أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: سبينوزا وإنكاره للرغبة الحرة؟
في رسالة للفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677) نجد العبارات التالية: "بمزيد من التصور، انا أرى ان الصخرة اثناء استمرارها في الحركة يجب ان تكون قادرة على التفكير والمعرفة بانها تسعى قدر الإمكان لتستمر في تلك الحركة. مثل هذه الصخرة، كونها واعية بمحاولتها وليست مختلفة ابدا، سوف تعتقد انها حرة تماما، وسوف تعتقد انها تستمر في الحركة فقط بسبب رغبتها الخاصة . كذلك حرية الانسان، التي يفتخر دائما بحيازته لها، والتي تكمن فقط في حقيقة ان الناس واعون برغبتهم لكنهم جاهلون بالأسباب التي تقررت بواسطتها تلك الرغبة" (رسالة الى G.H.Schaller، اكتوبر 1674).
هذه العبارات في رسالة سبينوزا تؤكد بانه كان فيلسوفا حتميا. وبدون تحريف لرسالة سبينوزا، نحن يمكننا إعادة صياغة العبارات كالتالي: "لو ان الصخرة في حركتها كان لديها وعي بمستوى وعي الانسان، عندئذ فان الصخرة كما في الانسان، وكما بالنسبة للفلاسفة، سوف تعتقد انها تتحرك بفعل ارادتها الخاصة ورغبتها الحرة، رغم انها ليست كذلك".
لو انتقل المرء من أواخر القرن السابع عشر الى أواخر القرن العشرين، في محاضرة القيت في شهر مارس 1990 للفيزيائي وعالم الفلك البريطاني ستيفن هاوكنك ايضا عبّر فيها عن رأيه حول الرغبة الحرة (انظر الفصل 13: "هل كل شيء مقرر؟" في كتابه الصادر عام 1993 بعنوان الثقوب السوداء والأكوان الوليدة)(1). يجادل هاوكنك بان مفهوم تضاؤل المسؤولية diminished responsibility في القانون الجنائي البريطاني يجب الغاؤه. بموجب هذا المفهوم القانوني يمكن تخفيض عقوبة العديد من المتهمين بجرائم في ظروف استثنائية، وحتى في حالات نادرة جدا انهم ربما يُعتبرون "غير مذنبين" لو افترض القانون او المحاكم ان هؤلاء المتهمين ليس لديهم سيطرة كاملة او فهم كامل لأفعالهم. ان مفهوم تضاؤل المسؤولية او ضعف القدرة يمكن رؤيته ايضا في حالات نادرة حيث المجرمين المتهمين وُجد "غير مذنبين" بسبب الجنون".
الدافع وراء التفكير في مقترح هاوكنك بالغاء هذا المفهوم القانوني لتضاؤل المسؤولية هو انه طالما كل أفعال البشر تتقرر سلفا، فلماذا نعطي الأفضلية للمتهمين الجنائيين في دفاعهم عن تضاؤل المسؤولية؟. هاوكنك يبدو يقول "لا تقبلوا فقط عدد محدود من ادّعاءات المتهمين المجرمين بانهم " لايستطيعون التوقف عن الفعل او السيطرة على أنفسهم"، لأن المجرمين الآخرين، وفي الحقيقة كل الناس لا يستطيعون السيطرة على جميع أفعالهم ايضا". مع ذلك، في بريطانيا العظمى لم يُلغ العمل بمفهوم تضاؤل المسؤولية، ولم يُلغ ايضا في المستعمرات البريطانية السابقة، من استراليا مرورا بالهند وماليزيا وحتى زمبابوي. السؤال المطروح، لو عاد الينا سبينوزا الان، هل سيوافق مع صيغة هاوكنك في الحتمية الفلسفية؟ كذلك، بعد دراسة القانون الجنائي الحديث وعلم الجريمة، هل هو يوافق مع اقتراح هاوكنك بان العقيدة القانونية في تضاؤل المسؤولية يجب ان تُلغى؟ يمكن القول بان هناك اختلافات صغيرة بين سبينوزا وحتمية هاوكنك الفلسفية. كلاهما يؤمن بان الرغبة الحرة ليست الاّ وهما. من جهة اخرى،حتمية سبينوزا وهاوكنك الميتافيزيقية مختلفة جدا وغير منسجمة مع ميتافيزيقا اوغستين وكالفن.
حتمية كالفن مقابل اوغستين
كان جون كالفن (1509-1564) ثيولوجيا فرنسيا/سويسريا شهيرا في عقيدته البروتستانتية. احدى معتقدات كالفن الثيولوجية كانت مفهومه عن "القدر" predestination. باختصار، فقط اولئك الذين يؤمنون في المسيح يمكن إنقاذهم، لكن الإله الخالق للمسيح اختار سلفا منْ الذين ينقذهم عبر السماح لهم للايمان بالمسيح. وفق هذا، كالفن يقصد ان الفرد سواء آمن ام لم يؤمن بالله فان وضعه تقررّ سلفا من الله. وبالتالي على سبيل المثال، اذا كان الملحد ريتشارد دكنز اختار ان لايؤمن بالله، وناقدا لفكرة الله، فان دكنز وغيره ملايين من الناس الآخرين كانوا ايضا مقرّرين سلفا من جانب الله ذاته. هذا نوع خاص من التفكير في إنكار الرغبة الحرة.
محاججة اخرى (مع انها ليست بالضرورة مشابهة) يمكن رؤيتها بدرجات متباينة في دوغمائيات وايديولوجيات اخرى، بعض مبادئها ربما معارضة لأيديولوجية كالفن. طبقا لكالفن ان عدم الايمان بالله كان رغبة الله ذاته. في ادّعاء مختلف، كارل ماركس يزعم بان "الإستغلال الطبقي" الأصلي يقود الناس لمعارضة الماركسية. بعض الفرويديين ايضا يقولون ان اولئك الذين لا يتفقون مع فرويد ونظرياته يجسّدون "مقاومة" سايكولوجية. وان العديد من العبارات الراديكالية للنسويين (الداعين الى مساواة المرأة) تشير الى ان الكثير من الناس بمن فيهم عدة نساء ومعظم الليبراليين والنسويين الثقافيين وتقريبا كل الرجال والمؤسسات والأديان والايديولوجيات السياسية والفلسفات، هم مسيطرعليهم كليا بفعل أفكار هم ذاتهم لم يشتركوا في بنائها او التفكير فيها.
لا كالفن ولا سبينوزا كانا هما فقط مستودع أسرار تلك الفلسفات التي نشأت بعد قرون قليلة من موتهما، لكن في الحقيقة، مفهوم سبينوزا في (الله ام الطبيعة) كان ذاته رحيلا راديكاليا عن المفهوم الابراهيمي للإله الشخصي – الامر الذي قاد الى طرد سبينوزا من الكنيس اليهودي وحرمانه بسبب فلسفته اللاارثودكسية.
إله سبينوزا، و "حبّه الفكري لله" لا يتصل بقدرية كالفن. مع ان كل من سبينوزا وهاوكنك كانا حتميان فلسفيان، لكن هوية "المقرِّر" لم تكن إله كالفن ولا إله الثيولوجي اوغستين (354-430) ايضا.
اوغستين سبق كالفن بحوالي 1200 سنه، وسبق سبينوزا بحوالي 1300 سنة. في احدى مقالاته في كتاب (الليل كبير،1996)، ادّعى مارتن غاردنر Martin Gardner بانه طبقا لاوغستين "الله يقف فوق الزمن ويرى الماضي والحاضر والمستقل". في إعترافات اوغسطين سنة 397، كانت هناك مقاطع بهذا المعنى تكشف عن ان كل لحظة هي مثل حاضر أبدي لله. ولكن بالنسبة لمنْ هو بعيد عن التقاليد الثيولوجية لكالفن واوغستين، يقفز هذا السؤال للذهن: هل الله لديه القوة لتغيير المستقبل والحاضر وحتى الماضي؟ وعند وضع ثيولوجيا كالفن فوق ثيولوجيا اوغستين، يبرز سؤال آخر هو: هل يمكن لله ان يغيّر رأيه ويبطل خياره في منْ يمنحه الخلاص ومنْ يحكم عليه باللعنة؟
سبينوزا بالتأكيد كان مطّلعا على مظاهر ثيولوجيا كالفن واوغستين. عندما مات سبينوزا كان هناك 160 كتابا في مكتبته، حيث كان في تلك المكتبة، الاصول اللاتينية لإعترافات اوغستين، أعمال كالفن، والترجمات اللّاتينية والهولندية والبرتغالية لتأملات ماركوس اورليوس. سبينوزا الرقيق يجب ان يكون وضع عينه على الأجيال القادمة، ربما خشى على ضياع شهرته بعد وفاته عندما تحمّل المشقة في النسخ اليدوي لمراسلاته. هناك عدة اختلافات صغيرة بين ثيولوجية كالفن واوغستين، طالما كان الاول كاثوليكيا والأخير بروتستانتيا. سبينوزا كحتمي فلسفي لم يقبل بالرغبة الحرة. مع ان الجواب التقليدي للمسيحيين لوجود الشر كان مرتكزا على مفهوم الرغبة الحرة. لكن حسب سبينوزا، الرغبة الحرة هي نوعا ما شاذة او مثيرة للجدل في ضوء مفاهيم كل من القدرية الكالفينية والمعرفة الالهية المسبقة لأوغستين. اذا كانت حياة الانسان مقررة بواسطة الله فكيف ستعمل الرغبة الحرة؟
القدرية الأخلاقية لمكالي جوسالا
الفيلسوف الهندي القديم ماكالي جوسالا Makkhali Gosala الذي مات سنة 425 ق.م، سبق اوغستين بـ 800 سنة، وكالفن بـ 2000سنة، وسبينوزا بـ 2100 سنة. أحد المظاهر الجديرة بالملاحظة لفلسفة جوسالا هي قدريته. طبقا للباحثين، رؤية جوسالا تُعرف من خلال الأقوال التي جاءت في نصوص ديانتين سيطرتا في زمانه وهما البوذية واليانية. يبدو ان كل من البوذيين واليانيين في زمان كوسالا اعتبروه خارجا كليا عن تقاليدهم ان لم يكن منحرفا.
اعتقد كوسالا بان الناس محكوم عليهم بالمعاناة. هو تحدّث عن عبثية جهد الانسان وأنكر نتائج الأعمال الجيدة او السيئة. كوسالا أنكر ايضا عمليات الكارما التي تأسست افكارها منذ وقت طويل في الفلسفة الهندية والثيولوجي، والتي ترى ان الموقف الذي تحدث به الاشياء لشخص ما هو كنتيجة لأفعاله السابقة. تباينات في الفكرة توجد في الهندوسية والبوذية واليانية. عدد من النصوص البوذية تشير الى ان بوذا ذاته شجب رؤية جوسالا باعتبارها ذات أساس ضعيف بل وأضعف من جميع المعتقدات في الهند القديمة قبل أكثر من 2500 سنة .
ان إنكار نتائج الفعل الإرادي يمكن تصنيفه كقدرية fatalism في كل من الهند القديمة والسياقات المعاصرة. انها ليست القدرية المسبقة لكالفن التي ترتكز على رغبة الخالق، ولا هي "قدرية" وفق الفهم الاوغستيني في معرفة الله المسبقة بما سيحدث. كوسالا لم يقل ان القدرية انبثقت من رغبة الخالق. القدرية هي فقط هناك.
سبينوزا أنكر الرغبة الحرة لكنه لم يكن قدريا وفق صيغة كوسالا، ولا متبنّي للقدرية مثل اوغستين او كالفن. سبينوزا لم ينسب قدريته الى الله لأن كل شيء يحدث من خلال قوانين الطبيعة. وبينما كوسالا و بسبب قدريته لا يأمر بجهود أخلاقية، لكن هذا لا ينطبق على الفلسفة الاخلاقية للحتمي سبينوزا. في الحقيقة،عدة فلاسفة ومعجبين آخرين بسبينوزا في كل العالم يرون انه كان واحدا من أعظم فلاسفة التاريخ الأخلاقيين. هذا وكما يرى البعض ربما يشكل مفارقة واضحة في الفلسفة الحتمية لسبينوزا.
***
حاتم حميد محسن
.........................
الهوامش
(1) الفيزيائي المعاق ستيفن هاوكنك يسلط الضوء على مأزق الحتمية/ الرغبة الحرة مستخدما قصة تفاحة نيوتن. هو لاحظ ان قانون نيوتن في الحركة يعطينا السبب والنتيجة الميكانيكية الحتمية للكون. هو يرى اننا لو عرفنا موقع وسرعة كل شيء في الكون، سوف نستطيع التنبؤ بمستقبل الأحداث بالكامل، حيث لاحظ لو ان صيغة نيوتن صحيحة وتامة، فان الرغبة الحرة ستكون بالضرورة ليست الاّ وهما.