التحصيل بالإبداع والتقدم، وبالبحث الدائم في أسرار الكون كشفاً للمجهول.
كان المحايدُ المنصف بين المستشرقين والباحثين الأوروبيين، مثلما كان من بينهم الجائر المجحف، وقد لاقت آراء المجحفين ردوداً قويّة من كبار العقول العربية والإسلامية كما لاقت آراء المنصفين منهم ما يناظرها من الإشادة والتقدير؛ فلمَّا أن دخلت السياسة اليوم في الحكم على الإسلام هاجت الدنيا وماجت، وظن البعض أن الهجوم على الإسلام وليد الأمس القريب. وبعضُنا يعلم تلك الطعنات الجائرة التي صوَّبها المستشرق الفرنسي “أرنست رينان” (1823- 1892) في كتابه “الإسلام والعلم” للعرب والإسلام؛ فكانت مثالاً للإجحاف الظالم والبعد عن النزاهة العلمية والانحراف الأعوج عن موضوعية العلم والتفكير؛ الأمر الذي دفع السيد جمال الدين الأفغاني، وتلاميذه من بعده، إلى الرد عليه بما أفحمه وألزمه حجة الاعتراف بضعف كثير من المصادر التي أستقي منها معلوماته عن الإسلام : مبادؤه وأخلاقه وتعاليمه وقيمه.
وجاءت على النقيض من هذا؛ آراء صحيحة مستقيمة لطائفة من المستشرقين كتبوا عن الإسلام ونبيه عليه السلام؛ فإذا بالإسلام يبدو في دراساتهم، وبحوثهم ديناً دولياً عاماً؛ وإذا بنبيِّه – صلوات ربي وسلامه عليه – هو الأسوة الحسنة التي يلتقي فيها شعور المساواة والإخاء والحب الكامل بين أبناء العالمين جميعاً بغير استثناء.
وللأستاذ ” كارا دي فو” كتابُ عن “المحمدية” جاء فيه قوله :” إنّ محمداً كان هو النبي، والمُلهم، والمؤسس، ولم يستطع أحد أن ينازعه المكانة العليا .. ومع ذلك لم ينظر إلى نفسه كرجل من عنصر آخر، أو من طبقة أخرى غير طبقات بقية المسلمين. إنّ شعور المساواة والإخاء الذي أسَّسه بين أعضاء الجمعية الإسلامية، كان يطبق تطبيقاً عملياً حتى على النبي نفسه” .. وإنه؛ صلوات الله وسلامه عليه :” أتمَّ طفولته في الهدوء، ولما بلغ سن الشباب أشتهر باسم الشاب الذكي الوديع المحبوب ..”، وقد عاش هادئاً في سلام حتى بلغ الأربعين من عمره، وكان بشوشاً تقياً لطيف المعاشرة “.
وقال المستشرق الفرنسي “ليبون” عن القرآن الكريم :” حسْبُ هذا الكتاب جلالاً ومجداً أن الأربعة عشر قرناً التي مرَّت عليه لم تستطع أن تجفِّف – ولو بعض الشيء – من أسلوبه الذي لا يزال غضاً كأن عهده بالوجود أمس”. وهناك آراء توصَّل إليها كبار الباحثين الأوروبيين حول الإسلام وكتابه المقدس (القرآن) لا يكادُ المرء لقوتها وعمقها أن يظفر بها في بحوث الباحثين العرب، منها ما نبَّه أحدهم عليه، وهو أنه : لابدَّ لقارئ القرآن إذا أراد أن يفهم رسالة القرآن أن يذكر أنه كتاب فرائض وكتاب إقناع وكتاب هداية، وأن الإعجاز فيه لا يرجع إلى فصاحة اللفظ وحدها ولا إلى نسق البيان وحده، ولكنه يرجع إلى “إيحاء” اللفظ و”إيحاء” البيان بما يعجز كل كلام (غير إلهي) عن الإيحاء بمثله”.
إضافة إلى تلك النغمة النقديّة الساخرة التي اصطنعها الغرباوي فيما تقدم يقطع جازماً ليقول : نحن شعب نكره الجد والمثابرة، ونتمنى الأشياء بلا تعب وبلا معاناة؛ خلافاً لسنن الحياة، وننظر حلول وتسويات الغيب لمشاكلنا بالدعاء، فانتهى بنا الأمر مستعمرين لدول الغرب اقتصادياً وصناعياً وتكنولوجياً. الغرب يتقدّم على مختلف أصعدة الحياة ويقيم أفضل الأنظمة السياسية في ظل مجتمعات مدنية، ونحن ننتظر المهدي وتحقيق دولة العدل الإلهي الموعودة ! (يراجع : مدارات عقائدية : 2017 م، ص 29).
نحن مجتمع قطيع ترنو عيناه لرعاته ومن يقود مسيرته، لا أدري لما ننتظر مُخَلّصاً والعالم الغربي حقق كل شيء بما فيها العدالة التي يبكي عليها الشرق؟ هل حققوا هذا بواسطة مخلص ومهدي أم بجهودهم وسعيهم وتفهمهم وكفاحهم المرير، وكانت النتيجة الآن أنهم يعيشون عيشة كريمة. فما نحتاجه راهناً إعادة النظر بوعينا وثقافتنا كي نتخلص من روح التبعية والانقياد بثقة عالية.
يعتقد الغرباوي في ضوء نقد جرثومة تخلف اعتقادات الشعوب العربية : أنّ العدالة رهن من يسعي لتحقيقها، بعيداً عن عقائد الانتظار لينعم بها ويسود العدل مفاصل الحياة في بلاده. ومن له حقوق انتزعها بنفسه فلا أحد يعيدها له.
***
بقلم : د. مجدي إبراهيم
..................
* مشاركة (62) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).
رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي
https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10