أقلام فكرية
أمجد نجم الزيدي: تنكّر الواقع وخيانة المثال.. الديستوبيا كوعي ثقافي مضاد

يتحوّل النص الأدبي، حين يُثقل بكوابيس المستقبل، إلى ما يشبه نداءً داخلياً يتجاوز حدود اللعب الجمالي، ويتلمّس في الخيال وسيلة لمواجهة شعور دفين بالخسارة، وقلقٍ يتنامى إزاء ما هو آت، فالدافع إلى الكتابة في هذا السياق لا يبع من الرغبة في إنتاج عالم متخيل مستقل، بل من رغبة ملحّة في مساءلة الواقع وكشف اختلالاته، لا بوصفه ما هو كائن فحسب، بل ما يمكن أن يكون، إذا ما استمرّ مسار العالم في منحدره الراهن.
لذلك يغدو الأدب الديستوبي (The Dystopian Literature) شكلًا من أشكال المقاومة السردية، حيث تتقاطع المخيلة مع النقد الاجتماعي لتنتج رؤية مغايرة للواقع، وكما يوضح إم كيث بوكر(M. Keith Booker)، في كتابه (الدافع الديستوبي في الأدب الحديث: القصة كنقد اجتماعي)، أن (تناول المجتمعات المتخيلة في أبرز روايات الديستوبيا لا ينفصل، في جوهره، عن قضايا ومجتمعات واقعية بعينها، إذ تبقى هذه الأعمال وثيقة الصلة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بوقائع "العالم الحقيقي") وعليه، فإن تخييل المستقبل في هذا الأدب لا يُعدّ انفصالاً عن الحاضر، بل هو تكثيف لأزماته، وإعادة قولبته في صورة كابوسية تُظهر بشاعة ما يُنظر إليه عادة كمألوف أو حتمي.
يستند الأدب الديستوبي إلى تقنية أساسية هي (نزع الألفة؛ فمن خلال تركيزه النقدي على بيئات متباعدة زمانياً أو مكانياً، يتيح إمكانية النظر إلى ممارسات اجتماعية وسياسية إشكالية، من زوايا جديدة، والتي قد تبدو، في سياقاتها المألوفة، طبيعية أو حتمية أو غير قابلة للمساءلة)، وبهذا، لا يعود "الخيال" انفصالاً عن الواقع، بل يصبح الأداة التي يمكن من خلالها تفكيك هذا الواقع، وفضح ما يختبئ فيه من آليات إخضاع وتسليم.
هذا التوتر بين الحلم واليقظة، بين الكمال المرغوب والكارثة الممكنة، هو ما يجعل من الديستوبيا شكلًا مضاداً لليوتوبيا من حيث البنية، لكنه غير مفصل عنها من حيث الوظيفة. فكما يشير بوكر، فإن المفارقة الكبرى في أدب الديستوبيا تكمن في أنه (قد يُشكّل تصحيحاً ضرورياً) للميل اليوتيوبي، بما هو تنبيه دائم إلى ما يمكن أن يحدث حين تُفرض الرؤى المثالية كوقائع نهائية مغلقة، فتتحول إلى أدوات قمع واستبداد، وهذا ما يدفع العديد من المفكرين إلى التحذير لا من استحالة اليوتوبيا، بل من قابليتها للتحقق، إذ يرى إليوت أن (اليوتوبيا كلمة سيئة اليوم، ليس لأننا يائسون من إمكانية تحقيقها، بل لأننا نخشاها. لقد أصبحت اليوتوبيا نفسها (وفقاً لمعنى خاص للمصطلح) هي العدو).
بهذا المعنى، لا تتعامل الديستوبيا مع المستقبل بوصفه زمناً مفترضاً، بل بوصفه صورة مضخّمة لما يحدث في الحاضر، وقد بلغ مداه الأقصى، إنها تُعرّي حاضراً ملوثاً تحت الأقنعة، وتُظهر كيف يمكن لأحلام العدالة والمساواة والقيم الإنسانية السامية أن تنقلب، إذا أُديرت من داخل منظومات مغلقة، إلى أدوات لتكريس الطاعة وتدمير الفرد، وسقوط القييم، وهذا ما تؤكده أبرز الأعمال الديستوبية، واللافت أن كثيراً من هذه النصوص تنبّهنا إلى أن أخطر أشكال الاستبداد ليست تلك التي تُمارس بالقوة الصريحة، بل التي تُمارس من خلال الإقناع، أو حتى عبر الاستبطان الطوعي، لذلك يكتسب مفهوم "الرضا الشعبي" بعداً مقلقاً، إذ كما يقول بوكر(إذا كان لأدب الديستوبيا أن يُعلّمنا شيئاً، فهو أن التواطؤ الشعبي مع الأوضاع القائمة، أو الشعور بالرضا الجماعي، يُعدّ من أكثر الطرق المضمونة نحو الاستبداد)، فالخطر الأكبر لا يكمن في القمع الظاهر، بل في تواطؤ الجماعة مع منطق السيطرة، حين يصبح الاستعباد ذاته مقنّعاً على هيئة أمن أو رخاء أو انسجام.
ولأن هذا النوع الأدبي مشغول، في عمقه، بنقد النظام الرمزي الذي يؤسس للسلطة، فإن اللغة نفسها تتحوّل إلى ساحة صراع، فهي إما أن تُستخدم كأداة للهيمنة وإعادة إنتاج التبعية أو تُغدو وسيلة مقاومة واستعادة للذات. وهنا يُفهم لماذا تصبح الكتابة، في هذا السياق، أكثر من مجرد فعل فني،إنها فعل سياسي بامتياز، يُعيد ترتيب العلاقة بين الذات والعالم، ويستعيد للإنسان صوته في وجه آلة التماثل والرقابة.
وفي هذا الإطار، يلتقي الأدب الديستوبي مع الفكر النقدي المعاصر، الذي أظهر، منذ نيتشه وفرويد، أن النظام لا يُقوَّض فقط من خلال المواجهة المباشرة، بل من خلال التشويش على منطقه الداخلي، وكشف تناقضاته، وفضح لغته، ولذلك لا يمكن فصل هذا الأدب عن الأسلة التي طرحها مفكرون كأدورنو، وفوكو، وهابرماس، الذين رأوا أن أي طموح يوتيوبي، إذا لم يُراجع باستمرار، فإنه مُعرّض لأن يتحوّل إلى شكل من أشكال الهيمنة، وفي المقابل، فإن الفكر الديستوبي، بما يطرحه من تحذيرات، يظل ضرورياً من أجل (الحفاظ على أي إمكانية قائمة لحلم بمستقبل أفضل).
هكذا، لا تُعدّ الديستوبيا مجرد تصوّر أدبي سوداوي، بل استجابة ثقافية نقدية لانسداد الأفق، إنها لا تهدف إلى بثّ اليأس، بل إلى استعادة القدرة على التفكير في البدائل، لا عبر الحلم الساذج، بل عبر المواجهة المباشرة مع ما هو كائن، فالسؤال الذي تطرحه الديستوبيا ليس ما المجتمع المثالي؟ بل ما الذي يجعل المجتمع الراهن مُرعباً إلى هذا الحد؟ وكيف يمكن منع هذا الرعب من التحوّل إلى قاعدة؟ ومن هنا، فإنها تفتح باباً لا للهرب، بل للمساءلة، وللتفكير في ما يتطلبه الأمل من يقظة دائمة ووعي نقدي لا ينام.
***
أمجد نجم الزيدي