أقلام فكرية
مراد غريبي: عن الفكر الفلسفي العربي والوظيفة المهجورة؟
منذ النهضة العربية نهاية القرن التاسع عشر، لا نكاد نقرأ مقالا او نحضر محاضرة او نتابع لقاءا تلفزيونيا او نقاشا عبر منصة رقمية حول الفكر الفلسفي العربي، فإن الخلاصة تكون هناك أزمة او صراع في مسارات وأنساق ومدارات هذا الفكر!!
هذا الصراع وهذه الأزمة ترجع لزمن ابن رشد في العصر الوسيط، صراع بين النزعتين الدينية والعلمية، والتي حاول في كتابه "فصل المقال" تحديد مجال الشريعة ومجال العلم، والفصل بين مناهج كل منهما. هذا الصراع هو من خلق الازمة بسبب استقدامه بلا ادنى محاولة نقد او تشذيب حتى لا نقول تجاوز، فالأزمة تكمن في اننا لانزال مع ابن رشد في العصر الوسيط، لم نستطع الخروج من حيرة قرون من الصراع الذاتي تارة وأخرى مازق المؤامرة الفكرية عبر تاريخ الحروب العقائدية والنهايات المغلقة.
المشكلة اننا ندمن البقاء في صراعات التاريخ وتمثل المقولات والفتاوى والشخصيات والوقائع، الفلسفة العربية الإسلامية ظهرت وعبّرت عن إشكالات خاصّة بالأمّة الإسلامية في تلك الازمنة وتطوّرت حضارتها وانفتحت على ثقافات وحضارات، مجسدة الآية القرآنية بكل أريحية "يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"(الحجرات:١٣). فكانت النتيجة أن استوعبت هذه الفلسفة الكثير من عناصر التراث الفلسفي اليوناني ووظّفته لأغراضها المعرفية والأيديولوجية وحصل انبثاق أنساق تساير الأوضاع الثقافية والاجتماعية وقتئذ، خصوصا عندما وصل الاعتزال الى مجالس القيادات والوجهاء إبان الخلافة العباسية. ولعل المفكر محمّد عابد الجابري كان محقا وهو الرشدي حتى النخاع عندما بيّن في كتابه "نحن والتراث" كيف نقرأ التراث الفلسفي العربي ونتعامل معه معرفيًّا وأيديولوجيًّا. فمن واجبنا أن نهتمّ به كتراث فكري تاريخي تشكّل في إطار السّجال الذي دار آنذاك حول "علاقة العقل بالنقل" اي أنه حان الوقت لتجاوز كلّ أنماط السلفيات المعرفية الدوغمائية والأيديولوجية والتوجه إلى التوازن والاعتدال والنزاهة العلمية، ودخول عصر القرن الواحد والعشرين، حيث موجة الذكاء الاصطناعي وعلم الجينوم والتواصل الثقافي والقيم الكونية تكتسح الآفاق، بدل الاستغراق اكثر في اتون صراعات القرن الوسبط وما قبله، ونزيد من الشعر بيتا حتى مخطوطات ابن رشد والفارابي وابن سينا وغيرها من تراث الفلسفة الاسلامية التي اختفت لقرون من السّاحة الفكرية العربية واكتشفناها في القرن التاسع عشر بعد عملية تحقيق المستشرقين لها، خاصة الألمان منهم، بينما اليوم التفكير الفلسفي في العالم العربي ما زالت يتراوح بين: "سلفي يدرس الفلسفة ليحارب الفلسفة" ويرى فلسفة ابن رشد ماركة يونانية مقلدة وفق منطق تراثي مناور أو "حداثي يتماهى مع المذاهب الفلسفية الغربية كموضة فكرية لا أكثر ليجعل من ابن رشد تنويريا مع ترجمات تجارية لأنساق ومقولات فلاسفة الغرب، بينما ثلة من الأولين والآخرين التي شكلت فارقا ابداعيا، عبر ابتكار مفاهيم بديلة تبدع المشاريع والأفكار التنويرية، والعمل على تفكيكها وتمحيصها ونقدها، كمدخل نحو تأسيس النسق الفلسفي الذي يبحث إشكالات الواقع العربي ويسعى جاهدا في صياغة أجوبة شافية لمشاكل وأمراض المجتمعات العربية وتطلعاتها الحضارية، وليس اضافة المتاهات والمطبات والمنغصات، بتعبير رائد مدرسة فرانكفورت النقدية الفيلسوف هوركهايمر :"إن الوظيفة الاجتماعية للفلسفة تكمن في نقدها لما هو سائد"، طبعا دون اقحام الفلسفة في علاقة مع الايديولوجيا او خدمتها كما انتقد ذلك محمد أركون وكما ورد في كتاب (مساءلة الهزيمة) للدكتور محمد جابر الأنصاري، أن الفكر العربي المعاصر ما لم يتخلص من طغيان الأيديولوجيا لصالح الإبستمولوجيا أو البحث المعرفي العلمي والنقدي، فإنه لن يتمكن من الخروج بوعي الأمة من نفق الهزيمة.
لهذا ينبغي أن تلفت أزمة الفلسفة عندنا، النظر إلى سؤال:
متى يبدأ الفكر الفلسفي العربي عصره النقدي؟ مستلهما من تجاربه التاريخية المضيئة وكذا تجارب الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر مع النظر والنقد لذلك كله لا مناص من ان يخوض الفكر الفلسفي العربي الراهن تجربته النقدية، لأن طبيعة الخلل في مجالنا الاجتماعي العام ثقافية، والبحث عن حلول جذرية وعميقة واستراتيجية ذات ترابط منهجي وموضوعي بجعل الفلسفة مدخلاً للنظر والتحليل والاستشراف في تجديد البناء الثقافي للمجتمع.
***
ا. مراد غريبي