أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: ثلاثة تطورات في الفلسفة قادت الى تقدم العلم
سخر العلماء من الفلسفة كونها ليست أكثر من تأملات نظرية تفتقر الى التجربة، حيث وصفها العالم البريطاني الراحل ستيفن هاوكنك بانها "ميتة". لكن من المؤسف ان يكون الوصف هكذا لأن الطريقة العلمية ذاتها هي تجسيد لتفكير فلسفي برز من حقل فرعي يُعرف بـ الابستيمولوجي. تاريخيا، عملت الفلسفة مع العلوم جنبا الى جنب لتطوير فهمنا للعالم. في الحقيقة، اتخذت "العلوم" اسم "الفلسفة الطبيعية" في الشطر الأكبر من التاريخ، والعلماء يجب ان يكونوا اكثر امتنانا للفلسفة. التقدم في الفلسفة السياسية والاجتماعية ربما حال دون تصفية العلماء الذين أثاروا الاضطراب للنظم القائمة . هنا، سنفحص ثلاث رؤى فلسفية قادت مباشرة الى التقدم في الكيفية التي يعمل بها العلم.
1- فرنسيس باكون واستدعاء البيانات التجريبية:
سؤال "ما الذي يجعل العلم مختلفا عن كل شيء آخر؟" هو في الأصل سؤال فلسفي. ذلك يعني ان الفلسفة تساعد في تعريف ماهية العلم. وهذا شيء هام، لأننا لكي نتعلم حول العالم، نحتاج ان نتأكد من صلاحية الطرق التي نعمل بها. في الجزء الاكبر من تاريخ الفلسفة الغربية كانت أفكار ارسطو هي الأكثر أهمية. كانت فكرة ارسطو في العثور على الأسباب في العلوم مرتكزة اساسا على المنطق الاستنتاجي، ولذا فان التجريب لم يكن جزءاً حيويا من العلوم.
فرنسيس باكون، الفيلسوف الانجليزي والمستشار المالي لجيمس السادس كان مختلفا عن أسلافه، حيث اعتقد بقوة البيانات التجريبية. في كتابه Novum organum وترجمته من اللاتينية (وسيلة جديدة للعلم) (1)عرض باكون بديلا للفكر الارسطي من خلال الجدال عن أهمية البيانات التجريبية. ومع ان طريقته لم تعد تُستعمل على وجه الدقة، لكن كتابه يوفر الأساس للطريقة العلمية.
فكما يتضح، باكون ذاته لم يكن جيدا في التجريب حيث (ان الالتهاب الرئوي الذي قتله ربما نتج عن تجربة تبريد استلزمت حشو الدجاج النافق بالثلج). هو احيانا قورن خطئا بنيوتن الذي راجع طرق باكون ووضعها في استعمال أفضل. غير ان أعمال باكون وجدت جمهورا متحمسا للتلقّي أثناء فترة التنوير. فولتير أطلق عليه "أب الفلسفة التجريبية".
2- اطروحة تشرتش- تورينج church-Turing والتمهيد للكومبيوتر
الحوسبة الحديثة ارتبطت بمحاولات فلسفية لتقرير أي المشاكل الرياضية يمكن حلها.ومع ان كل شخص عرف عام 1936 ما يعنيه الكومبيوتر – كائن بشري يهيء الجواب لمشاكل رياضية صعبة – ولكن ما هي المشاكل التي كان يمكن حلها بهذه الطريقة بقي سؤالا مفتوحا.
آلن تورينج أنجز أحد الحلول للمشكلة عام 1936. ورقته التي غيّرت العالم كانت بعنوان مرهق "حول الأرقام القابلة للعد، مع تطبيق لقرار المشكلة Entscheidungsproblem". من هذه الورقة، نحصل على العديد من الأفكار الجريئة، بما في ذلك "اطروحة تورينج"، التي تقول، اذا اعطيت وقت كاف، فان أي شيء يمكن تمثيله كخوارزمية يمكن حسابها. هو يجادل بان "ماكنة حساب عالمية" يمكنها القيام بهذا بدلا من الانسان.آلن تورينج كتب حله للمشكلة مباشرة بعدما قام الرياضي والمنطقي الونزو تشرتش Alonzo church بكتابة اطروحة خاصة به حول هذا الموضوع. نسخة تشرتش هي "تكامل لامبدا" lambda calculus ،وهي طريقة يمكنها ان تحاكي كل الطرق الاخرى للحساب. الاطروحة هي بالاساس ذاتها. هو ايضا وجد ان كل شيء يمكن حسابه بواسطة الانسان (او الماكنة باستعمال عمليات مشابهة) يمكن حله في عدد محدود من الخطوات يُعبّر عنها بعدد محدود من الرموز.
اتجاه تورينج يُعتقد بشكل عام هو الأكثر تفوقا – حتى بموافقة تشرتش. والأكثر اهمية هو حقيقة ان عمله اتخذ اتجاهات مختلفة للوصول الى نفس الجواب بما يؤكد صحة الاطروحة . الجدالات اللاحقة وفرت دعما آخراً. اليوم، اطروحة تشرتش- تورينج هي فرضية أساسية لعلوم الكومبيوتر التي قادت للعديد من التقدم.
تقريبا كل كومبيوتر صُمم باعتباره "ماكنة تورينج عالمية" بما يعني يستطيع إجراء أي خوارزمية يمكن حسابها. ايضا، فكرة خزن التعليمات التي سيتبعها الكومبيوتر بشكل الكتروني وليس مادي (مثل رموز لوحة الحروف او المقابس) ايضا تعود تاريخيا الى صياغة تورينج في الاطروحة.
3- نعوم تشومسكي بدأ ثورة الادراك:
في اواسط القرن العشرين، ركزت العديد من الطرق المهيمنة على التفكير حول الذهن والدماغ على السلوك كليا. مدارس الفكر مثل السلوكية ركزت على استجابات الانسان للمحفزات والعقوبات. فمثلا، في حالة اللغة، كانت النظرية الرائدة في بداية الخمسينات من القرن الماضي هي ان الأطفال سمعوا عدد كبير من الكلمات وتعلموا استعمالها عبر التعزيز الايجابي، وعندما استعملوها بشكل صحيح، حدثت اشياءً جيدة.
هذه النظرية فقدت مصداقيتها بعد ان كتب نعوم تشومسكي أول كتاب له. هو تخلى عن النموذج السلوكي عبر الاشارة الى ان الاطفال لم يكونوا قد حصلوا على أمثلة كافية للّغة في سنواتهم المبكرة لتوضيح كم السرعة التي تعلّموا بها. بدلا من ذلك، هو يجادل ان الناس وُلدوا مع قدرات فطرية ليتعلموا لغات جديدة، وهو ما يسمى "وسيلة اكتساب اللغة". وبسبب افتراض قدرات تعلّم اللغة الطبيعية، كان الاطفال قادرين على تعلّم لغة جديدة بسرعة.
وبينما يستمر اللغويون في النقاش حول مدى ملائمة الصياغة الأصلية للنظرية، لكن النظرية أطلقت الثورة الادراكية وقادت مباشرة لما يُعرف الآن بعلوم الادراك. هذا الحقل يستخدم اتجاها متعدد الحقول لفهم الذهن الذي يحوّل الطريقة العلمية باتجاه فحص ما يجري داخل الجمجمة. وبالتالي، اثّرت علوم الادراك على العديد من مظاهر علم النفس بالاضافة الى الذكاء الاصطناعي.
***
حاتم حميد محسن
.............
الهوامش
(1) في Novum organum يضع باكون تفصيلا لنظام جديد للمنطق يختلف عن النظام القديم لارسطو. هذا يُعرف الآن بطريقة باكون. يأمل باكون ان التحقيقات التجريبية سوف تحطم الافكار العلمية القديمة وتقود الى فهم اكبر للعالم وللسماء. هو اتخذ موقفا مضادا من اتجاه ارسطو القديم في العلوم، مجادلا بوجود حاجة لطريقة جديدة بسبب التحيزات الطبيعية والضعف في الذهن الانساني، بما في ذلك التحيز الطبيعي للبحث عن توضيحات ميتافيزيقية لا ترتكز على الملاحظات الواقعية. اعتقد باكون بالطريقة التجريبية المرتكزة على الملاحظة والتجربة في السعي للمعرفة. هو رفض اتجاه ارسطو في الوثوق بالعقل وحده، بدلا من ذلك هو دعا اكثر لنهج عملي لفهم العالم الطبيعي. ارسطو من جهته اعتقد بأهمية العقل والمنطق في فهم العالم وأبدى اهتماما قويا باستعمال المنطق الاستنتاجي للوصول للمعرفة.