أقلام فكرية
شهرزاد حمدي: الْكِتَابَات الْفَلْسَفِيَّة الْجَزَائِرِيَّة في امْتِحَان الْبَكَالُورِيَا

قَوْلٌ في فِعْل الاقْتِبَاسْ والاسْتِئْنَاسْ
مُفْتَتَحْ إشْكَالِي: إنّ الكتابة هي الحِفَاظ والتَرْسِيخْ، وهي إثبات للوجود والإقرار بفَعَّاليته وحَركِيتِهِ، والحقّ في التفكُّر والفهم والتعبير عن المواقِف والآراء والتقديرات بالحُجّة والمِثَال. فَمَنْ يكتُب يُحْفَظْ، خاصّة إذا كانت كتاباته ذات وزن ثَقِيل من الجدّية والرَصَانَة والتَعْميق. وللكتابة كَمَا جَرَى الاتّفاق صِلَة وَثيقَة مُتبادلة التأثير مع القِراءة؛ إذ أنّنَا نَحْتاج أن نَقْرأ كيّ نكتُبْ ونَحْتاج إلى ما هو مكتوب كيّ نَقْرَأْ، وحقًا الكتابة والقِراءة تضمّ جميع أفعال العقل توظيفًا وتفعيلاً كالتفكير، التحليل، التركيب، النّقد، المُقارنة والاستنتاج (...).
ويتقدّم حقل الفلسفة كأبرز الحُقول الدافِعَة بالعقل إلى أن يَقْرَأَ ويَكْتُبَ، ما أنْتَجَ العديد من النُّصوص المُخْتَلِفَة اللّغات والمَشَارب والمناهج والموضوعات والغايات، فلِكُلّ نصّ قِصّة مَنْسُوجَة من معانيها البَيّنَة والمُتوارية. وبإعراض المُبالاة عن مَدَى قُوّة أو ضُعف، أغراض ومقاصد، تأصيليّة أو تكراريّة، استئناف لِمَا سَلَفْ أو قَطيعَة هذا النصّ أو ذاك، تُعَيّن النُّصوص كوعاء حامِل للكثير من الدلالات وزاوية من زوايا النَظَر إلى العالَم. ومن بين هذه النُّصوص نَجِد تِلك التي يكتُبها الباحث الجزائري في بُحوثه الأكاديميّة العِلّمية على سيرة التخصيصّ والضَبطّ. ومن أوجه الاعتراف بهذه النُّصوص وتقديرها، اعتمادها في الامتحانات والمُسابقات، وقد جاءت بكالوريا 2025م بالجزائر لتَشْهَدَ توظيف كتابات جزائريّة في امتحان مادة الفلسفة، وتضرب تكهُّنات الموضوعات وعقلية التوقّعات عُرض الحائِط، ومنه فإنّ الإشكال الرئيسي الذي نطرحُه ونحنُ نُقارِبُ هذا الموضوع تحليلاً ونقدًا، ماهي القيم التي كَشَفَ عنها امتحان مادة الفلسفة في بكالوريا 2025م والدروس التي ينبغي استخلاصها ضِمنَ مُحاولتنا في صياغة قول في فِعل الاقتباس والاستئناس؟
1- الفلسفة والمُقْترح: جدل التصديق والتكذيب
تُصَنَّف مادة الفلسفة كإحدى أهمّ المواد الأساسيّة التي يُمْتَحَنْ فيها تلاميذ شُعبة الآداب والفلسفة؛ حيث يُقدّر مُعاملها بستّة وهو رقم مُرتفع يُمكِّن من تحصيل نتيجة جيّدة أو مُتدنّية في المُعدّل العام قِياسًا على العلامة المُحَصّل عليها. والحقّ أنها مادة مُهِمّة كذلك بالنِسبة لبقية الشُعب خاصّة لِمَنْ يطمح ويطمع سَعّيًا لتحقيق مُعدّل عالٍ. ومن الجديد الذي أضحى قديم بسبب انتشاره وتحوّله إلى ظاهرة تمثّلت في حملة التوقّعات والترشيحات التي يُمارسها البعض من أساتذة الدروس الخُصوصية، مِمَّا جعل الحال يسوء إضافة إلى ما هو جاري من مشاكل؛ حيث أصبح التلاميذ يُغادرون مقاعد الدراسة في الربيع ويلتحقون بمقاعد أساتذة خارج القسم والمُراهنة على مجموعة من المقالات أو الموضوعات والذهاب بها يوم الامتحان. وقد يحصُل أن يصدُقَ توقُّعًا من التوقّعات وليسَ هذا من قَبيل الفلاح العِلمي والفلسفي وإنّمَا صُدفة أو حُسن حظّ وتوفيق ترشيح.
لتأتي بكالوريا 2025م وتَقْلِبَ الموازين وتُثير ضَجّة واسِعة؛ إذ لم يصدُق صِدقًا واقعيًا ولا اقتراح من الاقتراحات والمُحتملات التي تَغَنَّى بها فِئَة من أساتذة الدروس الخُصوصية ورفعوا بها سقف آمال التلاميذ في ضَمَانْ علامة جيّدة أو حتى مُمتازة في امتحان مادة الفلسفة. فَعَلَى حسب العديد من تصريحات التلاميذ أن موضوع الأخلاق لم يكُنْ ضِمن قائِمة المُنجّمِين وحتى موضوع الشعور واللاّشُعور، مِمَّا أثار موجة سُخط وانهيار لَدَى البعض منهم وحتى الأولياء وأشباه الأساتذة الدُخلاء على الفلسفة.
إنّ مسؤولية ما حدث تُعزى لعديد الأطراف وهي مسؤولية شامِلة، من ناحية أولى، تبتدئ في البدء بغِياب الضَمير الأخلاقي والمهني لفريق من الأساتذة الذين يُزاولون حرفة التدريس الخُصوصي، فحَسّبُهم مُنجّمون لَسْنَا ندري، ظَنَّا منهم أنها طريقة لجذب التلاميذ في حين هي خيانة أمانة وتضييع جيل، فنحنُ لَسْنَا ضِدّ دُروس الدعم ولكنّنا ضِدّ عقلية التكهُن، وما أضرّ بالفلسفة إلاّ قريبها، سواء منها كمُشْتَغِلَة بتِكرار أو منها كمُسْتَرْزِقَة بانتفاع فردي.
ومن التَبِعات المَرضيّة والآثار السلّبية النّاتِجة عن ظاهرة التكهّنات والأَمَرّ من ذلك المُرور إلى الإقناع بها وكأنهم هُم من يضعون الأسئلة، استفحال الحفظ الآلي من دون فهم عَميق ولا استيعاب مُتمكِّن للدُروس والمُشكلات المَطْروحَة، فيجد الأستاذ المُصَحِّح نفسه أمام مجموعة كبيرة من الإجابات المُتماثِلة وفي حالات مُتطابِقة حول الموضوع الواحد، ما يُفضي إلى رتابة رديئة ونَمَطْ من الكتابات الهَيّنَة والوَاهِنَة. ومن ناحية ثانية، تعود المسؤولية إلى التلاميذ المُعلّبة عُقولهم، بنفسيات هَشّة وشخصيات ضَعيفة تنساقُ وراء كلّ شيء بِمَا في ذلك من تفاهات وطُرق مُؤدّية إلى الخُسران. هؤلاء التلاميذ ويا للآسف ينجرفون خلف أيّ تيار يوهِمُهُمْ بأنّهم سيتحصّلون على علامة من قَبيل تقدير: جيّد جدًا أو مُمتاز وبالتالي النجاح في المادة حليفهم ونيل الشهادة في أفُق الإمكان السهلّ.
لماذا لا تتمّ مُراجعة وفهم واستيعاب جميع الدروس المُقَرَّرَة؟ ما الفائِدة من عقلية الترشيحات التي هي عبارة عن ضغط نفسي لا أكثر في أن تصدُق أو لا تصدُق؟ لماذا يُغادر البعض الأقسام مُبكِّرًا؟ لماذا يتعاملون بنوعٍ من الاستهتار والاستهزاء بامتحان البكالوريا التجريبي؟
مَتَى يُدرك التلاميذ أن ما يُسمّى بالتوقّعات تحمِل بُذور انهيارها في ذاتها، وتحمِل في طيّاتها مُفارقتها؟ نقول: مِنَ المُتوقّع أن يكون هذا الموضوع أحد موضوعات الامتحان، ونقول أيضًا: مِنَ المُتوقّع أن لا يكون هذا الموضوع أحد الموضوعات التي سنُمْتَحَنْ فيها، والنتيجة أن المُتوقّع معناه إمكان الوجود أو الحُدوث وإمكان العدم أو الغياب.
ومن ناحية ثالثة يتحمّل الأولياء جُزء من المسؤولية، لماذا يُوافِقُون على هذا الوهم؟ وعلى هذه المهزلة؟ وعلى هذا المُنْكَرْ الفلسفي الحاصِل؟ كان حريٌّ بهم نُصح أبنائِهم وتوعيتهم ودعوتهم بحِرص ومُتابعة مُسْتَمِرَة إلى ضرورة الانتباه إلى أستاذ القسم والاستفادة من أستاذ الدعم مع مُراجعة جميع الموضوعات وتفاصيل البرنامج المُسَطّر من طرف الوزارة الوَصِيَّة والابتعاد عن أجواء المُحتملات وأشخاص التكهنات.
وخِلال رحلة التوقّعات هذه تَبْرُز جدلية التصديق والتكذيب يوم الامتحان، ولا شيء محسُوم أو مضمون العاقِبة الحَسَنَة إلاّ من اجتهد وأحسن عَمَلاَ، ولهذا يجب على تلاميذ البكالوريا استخلاص الدروس والعِبرْ، بالاستعداد ذهنيًا ونفسيًا والتحضير بجدّية والتركيز بقُوّة يوم الامتحان وقبل ذلك الإحاطة الشَامِلَة بموضوعات ومُشكلات المادة. كمَا يُقترح إعادة النَظَر في برنامج المادة الذي جاء طويلاً ومُرْهِقًا على حَسَب بعض الآراء والتصريحات.
2- أهميّة تحليل النصّ والبحث عن سبب عُزوف التلاميذ عنه
يتجلّى النصّ ككيان من المعاني والأفكار والتصوّرات، وهو يُمثِّل عالَم من الإيحاءات والدلالات، تَتّصِل بالبيئة الثقافية والاجتماعية والتاريخية والمعرفية المُشكِّلَة له وأيضًا بنسيجه اللغوي. ولهذا تَعَين النصّ كأحد أهمّ محاور اهتمام العديد من المدارس على غِرار البنيوية والتفكيكية، لدرجة أنه قيل: لا شيء خارجه.
وضِمن السياق التربوي، بالتحديد شأن البكالوريا في الجزائر يكون النصّ دائِمًا هو الموضوع الثالث بعد موضوعي الجدل أو المُقارنة، أو الاستقصاء بالوضع أو بالرفع. وتتحقّق قيمة النصّ بالنِسبة للمُتلقّي الباحث والمُحَلِّل له تشريحًا وبِناءً أنه يُمثِّلُ التقاءً مُباشرًا مع الأفكار والرؤى والمواقف ما قد يُولِّدُ تفاعلاً حيًّا حراريًا من خِلال قِراءات وتحليلات مُتوالدة، كمَا أنه يُمكِّنُ الدارس له من التعرّف على النزعة، التيار، المنهج والمذهب الموصولة بالكاتب. ويُشكِّلُ النصّ لحظة آنيّة من النِّقاش والمُدارسَة مع العودة إلى الأفكار المُكتَسَبَة ذات الصِلَة به. يُضاف إلى كون النصّ شبكة من المفاهيم والتصوّرات والدلالات منها ما هو ظاهري ومنها ما هو مُتواري، ما يدفع بالباحث إلى استنطاقه وإزالة ذلك الحُجُب والإبانة عنه بالمُعاينة والتحليل والنّقد. ولقد أبان الراحل الأستاذ الجزائري "محمود يعقوبي" (1931 - 2020م) عن أهميّة تحليل النصّ وخُطواته ودعوته إلى تدريب التلميذ على الاشتغال عليه، في كتابه: أصول الخِطاب الفلسفي (مُحاولة في المنهجية)، بالتحديد في الفصل الثالث عشر: "مُعالجة النُّصوص".
ومن المُلاحَظ على اختيارات التلاميذ أثناء الإجابة في امتحان مادة الفلسفة في البكالوريا في جميع الشُعب وبالأخصّ في شُعبة الآداب والفلسفة، نُفورهم وعُزوفهم عن مُعالجة الموضوع الثالث الذي يأتي دائِمًا مطلوبه في مُعالجة النصّ في شكل تحرير مقال عنه. وتختلف الأسباب والمُبرِّرات من طرفهم، فمنهم من ينحو مَنْحَى القول بصُعوبته ومنهم من يقول بغُموض أفكاره وخشية الفهم المغلوط لمضمونه، ومنهم من يُسوِّغ عدم اختياره لتحليل النصّ بمُسوِّغ أن الأساتذة المُصحِّحون لا يضعون علامات جيّدة عند تصحيح المقال المَنْسُوج حول أفكاره. وهكذا دَرَجَ على الألسُن وترسّخ في الأذهان أن تحليل النصّ مُغامَرة، لا يلجأ إليه إلاّ من يفتقر للأفكار والحُجّج بخُصوص الموضوعين الأوّل والثاني.
3- بَيَانٌ لقيمة الاعتماد على نُصوص فلسفيّة جزائريّة أو في ثَمْرَة النصّ المحلي
مِنَ الجدير بالطرح والاعتزاز ما شَهِدهُ امتحان الفلسفة في البكالوريا لهذه السنة، من اقتباس نُصوص فلسفيّة جزائريّة والاستئناس بها، بالضَبطّ في الموضوع الثالث "تحليل نصّ"؛ حيث تمّ الاعتماد على نصّ من كتاب: مدخل إلى الفلسفة العامة للأستاذ "عبد الرزّاق بلعقروز" (1981م) في شُعبة الآداب والفلسفة، ونصّ من كتاب: فلسفة الثورة الجزائريّة للأستاذ المرحوم "البخاري حمانة" (1937 – 2018م) في شُعبة لغات أجنبية وفنون، ونصّ من كتاب: مُشكلات فلسفيّة ونُصوصها للأستاذ "محمد شوقي الزين" (1972م) في شُعبة علوم تجريبية ورياضيات. هي عودة لِمَا يكتُبُه العقل الجزائري وما يطرحه بالتحليل والنِّقاش والنّقد، عودة اعتراف وتثمين للجُهود الجزائريّة، ودعم وتشجيع للإقبال على القِراءة والكتابة وإثبات الوجود الفَعَّال، وقيمة العِلم والمعرفة والفلسفة في عَمَلية البِناء الحضاري والإنتاجية التي تُغَيّر وتُعَمِّر، للأحسن وبالأحسن.
يكشِف هذا الفِعل الاقتباسي والاستئناسي من قِبل لجنة صياغة الأسئلة عن وجود درجة مُعتبرة من الوعي والإدراك بقيمة النصّ المحلي وثِماره التي تظهرُ في توظيفِه في امتحان رسمي كالبكالوريا. والأمر الإيجابي المُضاف، أضحى الاهتمام بكتابات وجُهود روّاد الدرس الفلسفي الناشِطين اليوم، في حين كُنَّا سابِقًا نلحظ نُصوص فلسفيّة جزائريّة تَرِدُ في امتحان رسمي لكُتّاب وأساتذة قد غادرونا؛ أيّ أدركهُم الموت. ويَبْرُز الدور المُحرّك والفاعِل، الإغنائي والإنمائي لهذا الاهتمام بوصّفِه تفاعُلاً مع حركية الزمن المُعاصر، وارتباط بمضمون نصّ قد يكون مُواكِبًا لتحوّلات نماذج الفهم والتفكير، ولنقد الأسُسّ وتغيّر مبادئ النَظَر إلى العالَم والمُستجدات العِلّمية.
إنّ الاستثمار في فِعل الاقتباس والاستئناس بتأليفات العقل الجزائري، له من الأهميّة الشيء الكَثير والوَفير من الفائِدة الناهِضة بالأجيال؛ إذ يُمكِّنُ من التعريف للتلاميذ وللمُتتبّع للشأن التربوي والفكري بوجود كُتّاب جزائريين لهُم مُدوّنات حَصيفَة المبنى والمعنى تستحِق أن تُدرَجَ كمادة عِلّميّة يُمتحنُ حولها. عِلاوة على هذا، يُسّهِمُ في تربية الناشِئة على مُعالجة النصّ المحلي والشُّعور بنوعٍ من الأُلفة والمُؤانَسَة والمُعايَشَة عقليًا ونفسيًا وكأنه يُعالجُ حدث أو قضيّة من عُمق واقعه، في حين قد يكون النصّ غريب المضمون مألوف المُؤلِّف. مع زرع حُبّ الانتماء فيه وقُوّة الارتباط وتقديره.
4- من النصّ إلى المَقُولَة: توسيع نِطاق الاقتباس والاستئناس
لا يقتصِر أمر اقتباس كتابات فلسفيّة جزائريّة والاستئناس بها في مادة الفلسفة ضِمن امتحان البكالوريا على الموضوع الثالث التي تكون دائِمًا مادته نصّ وغرضه تحليله، إنّمَا من خيرة الفِعل وضرورته أن يشمُل أيضًا الموضوعين الأوّل والثاني، اللّذان يأتيان في شكل مقولة يُطلَبُ مُعالجتها في مقال سواء بطريقة الجدل أو المُقارنة أو الاستقصاء بنوعيّه. وللمقولة حظُّها الإيجابي مثل حظّ النصّ، فهي من جهة "عبارة" تَسْتَفِزُ العقل للتفكير فيها وفي كيفية مُعالجتها تحليلاً وحُجّة ونقدًا. ثُمّ إنه لَمَّا يتمّ التعبير بصيغة: يقول، يرى، يذهب، يعتقد، ليكون المطلوب الدِّفاع أو الإبطال أو المُقارنة أو التجديل، فإنّ في الصيغة إنساب وتعيين لصاحب المقولة وإشارة مُباشرة له. بينمَا مع النصّ لابُدّ من قِراءة معلومات الاقتباس حتى يعْلَمَ المُترشِّح أن الكاتب جزائري.
5- تعميم الإجراء على كافة الامتحانات ومُختلف أنماط الكتابات
يبعثُ فِعل الاقتباس والاستئناس بِمَا يكتُبُه العقل الجزائري على الثِقة ويدفع كلّ شخصّ يبحث ويُمارس الكتابة الجادّة والمُثْمِرَة ويتحرّى التعميق والتدقيق، يجتهِد في أن يكون مُبدِعًا ويجترح الجديد والمُختلف من دون ترك أو رَسمْ قَطيعَة مع المُؤتلِف، يتفاعل مع الراهِن والعصر ولا ينسلِخ من الماضي والأصل، يُراجع قناعاته وأفكاره مُراجعة مُنفتِحة ومُؤسَّسَة على قُوّة الحُجج والأدلّة العِلّمية والمنطقيّة. ولهذا تتقّرّر ضرورة تعميم الإجراء على كافة الامتحانات من امتحان البكالوريا والامتحانات العادية على مُستوى كلّ ثُلاثي، وامتحانات الجامعة وامتحان الدكتوراه. فالوضع بِحاجة إلى استنفار جُهود وتكاثُف مساعِ حتى يغدو تقليد من تقاليد الامتحانات الجزائريّة. كمَا ويُشار على جَنَاح الاستحقاق أن ذلك الفِعل لا يتوقّف على الكتابات الفلسفيّة بل يَطَال النُّصوص التاريخيّة والاجتماعيّة والأدبيّة والثقافيّة وغيرها، ويُمكن تحقيق هذا التوسُّع أكثر في امتحان مُسابقة الدكتوراه.
6- متى وكيف نَقْتَبِسْ ونَسْتأْنِسْ؟
لَيْسَ كلّ نصّ يستحِق الاقتباس والاستئناس به بِصَرَفْ النَظَر عن اسم صاحبه ولقب كاتبه، بصيغة أخرى لا تُوفِّر كلّ النُّصوص ما يُؤهِّلُها لكيّ تكون مادة للامتحان، وكمُحَصِّلة لهذا الإقرار يستلزم حُصول جُملة من الشُّروط التالية:
- مَدَى توافُق أو على الأقلّ قَرابَة مضمون النصّ مع مُقرّرات الدروس والمُشكلات التي درسها التلميذ خِلال السنة.
- مُراعاة المُستوى والفُروقات الفردية في اختيار النصّ.
- وضوح الكلمات والأسلوب؛ أيّ البَسَاطَة العَميقَة.
- أن يكون النصّ مُكتمل الأركان، بحيث يحتوي ما يُمكِّن من طرح المُشكلة، تحديد موقف صاحب النصّ، الحُجج (...) إلخ.
- أن يكون النصّ قوي المباني والمعاني، ما يستفز العقل ويدفعه إلى التفكير فيه تحليلاً وحُجّة ونقدًا.
- اقتباس النُّصوص المُكْتَمَلَة ولَيْسَ المُجَزّأة إلاّ ما حُذِف من الشرح الزائِد والعبارة الطويلة المُرهِقَة والتكرار غير الضّروري الإبقاء.
- المُوازَنَة بين الأفكار المُكتسَبَة في العام الدراسي وبعض الأفكار المُستجدة من دون تجاوز معارف التلميذ، على مِنوال المِثال: نصّ حول مصدر الفِعل الأخلاقي ويتضمّن أفكار تتحدّث عن ما بعد الأخلاق.
- المُوازَنَة بين النُّصوص القَديمَة والنُّصوص الجَديدَة.
- أن لا يحتوي على تحيّزات إيديولوجية فاضِحَة، بل يكون نصًّا عِلميًا موضوعيًا.
- أن لا يُكرِّسَ لثقافة ماضوية مُنغلِقَة ولا لثقافة مُعاصرة مُنسلِخَة.
- أن لا يحمِل إيحاءات تشجيعيّة على العُنف والخِلاف والنِّزاع والتعصّب.
- أن لا يكون نَصًّا للمُجاملة والتعظيم والتقديس الأعمى سواء لكتابات الفكر العربي والإسلامي أو لكتابات الفكر الغربي.
- الابتعاد عن منطق الجهويّة في انتقاء النُّصوص بِمُوجَبْ فِعل الاقتباس والاستئناس، والعَمَلْ بمنطق الكِفايَة والاستحقاق فقط.
7- بين الكتابات الجزائريّة وخُطوات تحليل النصّ الفلسفي: عَقَبَات وتَحَدّيات
مِنَ المُتَداول منهجيًا أن خُطوات تحليل النصّ الفلسفي تكون كالتالي:
أ- مُقدِّمة:
- تمهيد وظيفي.
- الإطار الفلسفي للنصّ (الإشارة إلى مبحث النصّ).
- مُناسَبَة كتابة النصّ وتحديد المُشكلة.
- طرح المُشكلة في صيغة استفهامية.
ب- العرض والتحليل:
- توضيح موقف صاحب النصّ (آرائه وتقديراته).
- استخراج الحُججّ والبراهين.
- النّقد والتقييم (مع الرأي الشخصي).
ج- الخاتمة:
- حلّ المُشكلة
لكن بعض النُّصوص المُقْتَبَسَة والمُسْتأنَسْ بها تطرح عَقَبَات وتَحَدِّيات، يُمكن إيجازها في عَقَبتيّنِ أو تَحدّيينِ.
تَتَجَسّد العَقَبَة الأولى في كون النصّ قد يرِدُ عرضًا لمواقِف ورؤى صاحبه وتقديراته وتحليلاته ووجهة نَظَرِهِ مع الحُجّة، وقد يكون عرضًا لمواقف غيره من دون بَيَان موقف واضِح للكاتب، مِمّا يُثير تَحدّي تحديد موقفه ومَدَى مشروعية نقده وتقييمه في الخُطوة الأخيرة من خُطوات العرض والتحليل. وأمّا العَقَبَة الثانية فَتَتَعَيّن في عدم معرفة صاحب النصّ من طرف المُمْتَحَنْ؛ أيّ عدم الإحاطة بطبيعة اشتغالاته وبُحوثه، تخصّصه واهتماماته على أقلّ تقدير بشكلٍ عام، ما ينجُمْ عنه تَحدّي ضَبطّ نزعة صاحب النصّ.
8- تَرْسِيخْ الجُهود الجزائريّة ودعم المُؤلّفِينَ والمُؤلَّفَات
ابتغاء تجاوز ما ذكرناه من عَقَبَات وتَحَدِّيات، سَطَرّنَاهَا في عَقَبتيّنِ أو تَحدّيينِ، يجب البدء قبل كلّ شيء بالتهيئة من أجل تحقيق التنمية على مُستوى الطور الثانوي، وذلك بإدراج محور يُمكن تَسّميتِهِ برُوّاد الدرس الفلسفي الجزائري ضِمن برنامج السنة الثانية والسنة الثالثة شُعبة الآداب والفلسفة. يحتوي في السنة الثانية على الشخصيات الفلسفيّة المعروفة الراحِلَة، مثل: "مالك بن نبي"، "كريبع النبهاني"، "عبد الله شريط"، "محمود يعقوبي"، "البخاري حمانة"، "البشير ربوح" (...) وفي السنة الثالثة على الشخصيات الفلسفيّة اليوم، مثل: "عبد الرحمان بوقاف"، "إسماعيل زروخي"، "الحاج أحمنة دواق"، "عبد الرزّاق بلعقروز"، "مصطفى كيحل"، "محمد شوقي الزين"، "نورة بوحناش"، "محمد جديدي"، "الدراجي زروخي"، "خديجة زتيلي"، "عمر بوساحة"، "ميلود بلعالية دومة"، "عنيات عبد الكريم"، "كمال بومنير" (...) والقائِمة تطول. ولَيْسَ شَرْطًا تقديم نُصوص جميع هذه الشخصيات ولكن على الأقلّ مُجملِها. وقد يقول البعض أن البرنامج طويل فكيف لنا أن نُضيف هذا المحور؟ حقًا، غير أنه يُمكِنُ التخفيف منه وإدراج محور رُوّاد الدرس الفلسفي الجزائري لأنّنَا بِحاجّة ماسّة إليه؛ إذ كيف نُقدِّم نَصًّا ونَتَغَنَّى أن من كتبه جزائري والتلميذ يجهل ذلك!
كمَا ينبغي تدريب التلاميذ على مُناقَشَة هذه النُّصوص ونقدها، لأنّنَا لا نُريد الإعداد لجيل يظُنّ أن النّقد إهانة، في حين هو كرامة تقديرية. هذا ويوجد مقياس "فكر جزائري" يُدرّس في السنة أولى ماستر تخصّص الفلسفة التطبيقية في الجامعة، لكنه غير كافٍ ومضمونه مُختزل.
وبالنِسبة للشُعب العِلّمية أيضًا، شُعبة العُلوم التجريبية وشُعبة الرياضيات، فَكَمٍّ من فلاسِفة هُم في الأصل عُلماء في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب، وكذا شُعبة التقني رياضي وشُعبة التسيير والاقتصاد وشُعبة اللغات الأجنبية وشُعبة الفنون، يجب التعريف بالمُدوّنات الفلسفيّة الجزائريّة وأصحابها.
نقترِح إقامة ندوات ولِقاءات بشكل دوري للتلاميذ، تكون فُرص حقيقية للتوعية بوجود كتابات في الفلسفة من العقل الجزائري ومُؤلِّفِيهَا، من طرف أساتذة مادة الفلسفة (الثانوية) بالتعاون مع أساتذة تخصّص الفلسفة (الجامعة). ودعوة الأساتذة الذين يُدرّسون مادة الفلسفة إلى السَّعيّ خِلال حصص الدروس والتطبيق في فتح أذهان التلاميذ على جُهود الجزائري وإسهاماته الفلسفيّة، وإلى الاقتباس من هذه الإسهامات والاستئناس بها في امتحانات الثلاثي الأوّل والثاني والثالث وتقديمها كمادة ضِمن الواجبات. بالإضافة إلى دعوة وزارة التربية والتعليم إلى إنشاء ديوان وطني للمطبوعات الفلسفيّة الجزائريّة ينشُر كتب تضمّ نُصوص فلسفيّة مُختارة مع فسح المجال لكلّ نصّ جادّ وقيّم ومُثْمِر، وكتب تتضمّن مقولات فلسفيّة مُختارة، مع التشجيع على المُشَاركة في تأليفها.
خاتمة:
في خِتام هذه الورقة التفكّريّة التي تناولت بالتحليل والنّقد والأشْكَلَة أفكار أساسيّة ضِمن موضوع توظيف الكتابات الفلسفيّة الجزائريّة في امتحان البكالوريا، وأرادت تحرير قول في فِعل الاقتباس والاستئناس، نُدرِكُ باقتناع قيمة النِّقاش الحَيّ الفَعَّال والمُنفتِح بالعقلانيّة والنّقد على الواقع حول هذا الموضوع الذي لا يُمكِنُ اعتباره حدثًا عابِرًا ولا سِّمَة مُمَيّزة لبكالوريا 2025م فقطْ، إنّمَا الأجدر والأصوب التفكير فيه بِجِدّية وبذهنية إنْمَائِيَة من أجل إنصاف كلّ الشرائِح المَعْنِيَّة من تلاميذ، أساتذة وأصحاب النُّصوص والنُّصوص ذاتها. وإذ نُؤكِّدُ مرة ثانية على الأهميّة المُتوالدة معرفيًا ومنهجيًا لتحليل النصّ وعلى ضرورة رِعايته رِعاية مُثَوِّرة لدلالاته وتدريب التلاميذ تدريبًا مُتمِكِّنًا مُنْتجًا، وإكسابه الآليات الصَحيحة في التعامُل مع النُّصوص. كمَا لا يفوتنا التنويه إلى القيمة العِلمية والفلسفيّة والرمزيّة لاعتماد نُصوص من مُؤلّفات جزائريّة، فَمَنْ لا يُقدِّر ذاته تقديرًا سَويًّا لإنجازاتها ومُتَعَلِّمًا من زلاّتها سَائِرًا دومًا نحو النُضج أكثر بعيدًا عن التقدير التعظيمي العَليل، لن يُقدِّره غيره، ففي سياق البِنَاء الحضاري لابُدّ من التدافُعْ والتنافُسْ.
وبعد نِهاية المَطَاف والخِتام، تتجدّد المُسَاءلَة: هل يكفي أن يكون صاحب النصّ جزائري الانتماء حتى نقول هذا نصّ جزائري؟ ماذا عن شُّروط الإنساب والتأصيل؟ وهل كلّ نصّ يتحدّث عن الفلسفة أو عن مواقف فلاسفتها وطُروحاتهم نقول عنه نصّ فلسفي؟
***
د. شهرزاد حمدي - تخصّص الفلسفة العامة
جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر