بأقلامهم (حول منجزه)
قراءة أولية في كتاب: النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني لماجد الغرباوي (1-2)
ماجد الغرباوي باحث في الفكر الديني، ومتخصص في العلوم الشرعية والإنسانية، يسعى من خلال مشروعه الفكري هذا إلى ترشيد الوعي عبر تحرير العقل من سطوة سلبيات التراث وتداعيات العقل التقليدي، وذلك عبر قرأة متجددة للنص الديني المقدس بشكل خاص والنص التراثي بشكل عام، تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري يساهم في ترسيخ قيم الحرية والعدالة والمساواة، بغية التأسيس من وراء ذلك إلى إقامة مجتمع مدني خالٍ من العنف والتناحر والاحتراب. وهذا ما يجعله من أحد كبار مفكري النهضة في تاريخنا الحالي الذين يشتغلون على الفكر النهضوي العربي، من خلال تركيزه على نقد الفكر الديني، والتسامح، والعنف، والحركات الإسلامية، والمرأة والإصلاح والتجديد. وهي من القضايا الأكثر أهمية وحساسية في الخطاب الفكري السائد حالياً.
صدر للغرباوي العديد من الكتب وبطبعات متعددة، منها:
إشكاليات التجديد، والتسامح ومنابع اللاتسامح، وتحديات العنف، والضد النوعي للاستبداد، والشيخ محمد سعيد النائيني، والحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، وجدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق، والنص وسؤال الحقيقة، والشيخ المفيد وعلوم الحديث، وترجمة الدين والفكر في شراك الاستبداد، وتحقيق كتاب نهاية الدراية في علوم الحديث.
كما صدرت عنه مجموعة من الدراسات والبحوث والكتب تتعلق في فكره ودور هذا الفكر في إمكانية تجديد النص التراثي وإعادته إلى طريق الصواب. أي طرق تحقيق النهضة.
بوب الكاتب والمفكر الغرباوي كتابه بستة أبواب، وستة عشر فصلاً، والعديد من المطالب في كل فصل من فصول الكتاب.
أما عناوين أبواب الكتاب فهي:
الباب الأول:النص والخطاب .. المفهوم والدلالة.
الباب الثاني: النص والحقيقة.
الباب الثالث: النص وأدلجة الخطاب.
الباب الرابع: النص وشرعية السلطة – الآليات والتأسيس.
الباب الخامس: النص واتجاهات المعارضة.
الباب السادس: النص والغلو.
قراءة اولية في مضمون الكتاب:
تطرق الكاتب والمفكر الغرباوي في مطلع كتابه عن أهمية الجهود الفكرية والفلسفية التي طُرحت على الساحة الفكرية العربية من أجل معالجة التفكير الديني والعقل التراثي. وما تمتعت به هذه البحوث والدراسات من حيوية في المناهج، وطرح الأسئلة واختراق الممنوع واللامفكر فيه، حيث شكل ما اشتغل عليه هؤلاء تراكماً معرفيا ورغبة في ترشيد الوعي، بغض النظر عن اتفاق الغرباوي أو عدمه اتفاقه مع ما كتب في هذا الاتجاه، مسترشدا كدليل على هذا الموقف أو الرأي مما كُتب، من حالة الجدال الذي دار بين محمد عابد الجابري في كتابه مشرع (نقد العقل العربي)، ورد جورج طرابيشي ونقده لمشروع الجابري في كتابه (نقد نقد العقل العربي). (1).
منذ البداية يؤكد الغرباوي بأن مشكلة التخلف عنده لا تعتبر في الدين كوحي إلهي. ولا لكونه إيمان يثري التجارب الروحية. بل المشكلة في تحري وفهم مقاصد هذا الدين وغاياته ووظيفته. وبالتالي دور العقل في الاشتغال على توظيف هذا الدين خدمة للإنسان ومصالحه في حالات تطوره، والوقوف ضد الفهم الوثوقي الاستسلامي من هذا النص التراثي، والمناهج الفكرية الجمودية واللاعقلانية التي تعاملت مع هذا النص عبر التاريخ الإسلامي حتى جردته من إيجابياته، لعدم تمييز من اشتغل على هذه المناهج بين الثابت والمتحول فيه، وبين الخاص والعام، وبين الايجابي والسلبي، وبين النسبي والمطلق. وهذا ما ساهم في تجريد النص من مقاصده الحقيقة المشبعة بالقيم الإنسانية النبيلة وتاريخيته، ثم تحويل ما توصل فهمهم له من النص الترثي بمجموع مفرداته إلى أيديولوجيا دوغمائية تسلط السيف على عقول ورقاب المختلف. (2)
كما يؤكد الكاتب والباحث على علاقة الفكر في حالات تطوره بالإشكاليات القائمة .. دون أن يبين طبيعة هذه الاشكاليات، عدا إشكالات الفكر الديني ومرجعياته ومناهج التفكير فيه، حيث يقول بأن مرجعيات التفكير الديني ليست سوى مصفوفة تتولى عملية التفكير وإنتاج المعرفة. ومن خلالها يفسر ظواهر الأشياء ويفرز الحق عن الباطل حتى لو كانت هذه الروايات ضعيفة وهي الأكثر قدرة على تزييف الوعي وتكريس الجهل والأمية. مستغلين قوة بيان النص المرجع ومجازيته الموظفة داخل النسق اللغوي، إضافة إلى تعدد الاحالات المرجعية وقدرتها في السيطرة على عقل القارئ او المتلقي للنص، وهذا ما يعطي النص صرامة وقوة ليس من السهولة اختراقه وتفكيكه ثم إعادة تركيبه. إن كل ذلك يعطي النص الترثي قداسته وصلابته وعدم القدرة على نقده أو مراجعته أو تعديله. (3)
إن الاشتغال خارج وعي المتلقي في مثل هذه الحالة يعني بالنسبة للباحث والمفكر الغرباوي، أن الفرد سيتأثر بالنص الملقى عليه، وهذا يتطلب إعادة دراسة النص بالضرورة إعادة معرفية والقدرة على التفكيك والتنقيب ومراعاة قابليات المتلقي، وكيفية وعيه للنص، ومدى تأثير البيئة الثقافية عليه. وهذا ما قام عليه كتاب (النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني).(4)
وظيفة الكتاب: (يمثل مشروعاً نهضوياً لاستعادة وعي الفرد بعد نقد العقل الديني ومرجعياته المرتهنة لقدسية التراث وأوهام الحقيقة التي ابتعدت عن المناهج العلمية والكشوفات الحديثة، وكذلك الحفر بعيداً في بقع معرفية مستبعدة ومهشمة تقع ضمن المتواري واللامفكر فيه. وبالتالي مدى مطابقة البنية المعرفية لهذا النص التراثي والمنهج الذي اشتغل عليه رجال الدين تاريخياً للعقل وللواقع معاً.
إن هدف الكتاب في المحصلة هو الطموح لرؤية مغايرة وفق مبادئ عقلية متحررة من سطوة الخرافة والأسطورة وأوهام الحقيقة بإسم المقدس من أجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهضة حضارية لهذه الآمة المفوّته حضارياً، قد يساهم في رسم ملامح عالم جديد يطمح للحرية والعدالة والمساواة، ضمن إطار مجتمع يرفض العنف وإقصاء الاخر .(5)
في الباب الأول من الكتاب (النص والخطاب – المفهوم والدلالة)، وعبر كل عناوين فصوله وأبوابه يبدأ الفصل الأول من الكتاب بتعريف النص بشكل عام لغة ومجازاً، حيث يأتي النص لغة عند الغرباوي على أنه: (ما لا يحتمل إلا معنى واحداً أو لا يحتمل التأويل) أي هو كما يشير إليه علم الفقه بأنه: (ما كان نصاً في معناه، في مقابل ما كان ظاهراً). (6)
اما النص اصطلاحا او مجازاً فهو عنده: (ما تعددت دلالاته بتعدد قراءته وتأويلاته المتعددة).
فالنص هنا ثري في دلالاته أو ايحاءاته، ويتوقف الكشف عن هذه الايحاءات إن كان في الظاهر او المخفي او المضمر بناءً على مرونته وأسلوبه في التعامل معه. أي المنهج المتبع في قراءة النص. فالنص ليس أكثر من حقل معرفي قابل للحرث والتنقيب المعرفي في أعماقه .
أما السلطة فهي عنده لغة: (تأتي من التسلط والسيادة، والحكم ويراد بها اصطلاحا، السلطة المعرفية). (7). كما يراد بها هيمنة النص ومحدداته حينما يحتكر الحقيقة أو جزءاً منها. ضمن آلية التفكير وإنتاج المعرفة سواء كان النص موافقاً للواقع أم لا، المهم قيمة النص الذي يتعامل معه المتلقي بغض النظر عما يحمله هذا النص من أوهام وحقائق مطلقة يخضع لها عقل المتلقي. (8)
يؤكد الكاتب والمفكر الغرباوي على أن المراد بحثه أو التركيز عليه هنا، هو النص الديني خصوصاً، والروايات الموضوعة. ومدى تأثير الظروف المحيطة بالنص والمتلقي معاً على سلطة النص، وكيف أثبتت النصوص والروايات الموضوعة سلطتها حاضراً رغم تأريخيتها وتقادمها الزمني؟.(9)
أما أهم العوامل أو العناصر المؤثرة بالنص والتي يستمد منها سلطته، فهي متعددة ومختلفة قوة في تأثيرها النسبي من قارئ لآخر، وعلى هذا الأساس يجد الغرباوي أن النص يستمد سلطته ومركزتيه وتأثيره من مؤلف النص أولاً وأسلوب الخطاب ومضامينه). (10). كما يرى الغرباوي في الوقت نفسه إمكانية إهمال مصدر النص عندما يتعلق بمسائل أخلاقية ما دامت هذه القيم إنسانية مطلقة، كقولنا (النجاة في الصدق). ولكن لا يمكن تجاهله عندما يتعلق الأمر في حالات التعدد القيمي بين أصحاب الحضارات والديانات والثقافات المختلفة، فالقضية هنا نسبية. كما لا يمكن تجاهل مصدر النص عندما يؤسس لأية سلطة دينية كانت أو سياسية أو ثقافية أو معرفية. لآنه المعني بتحديد مستواها، فيكون المصدر هنا جزءاً من النص ذاته. كآية قرآنية أو حديث. كقول الحديث (الخلافة في قريش)، أو (إن الإمامة نص وتعيين) حيث ترتب على هذين النصين تأثير على مجرى التاريخ وصراعاته بين السنة والشيعة لم تزل حتى اليوم قائمة. (11)
إن ما يدلي به النص القرآني أو الحديث أو أي فرمان سلطوي، يعتبر عند الباحث الغرباوي إلزاميا إذا كان يتعلق بقضايا ذات طابع سلطوي. وما عدا ذلك فيعتبر النص حتى لو كانت هذه مصادره فهو نص إرشادي لا أكثر.
أما بالنسبة للنص وأهمية مصدره في عصرنا الحالي، فيجد الباحث أن مسألة التطرق للمصدر منذ العقد السابع من القرن الماضي، راحت تخف، وخاصة مع أدب وفلسفة وفن ما بعد الحداثة. حيث بدأت تطرح نظرية موت ا(المؤلف). (12). بل أننا نرى في نظرية الواقعية الجديدة في صيغتها الأمريكية برأيي هي من أخذ يمثل هذا التوجه المعاصر الذي أشار إليه الغرباوي، حيث تأخذ هذه المدرسة الحداثوية النص من مصدره وتقوم بنقد مضمونه دون التطرق إلى كاتبه. فما يهمها هنا هو دلالات النص وليس مصدره أثناء نقده. فيكون النقد أقرب للموضوعية والحيادية.
أما الأكثر خطورة هنا بالنسبة للنصوص كما يراها الباحث، فهي النصوص التي تخاطب العواطف الإنسانية أكثر من مخاطبتها عقولهم. كونها خطابات تعبويه تثويريه طقوسية تلهب حماس المتلقين من قوى اجتماعية معينة. كالخطابات الطائفية والأيديولوجية أو الاحتفالية سياسية كانت أم دينية (13)
إن النص كما يقول الغرباوي يظل: (مستغرقاً في صمته. يخفي دلالاته وأسراره ورمزيته، لا تستنطقه سوى القراءة الموغلة في نقدها وتفكيكها لتراكم طبقاته المتوارية. والنص الميتافيزيقي يخشى فضيحته المعرفية حفاظا على سلطته وهيمنة مفاهيمه). (14)
والنص الديني يرتكز في أدائه وسلطته على بنيتين هما: ظاهرية تستمد وجودها من تعدد دواله، وأسلوبه اللغوي كلمة وتعبيراً ومجازاً ورمزاً وتمثيلاً، وبنية مضمرة يرتكز عليها النص لتمرير ما يريده دون البوح بها.
أهمية قراءة النص ودلالات هذه القراءة:
يقول الباحث والمفكر الغرباوي: (لا توجد سلطة للنص ومصدره خارج فعل القراء، والمتلقي هو الذي يخرجها من القوة إلى الفعل من خلال منظومته المعرفية القابعة خلف قابلياته ويقينياته). (15). والمؤمن أو من يمتلك عقلاً تراثياً يخضع للنص الديني المقدس أو لنصوص مشبعة بالغيبيات، (أساطير وكرامات وغيرهما) دون مراجعة أو نقد، إنما هو يستسلم له، في الوقت الذي نجد المحايد والمتمتع بعقل برهاني يقرأ النص المقدس وغيره من نصوص التراث قراءة تحليلية وتركيبية، ويتوغل فيه معتمداً على العقل والمنطق والاستنتاج والاستقراء والقياس الجمعي. والسبب في وجود هذين الموقفين هو درجة وعي وثقافة المتلقي، وطبيعة المنهج الفكري الذي يشتغل عليه، والبيئة والعادات والتقاليد والشعائر والطقوس والخطاب الديني والنفسي والتراثي والظروف التربوية التي يعيش فيها، إضافة إلى طبيعة ودرجة وعيه واستعداده لتقبل ما يقدم له من نصوص دون أي رد فعل نقدي.
ينتقل الباحث بعد ذلك إلى دراسة النص والخطاب: حيث يأتي عنده الخطاب: (مخاطبة بين طرفين، وحديث موجه يحمل رسالة بقصد إقناع المتلقي بها مباشرة أو عبر تقنيات لغته أو أساليب تعبيره،. ساعياً لفرض سلطته على مشاعر المتلقي.). (16)، معتمداً عبر حوامله على المتلقي وظروفه ودرجة وعيه وثقافته وانتمائه الديني، أو الطائفي والمذهبي، .. الخ . وهو يتكئ على علاقاته بالعلوم الأخرى من أدب وفن وموسيقى وغناء وأخلاق ورموز.. الخ. والخطاب التراثي عادة هو خطاب قراءاته كما يقول الكاتب مواربة ومليئة بالرمزية والأسطورة المجردة العابرة للزمان والمكان، ويسلم نفسه بسهولة للمتلقي الحاذق.
أما الخطاب الأيديولوجي فهو خطاب تعبوي يقوم على إثارة مشاعر المتلقي، والتغلب على وعيه من أجل تحقيق أهدافه أو رسالته. وبالتالي نجاح الخطاب العلمي يعتمد على الاستدلال والبرهان والقياس المنطقي والاقناع، كما يعتمد على ثقافة واسعة وموقفاً منهجياً صارما لا يدخل العواطف والأهواء. (17)
وتظل المشكلة قائمة عند الباحث بالنسبة لعلاقة العقل بالخطاب. حيث يجيب عن هذه العلاقة بقوله: (كما أن الخطاب يتحرى وعياً ملائماً لدى المتلقي، كذلك العقل يطمح في خطاب ينسجم مع ثقافته وقابلياته، وبناءً على ذلك تنشأ علاقة جدلية بين الخطاب والعقل..).(18)، كل منهما يغني الاخر من أجل التأثير على المتلقي. فالنصوص وخاصة التراثية منها التي يعمل الخطاب على إغفال مرجعياتها ويتعامل الناس معها كحقائق ثابته، نهائية ومطلقة، تساهم في توجيه العقلين المتلقيين الفردي والجمعي وتستنزف طاقاتهما، كما تستنزف طاقات حواملهما الاجتماعيين وثرواتهم وتعطل جهدهم الحضاري وتعمق الشعور بالتفوق والعزلة والتعالي وكراهية الآخر المختلف.
من هنا يأتي النقد العقلاني كي يعري النص والخطاب معاً ويفضح دورهما وأهدافهما.
النص وحرية النقد:
في الفصل الثاني من الباب الأول يتطرق الباحث إلى (النص وحرية النقد). وهي قضية على درجة عالية من الأهمية والحساسية لما لها من نتائج تدميرية علي وعي الحامل الاجتماعي للخطاب وعلى المتلقي معاً. فالغرباوي يعالج مسألة قدسية النص (قرآن وحديث) ومدى قدرة نقده أو تعديله أو مراجعته. فالنص المقدس يفرض نفسه على الفقيه بشكل خاص ويقيد إمكانيات النقد العقلاني لديه. فالفقيه يعتبر النص عنده حالة مقدسة، وكل الذي يستطيع عمله هنا هو إعادة تفسير النص وتأويله كما ورد في العقل التراثي. وإذا كان النص القرآني يفرض قداسته ورهابه على الجميع، فإن المشكلة هنا تكمن بالحديث، وكتب التاريخ تبين كيف وضع الحديث خدمة للسلطة السياسية الحاكمة وخاصة في العصرين الأموي والعباسي حتى عصر التدوين. فالحديث في العقل التراثي وحتى في عقلنا المعاصر هو نص مقدس كما يقول الباحث متكئاً هنا على نصوص قرآنية (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب). (سورة الحشر الآية 7.). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ). (النساء – الآية 59.). وبالتالي (ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.). وعلى هذا الأساس فعقل الفقيه يظل هنا عقلاً مغلقاً غير قادر على الخروج من قدسية النص وسحره. وهذا سينعكس سلباً على الخطاب وتأثيره اجتماعيا وسياسياً وقيمياً وأخلاقياً ونفسياً، وعلى المتلقي أيضاً الذي غالباً ما يدخل في صراعات دامية مع الآخر المختلف معه في مرجعياته الفقهية. (19).
القراءة والسلطة:
يريد الباحث أن يقول في هذا الاتجاه بأن للنص التراثي المقدس سلطته على الفقيه أو المفكر أو المفسر، وهو محكوم بقداسته. على عكس القارئ المتحرر من قداسة النص، حيث يتعامل معه بشكل محايد، وهو قادر أن يعيد قراءته من جديد، واخضاعه لمختلف المناهج الحديثة والمعاصرة تفكيكاً وتركيباً ونقداً بغض النظر عن قائله بغية الوصول إلى فتح كل دلالاته الإنسانية والوصول إلى مقاصده المضمرة أو المسكوت عنها بعقلية حيادية. هذا وقد جئنا على هذه المسألة في موقف سابق من قراءتنا للكتاب. (20).
الموقف من الحريات:
يتناول الباحث في هذا الفصل ايضاً الموقف من الحريات. فثمة أسئلة يطرحها الكاتب تتوقف عليها حدود حرية الاعتقاد والتعبير في الإسلام. مثل هل الدين يعتبر نموذجاً نهائياً، يصادر حرية الرأي والاعتقاد والتعبير؟. ويفرض رؤية أحادية تلازمه مدى الحياة؟. أم الدين نسق قيمي يستجيب لمتطلبات الزمان والمكان ويتجدد مع كل قراءة له في شروطها الموضوعية؟.
يقول الباحث الغرباوي مجيباً على اسئلته بأن الإسلاميين (وأعتقد يقصد السلفيين السكونيين منهم)، من فقهاء ومفكرين يقولون في الرأي الأول. حيث يعتبرون أن أي قراءة أو مراجعة أو تعديل على أي ضرورة من ضرورات الدين، أو النص التراثي هو خروج على قيم الدين وأسس عقيدته. وبالتالي من يقوم بذلك هو زنديق أو كافر أو محرف لنصوصه.
أما الكتاب الإسلاميون والمحايدون بشكل عام، فيقولون عكس ذلك، بناءً على نصوص القرآن بالذات، وهم فقهاء وعلماء علم الكلام الذين آمنو بالعقل ودوره في قراءة النص الديني وتفسيره وتأويله.. (21). فهم يعترفون بأن في القرآن آيات محكمات (بينات) وآيات متشابهات (غامضات / متشابهات). والله نهانا عن الأخذ بها، مثلما نهانا عن تأويل النص القرآني كونه وحده هو الذي يعلم تأويله.. كما آمنوا بأن الدين للواقع، وبالتالي علينا أن نخضع دلالات النص ومقاصده الخيرة لهذا الواقع في حالات تطوره وتبدله، ولم يكن الناسخ والمنسوخ في القرآن إلا تأكيداً على ذلك. كما قالوا بأن (الأصل في الأشياء الاباحة) وبالتالي علينا أن لا نحرم ما حلل الله ولا نحلل ما حرم)، والحياة دائما تطرح علينا الجديد من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية امتحاناً للنص المقدس، ولا بد من النظر فيها وفقاً لمقاصد الدين العامة وليس وفقاً لموافقة هذه الظواهر مع ظواهر عصر السلف الصالح. لقد أراد الله في سورة الكهف أن يعلمنا أن كل شيء يتغير ويتبدل، ولكن تظل المقاصد الإنسانية العامة في الدين ثابته، كحق الحياة والرأي والعقيدة والدفاع عن العرض والأرض والمال. وكل ما يتعلق بذلك من مفردات التطبيق والوصول إلى تحقيق هذه المقاصد، هي من اختصاص الإنسان.. كونها شؤون حياة، والناس أدرى بشؤون دنياهم كما يقول حديث الرسول الكريم.
النص وخطابات النفي:
في الفصل الثالث ذاته يشير الباحث هنا إلى تعدد الخطابات الموجهة للجمهور، دينية وغيرها، ولكن الهم الذي يركز عليه الباحث هنا هو الخطاب الديني. هذا ويعتبر هذا الخطاب من أهم الخطابات التي تساهم في التأثير على المتلقي، وخاصة مع تطور الوسائل التي يستخدمها هذا الخطاب، بعد أن تطورت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة ودور المواقف السياسية في توظيف هذا الخطاب على الوعي الجمعي، فإضافة لوسائل إعلام الدولة ومؤسساتها الدينية، هناك منابر المساجد وحلقات الذكر والمناسبات الدينية، ومواقع التواصل الاجتماعي على الأنترنيت وغير ذلك الكثير. فالعقل الجمعي هنا تؤثر فيه الكلمة، حيث يصبح للكلمة سحرها وللرواية مفعولها، فلكل مكان قدسيته ودوره في تأثير الخطاب، حتى يتعذر على المتلقي تمييز وفرز الضعيف من هذا الخطاب نصاً أو رواية بفعل روحانية الأجواء وتأثير الكلمة على العقل الجمعي الذي هو جاهل بالأصل، وبالتالي هو يتعامل مع الخطاب بعاطفته أكثر من عقله، خاصة وأن الواعظ يعتمد على روايات أسطورية في الغالب، يصعب عليه تحديد مرجعياتها، فيعطي كما يقول الباحث إشارات بسيطة لإقناع المتلقي بما يقال له، وغالباً ما تكون هذه الاشارات لها مرجعية مقدسة في النص التراثي، لا يمكن الشك في مصداقيتها. وهي بالغالب ذات طابع مذهبي، وهي أيضاً مصادر شوهت الدين في الحقيقة وقسمت المسلمين وأضعفت انتماءهم للدين الحقيقي، دين الوحدة والمحبة والعدالة والمساواة واحترام الرأي والرأي الآخر وغير ذلك من مقاصد إنسانية يدعو إليه الدين. (22).
خطاب التنافي:
على هذا الموقف المذهبي والفرقي في الخطاب التراثي الديني، يبرز مفهوم الفرقة الناجية كما يقول الغرباوي، فالمذاهب والفرق في الحقيقة تكفر بعضها، وتصنف من هي الفرقة النارية، ومن هي المرضى عنها يوم الحساب، وعلى أساس هذا الموقف يدخل المجتمع والعقل الجمعي معاً في صراعات تعمق الاختلاف والتفرقة والكره والضغينة، وهذا ما حدث عبر التاريخ، حيث لم تزل الصراعات الدينية القائمة على مفهوم الفرقة الناجية حتى الآن. وعل هذا الأساس راح الكاتب انطلاقاً من هذه المواقف التراثية العدائية يعمل على إعادة قراءة النص الديني نفسه (قرآن وحديث)، إضافة لدراسة كتب من اشتغل على هذا النص المقدس من فقهاء وعلماء كلام مرتبطين بهذه المذاهب والفرق لتبيان مواقع الكراهية والحقد فيها اتجاه المختلف، وتبيان المقاصد الحقيقية للدين، كما جاء في كتابه (التسامح ومنابع التسامح) وغيرها من كتبه التي أشرنا إليها في بدء هذه الدراسة.(23).
الباب الثاني: النص والحقيقة:
في الباب الثاني من الكتاب يتناول الباحث موضوعاً على درجة عالية من الأهمية والحساسية معاً، وهو موضوع (النص والحقيقة)، حيث (يعتبر النص الديني طريقاً للحقيقة، وكاشفاً لها. وهو يستقل بوجوده وكينونته وقيمته. بينما تتوقف صدقية النص على دليله ومدى كاشفيته).(24) وعلى هذا المنطلق تكون مصداقيته أمراً عقلانياً عندما يرتبط بالواقع. أو يرتبط بصحة المصدر أو المرجع كالحديث المتواتر مثلاً. أما عندما تكون صدقية النص الديني قائمة على الظن، فغالباً ما نجد من يرفضه في الوقت الذي نجد فيه أيضاً من يأخذ به من باب التدين. وهذا ما نجده عند فقهاء السنة مثلاً، فالحديث الظني عند ابن حنيفة لا يعتد به كثيراً، بينما هو عند الحنابلة حتى ولوكان ضعيفاً له مصداقيته المطلقة، وهو عند ابن حنبل أهم من الرأي. وإذا كانت قضية القبول أو الشك أو الرفض، واردة في قضايا الشريعة عند المتدينين، فهي غير مقبولة في العقائد، كما يقول الباحث. أما عند الباحث العقلاني المحايد. فالحقيقة نسبية مالم يبرهن على صحتها الواقع.
إن المنهج الديني في تقصي الحقيقة لا ينتج حقيقة كاملة، فالحقيقة تظل نسبية مالم يبرهن عليها. وما دامت مقررة سلفاً في ذات النص، فهو منهج قائم على الايمان والتسليم لا على الدليل والبرهان. (25).
الحقيقة والايمان:
يقول الباحث في هذا الاتجاه: (ثمة نتيجة مهمة تترتب على ثقافة المتلقي وقابلياته في وجود الحقيقة النسيبة). (26) . بل إن النتيجة هذه تترتب على درجة إيمان المتلقي والظروف المحيطة به، والموقف المذهبي والسياسي الذي ينتمي إليه. ومع ذلك فوحدة الايمان لا يمكن أن تشكل دليلاً على صدق الايمان ومطابقته للواقع. بل تكشف عن بنية العقل ومشتركاته في مدى صدق هذه القضية أم لا. فالإيمان المشترك لا يدل على مطابقته للواقع. بل تحتاج صدقيته كما أشرنا أعلاه إلى أدلة وبراهين. وهذا ما يؤكد الفهم العقلاني للآية الكريمة. (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) الفرقان – 73.
إن القرآن في جوهره يحث على البرهان والنظر وتحكيم العقل واستدلالاته. (27).
الحقيقة الدينية ونسبية الهداية:
ما أكد عليه الباحث إذن، هو أن إطلاق الحقيقة بشكل عام يتوقف على مدى مطابقتها للواقع ووجود الأدلة وبراهين حسية وعقلية عليها.
أما الحقيقة الدينية فتستمد وجودها من إيمان الفرد ومستوى وعيه وثقافته التي تختلف باختلاف منشئها. ومع ذلك هي نسبية باستثناء ما دل الاستنتاج المنطقي على وجود خالق لهذا الكون. وكل ما عدا ذلك كعوالم الغيب والمعاد . والكرامات. ويقدم الكاتب الكثير من النماذج الروائية دعماً لموقف الفكري والمنهي هنا. (28).
إن إيمان الباحث بنسبية الحقيقة، يدفعه لتأكيد نسبية الهداية. والهداية عنده (تعني الإرشاد. هديته أي أرشدته. دون تحديد الغاية او القصد) .(29). وقد جاءت الهداية في النص الديني مطلقة (إهدنا الصراط المستقيم)، وهي توحي بدلالات خطيرة في الكثير من مواقعها في العقل التراثي. كقول الحديث: (فإنما أصحابي مثل النجوم، فبأي اقتديتم اهتديتم). فالرواية هنا أعطت مصداقية تصل إلى درجة العصمة للبشر، والنص القرآني لم يمنحها لأحد. وعلى هذا الأساس جاء الموقف السلفي من التراث فيما بعد، حيث اعتبرت المرحلة التاريخية للصحابة هي مرحلة مقدسة وصادقة بكل ما فيها فكراً وممارسة، وبالتالي كل جديد يخرج عن معطيات هذه الفترة هو بدعة، وكل بدعة ضلالة، وهذا الموقف القائم على الهداية المطلقة نجده عند الشيعة أيضاً عندما اعتبروا أن الولاية بالنص اولاً، وإن آل البيت معصومون ثانياً.
الحقيقة العقائدية ودور التراث في ترسيخها:
بقول الباحث والمفكر الغرباوي لقد لعب التراث دوراً هاماً وخطيراً في تشييد وبنا الهيكل العام للمسألة الطائفية والمذهبية الدينية بشكل عام، والإسلامية منها بشكل خاص. حيث انتشرت وبعمق في بنية السلطة والمعارضة معاً. (30).
إن النص القرآني واضح في مقاصده العقيدية والتشريعية. فهي مقاصد عامة ترتكز كما بينا في موقع سابق على الايمان بالله وكتبه ورسله واليوم الاخر ونشر العدل والمساواة وإحقاق الحق في الدفاع عن العقيدة والأرض والعرض والنفس والملكية. بيد أن هذا النص عبر وجوده التاريخي راح يؤول ويفسر وفقاً لمصالح السلطة والمعارضة معاً، وهنا راح النص يميل في دلالاته كما يريده ألذين في قلوبهم زيغ. حيث لم يتوان الكثير من الذين اشتغلوا على الدين أن يضعوا الكثير من الأحاديث التي تمجد هذا الخليفة أو ذاك، أو هذه القبيلة أو تلك. بل إن الكثير من الآيات القرآنية راحت تؤول وتفسر للخدمة ذاتها. بل تفاقم الأمر عند بعض المذاهب إلى اعتبار قول الإمام ذاته نصاً مقدساً (العصمة) لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه. وعلى هذا الأساس يركز الباحث على أهمية إعادة قراءة التراث ونقده والعودة به إلى مربعه الأول بعد أن استطال وأصبح وسيلة أكثر من كونه غاية تهدف إلى مقاصد الدين الحقيقة. وعلى هذا الأساس خصص الباحث عنوانا خاصاً بأهمية النقد العقلاني ودوره في الوصل إلى حقيقة التراث وغربلته من كل الشوائب التي علقت به تاريخياً بسبب مصالح الفئات الحاكمة أو المعارضة معاً. (31).
ونظراً لخطورة التأويل في النص التراثي يركز الباحث على خطورة هذه المسألة منطلقاً من منهجه الفكري العقلاني النقدي الذي يعتبر أن القراءة التأويلية للنص تقيم علاقة جدلية بين معرفة النص ذاته بكل حمولته ودلالاته، وبين القارئ لهذا النص، أو المؤول لهذه الحمولة المعرفية ودلالاتها. وعبر هذه العلاقة لا يستطيع النص التراثي أن يحافظ على مركزيته وقوته وسيطرته ومعرفته المطلقة، وإنما أمام سلطة معرفة القارئ أو الناقد تنهار هذه السلطة المركزية للنص، وتتفتت كما يقول الباحث الغرباوي، وبالتالي أمام هذا التحطيم لمركزية النص المعرفية، تتشكل معارف جديدة ربما تناقض تلك المعارف الكامنة في النص أو جزءاً منها بما يتفق ومصالح المؤول والمتلقي معاً وفقاً للمرحلة التاريخية المعيوشة. وهذا هو دور النقد في الحقيقة للنص التراثي ووظيفته. فالنقد العقلاني المحايد وحده هو الذي سيعيد قراءة النص التراثي وتخليصه من كل الشوائب التي علقت به تاريخيا، من أوهام وأساطير واحتكار للحقيقة وتقديس، وبالتالي تحرير كل العلقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وخاصة في شقها الديني المتعلقة به.(32).
يتبع في الحلقة القادمة
د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سورية