أقلام فكرية
سامي عبد العال: تأويل النعال (7)
"عندما يغفو الواقع، توقظ أدمغتنا كل أحلامه التي تراقب الأشياء والكائنات ..."
وردَ فيما قاله ابن سيرين بصدد تفسير الأحلام: " إنْ رأى أحدُكم في المنام أنّه مَلَكَ نعلاً ولم يمشِ بها، ملك مرأةً، فإنْ لبسها، وطيء المرأة. فإنْ كانت غير محذوة (غير مقطوعة)، كانت عذراء، وكذلك إنْ كانت غير محذوةٍ، لم تُلبس" (محمد بن سيرين، منتخب الكلام في تفسير الأحلام، اعتنى به ورتبه محمود طعمة حلبي، دار المعرفة بيروت- لبنان، الطبعة الخامسة 2002، ص 365).
هنا بيت القصيد وبيت التأويل في الوقت عينه، حين نستيقظ وحين ننام على إيقاع ما نعتقد. من الوهلة الأولى وبلا تفكير، يحدد ابن سيرين ارتباطاً ضرورياً بين النساء والنعال، جاءت العلاقة كأنّها علاقة شرطية دون تأخُر. نتيجة هذا الحصر التأويلي لإتيان النعل دالاً على المرأة لا غير. فالإنسان يعيش داخل التأويل أكثر مما يعيش في الواقع، الإنسان كائن يدمن التأويلات على الأصالة.
ولكن الإشارة لا تخطئُها الحقيقة، إذا ما تأملنا مكانة المرأة في الثقافة العربية مقارنةً بوضع النعال. المرأة للباس والنكاح والوطء كأمور شائعة الدلالة والفكرة. تتراوح مكانتها مع النظر إليها عذراء أو منكوحة أو مملوكة لدى أحدهم. حتى أنّ إنساناً ينام، فيحلم، فيأتيه النعلُ إمرأةً وتأتيه المرأةُ نعلاً كما يؤكد ابن سيرين. التبادل الذي يفسر أوضاعاً اجتماعية وإنسانية كثيرة. لقد غدا الحلمُ مسرحاً ليلياً مفتوحاً للجميع، لدرجة أنَّ أصحاب الثقافة هم ممثلوه الفعليون وهم متفرجوه أيضاً. ويبدو أن المتفرجين هم الذكور والنساء معاً رغم التقليل من شأن المرأة. والحلم السابق له ثقل اجتماعي كبير كأنه " تأويل فوتوغرافي" يرسم التفاصيل الجسدية بين المرأة والنعال. فهما من جنس ثقافي واحد ومن نسيح يوضح الآثار الحسية عليهما!!
المفارقة أنَّ حلماً بهذه الصيغة هو نوم الواقع هامساً إلى نفسه بما يريد قوله في وضح النهار. بكلمات أخرى أراد الحلم تمرير الواقع وتبريره بمجمل أوضاعه، فما كان منه إلاَّ أنْ أصبح مسرحاً للإفضاء والقول الحُر. الحلم هو تخدير للوعي إيذانا بظهوره في إطار آخر، لكيلا تحدث استفاقة بصدد مكانة المرأة. فالحلم ستارة أخيرة، قبيل انكشاف الحُجب، الحلم طيفٍ يترجم ما نفكر فيه، وما تقوم به الثقافة من أفعال رمزية.
من طرفٍ آخر، غدت الأدمغة - كحاملةٍ لشفرات الثقافة- بمثابة الصندوق الأسود، إذْ يستحيل فك شفراتها إلاَّ ليلاً. الأدمغة تتحكم في كل شيء، الإنسان والمجتمع والحقائق، حتى بالنسبة لبيولوجيا الإنسان ذكراً وأنثى. والليل حياة في غياب النظر، في غياب القوانين، في غياب الآخر، في غياب القيم، في غياب الحدود الفاصلة بين الأشياء. هل رأيتم أحدنا يدخل دماغ الآخر وهو نائم، كي يُملي إليه ما يقول إعتراضاً أو إزدواجاً أو نقداً؟!!
ليس الواقع والحلم طرفين وكفى، كأنهما يلتقيان على شرف الثقافة اعتباطاً. لكنهما يحققان ما يصبوان إليه ويرسمان أدواراً خطيرة، ليس أقلها التبادل السري بين الفكر والحقيقة. فهو أحد أشكال المقايضة الثقافية: " أنْ يكون الحلم واقعاً وأنْ يكون الواقع حلماً ". ولعلَّ تبادلاً كهذا هو أعمق ما تمَّ في تاريخ المجتمعات البشرية وليست مجتمعاتنا العربية فقط. لقد خرجت من صلبه الأساطير والخرافات، وتولدت كذلك الحقائق والأفكار التي هيمنت على عقول الناس ردحاً من الزمان.
" الحلم واقعٌ والواقع حلمٌ".. هذا يثبت كيف تعبر المجتمعات عما تهجس به إلى ذواتها التاريخية. فحين يكون الواقع معبراً بكل قسوةٍ عما يضمر، سيكون الحلم فضاءً مخففاً إلى درجة الظلال. وإلّا ... ماذا ستفعل" المرأة الإنسان"، عندما تعرف أنها نعل قابل للوطء والخلع والارتداء؟! وأيُّ مصيرٍ ستراه يناسبها مع هذا المعنى أو ذاك؟ إنها مجرد شيء فارغ لتوّه من أقدامنا التى ملت إحتذاءه. إذاً.. فليكن وصف (المرأة بالنعل) حلماً. حلم هو تأويل ممحو للواقع، وتم إلقاؤه هناك من باب فتح مناطق المجهول في دماغنا الثقافي. كيف نتصرف مع الأحلام بعد ذلك؟ الاحلام تأتي هادئة، الأحلام تتسلل في غيبة الأشياء والناس، الأحلام تدخل إلى مخادعنا دون حراسةٍ.
فوق كل ذلك، ماذا ستكون الثقافة عندئذ التي تقابلنا في جميع تفاصيل الحياة؟ إنها ستمثل فراشاً وثيراً تزور عبره الأحلام أدمغة الأفراد. الثقافة هي السرير الذي يغط في طياته الناس غطيطاً لا استفاقة منه. وهذا ِبالفعل أقرب معنى للثقافة: أنْ تمثل نوماً عميقاً دون الشعور بقبضتها وهيمنتها بين النوم واليقظة. في تأثيرها، هي أقوى من أي شيءٍ آخر، وتشكل وجود الإنسان. ومن هذه الزاوية، تعد علاقات الأشياء في الحلم قيد التأويل وقد تكون من جانب اللغة قدرتنا على القول بأسلوب يروق لفاعلي الثقافة.
أطلقت الثقافة العربية على الأحلام" المنامات". والأخيرة تفكك- عن قصدٍ- علاقة الإنسان بالحياة مع الوهلة الأولى. المنامات تُغيّب وعينا لصالح الزائر ليلاً، كأنّه طيف لا أصل له. المنامات تتجول طليقة بطول المجتمع وعرضه، المنامات نافذة غير قابلة للاعتقال أو السجن بمكان ضيق. النوم لدينا ضد اليقظة، النوم على حافة الحياة، النوم سلطان لا خروج من هيمنته. والمنام (الحلم) مولود ما في العتمة داخل لا وعينا الجمعي.
ومن نتائج تأويل الأحلام أن كانت الأخيرة تحويلاً لكل ما يمثل قيداً في وضح النهار. لأن التأويل يخفف من وطأة الأشياء ويعطيها وسماً آخر. وسم من شأنه أن يمررها بكل أريحية.
1- المنامات ترمز إلى رفع الواقع عند الدرجة القصوى للحقائق.
2- المنامات تغيب بعض الحياة لصالح جوانب الأشياء والمعاني المتوارية.
3- المنامات لا أصل محدد لها، إنما تأتي اعتباطاً (مجهولة النسب).
4- المنامات مفعولات دون فاعل محدد.
5- المنامات مشتركة وبإمكانها أنْ تضم ما تشاء من عناصر وأشخاص.
6- المنامات أحداث وأعمال بلا آثار ولا عواقب.
7- المنامان أفعال من غير مسئولية حتى لا تكون هناك عواقب.
8- المنامات تخترق الحواجز والمحرمات أيا كانت.
9- المنامات امتداد لما يحدث في الحياة، ولكنها أحد أشكال ترويض الواقع.
10- المنامات تعيد تمثيل الحقائق بحسب مرجعيةِ الثقافة.
إن الحلم في ثقافتنا العربية هو ظلال الحقيقة، وقد تجلت بوافر حواشيها مقلوبةً أو مُجزأّةً أو ذات طابع مجازي أو تبادلي بين عناصر وأخرى. عليك أنْ تلملم بقاياها المتناثرة هنا وهناك، فالحلم لن يقول كل شيء بوضوح. الثقافة ستعطيك من هو متاح من أجل اصطياد غير المتاح، أي ستربط دلالة المرأة بدلالة أشياء أخرى. وستعقد الصلة بين مفردات بعيدة إلى حدٍ ما، ولكنها تلتقى بفضل التشابه والاختلاف جنياً إلى جنبٍ. هي اللعبة القديمة نفسها عندما كان الإنسان يضع طُعماً في الفخ بين أشجار الغابة لإقتناص فريسة ثمينة يشبع بها رغباته وغرائزه، ويظل خياله يحوم بعيداً متطلعاً لفرائس أخرى طوال الوقت.
يواصل ابن سيرين تأويل حلم النعال والمرأة كأنّه مسلمة أو يكاد فيما نراه بصيغة العيش. " إنّ النعل في المنام يدلُ على الضروب. فإنْ كانت النعل من جُلود البقر، كانت المرأة أعجمية الأصل. وإنْ كانت من جلود الخيل، كانت من العرب، أو من موالي العرب. والنعل المصنوعة من الفضة في المنام تدل على امرأة حُرة جميلة، والنعل المصنوعة من الرصاص في المنام تدل على امرأةٌ ضعيفة. والنعل المصنوعة من النَّار في المنام تدل على امرأة سليطة، والنعل المصنوعة من الخشب في المنام تدل على امرأة منافقة خائنة. والنعل السوداء في المنام تدل على امرأة غنيّةٌ ذاتُ سؤدد. والنعل المتلونة في المنام تدل على امرأة ذات تخليط" (المرجع السابق، ص 366).
تأويل حلم النعال هو تفسير ذكوري حتى النخاع. لم يكتف ابن سيرين بإيراد المماثلة بين النعل والمرأة، بل أصر أن تكون هناك توجهات معبرة عن "ذكورية الأحلام". وقد أعطت تأويلاً للعلاقة بين مادة النعل والمرأة، وثمة كذلك حمولات ثقافية تم تفريغها عن طريق التأويل ستوضح العلاقة بين الطرفين.
البيئات التي تأتي منها جلود الحيوان لصناعة النعال ستُنسب إليها المرأة. بالإضافة إلى كونها بيئة الرغبات التي ترتبط بالنساء مع وجود الحاشية الإخلاقية التي ستكون مبرراً لربط المرأة بألوان النعال. إن جغرافيا النعال بهذا المعنى هي جغرافيا الملذات التي يضعها ابن سيرين تعبيراً عما يؤول الحلم. ويخاطب فيما يبدو الذكور، لكونهم السلطة الفعلية القابضة على الواقع. أو هم جوهر الواقع نفسه وبالتالي من السهولة بمكان تصديق الحلم.
هناك مادة الحذاء حين يكون مصنوعاً من جلود الأبقار، إذن فهو يرمز إلى المرأة الأعجمية. نظراً لعدم تربية الأبقار في البيئات الصحراوية. كما أن المرأة الأعجمية هي الشهوة الآتية من بعيد، إمّا عن طريق السماع ورحلات العرب خارج الديار أو عن طريق اختلاط الأجناس في المناطق الحدودية بين العرب والعجم. وبمجرد أن يظهر الحذاء مصنوعاً من جلود الأبقار، فإنه يطابق المرأة فوراً. والعلاقة بين النعل والمرأة هي الوطء. هذا المعنى يحضر بنفسه مباشرة. ليوضح أن الحلم إذا كان غامضاً أو ظاهراً، فليست تلك هي المسألة. المهم أنَّ الأثر أو الوظيفة تحدد ماهية الحلم وصناعة النعال.
وتصل حبكة التأويل الذكوري في الجزْم بمادة الجلد ولونه إلى ذروتها، مع أن الحلم لا يكون واضحاً إلى حد يسمح برؤية نوعية الجلد عادة. والمرأة الأعجمية هي التطلع إلى ملذات خارجة عن البيئة مع ما للعجم من مواصفات جمالية وثقافية مغايرة عن البيئات العربية. علماً بأن العجم والعرب والبربر وغيرهم كانوا هم المادة الخام التي تنتقي منهم المرأة إما للزواج أو لملك اليمين أو للخدم أو للإهداء كما في حالة سبي الحروب والغزوات.
ولكن إذا كان جلد الحذاء من جلود الخيول، فالمرأة عربية على أساس أن الخيول عربية المنشأ. ومرة أخرى، يتم تفصيل جلود البيئة على مقاس النعال والمرأة وكأن المنام هو الطاولة التي تستعرض خلالها الرغبة في التنعل والرغبة الحسية في التزاوج. وهي الطاولة ذاتها التي تمثل سوقاً لابتياع النعال واستعراض النساء أمام أنظار الذكور. وأيضاً الخيول من الحيوانات التي تُركب كرمز للشجاعة والفروسية وارتياد موارد الأصالة والقوة.
المُلاحظ أنَّ الذهنية العربية حين تحدد الاقتران بين النعل والمرأة والخيل إنما تطرح اقتراناً خاصاً بها. وهو أبرز دلالة على متصل الذكورة في المقام الأول: فالمرأة هي المفعول بها والحذاء هو كذلك والخيول بالمثل حين تستخدم كوسيلة لدلالات اجتماعية وثقافية معينة.
لم يكتف ابن سيربين بهذا، بل أعطى براحاً للثقافة التي تتكلم من وراء المنام. إذْ أن مكانة المرأة ترجع إلى معدنها على التوازي. فمعدن الفضة إذا كان معدنا للحذاء فالمرأة حرة جميلة. ويبدو المظهر حاكماً للمشهد، لأنَّ الفضة معبرة عن الإغواء ولفت النظر وإثارة الانتباه. والحلم بذلك المعنى يرسم استعارة الفضة في التطلع إلى المرأة الجميلة وتجسيد شكلها ومظهرها لدى الناس. رغم أنَّ الإنسان العربي يهتم بالذهب إهتماماً كبيراً من جهة الأموال والمعادن النفيسة، إلاَّ أن الفضة تقدم صورة جاذبة ومسيلة لصور المرأة.
تختلف المرأة المصنوعة من الرصاص مع اختلاف صنع النعل من المعدن نفسه. فإذا كان المعدن له مكانة متدنية، فالنعل له مكانة أقل لدى الناس وكذلك المرأة ستكون ضعيفة ويسهل كسرها. هي إمرأة الرصاص .. هذا المعدن الأدنى جودة وإغراءً. في المقابل فإن النعال التي تصنع من النار ترمز إلى إمرأة سليطة وليس لها مكانة بين أقرانها ولا بين الرجال. فالتعامل معها يجرى بناء على سمات النيران بتوسط النعل كوسيلة ليس أكثر. بينما النعال مصنوعة من الخشب، فهي دالة على المرأة الخائنة والمنافة. وذلك بفضل أن الخشب يقبل تشكيله بسهولة ويحتمل النقش عليه والاستعمال المتعدد والشائع.
هذا المنام هو خطاب الثقافة إلى المرأة، ولتنظر الأنثى إلى معدنها وجلدها من قريب أو بعيد. ويتعامل المنام مع الحذاء كرقائق ثقافية وافرة الكتابة لا مضمرة الترميز. لعل أخطر ما يفعله التأويل أن يكون مادة في عقولنا، ثم تعطيها الثقافة وجوداً مضاعفاً عبر وسائط الأحلام والمقولات وصور الطبيعة وأصناف الأشياء. وابن سرين- مع الشهادات التاريخية له بالورع والتقوى والفقه والزهد- إلا أنه قد سمح بوضع المرأة على خريطة الواقع كما ترسمها أنساق الثقافة آنذاك. وهي الإنساق التي مازالت سارية حتى اللحظة. واللافت أن تكون الثقافة هكذا محيطة بنا من كل جانبٍ.
***
د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة