أقلام فكرية
غيداء محمد حسن: الترجمة الفلسفية بين التأويل والحوار عند غادامير
ثمة صورة مثيرة للاهتمام، على الرغم من عدم الانتباه لها إلى حد بعيد تتعلق بالترابط الوثيق بين الفلسفة والترجمة، فالفلسفة بسبب الطبيعة الكونية لأفكارها وطروحاتها لطالما اتكأت على الترجمة في تصدير نصوصها إلى لغات عديدة ومختلفة للانتشار حول العالم. كذلك يخضع التنظير للترجمة عادة، سواء من قبل المترجمين أو الفلاسفة، لسلطة الفلسفة ومناهجها. وهناك مستويات عدة للعلاقة بين الفلسفة والترجمة، منها فلسفة الترجمة وترجمة الفلسفة والفلسفة الترجمية، لكن أهمها على الاطلاق هي الترجمة الفلسفية التي اكتسبت أهميتها بسبب تعلقها بالمنهج، حيث تهتم الترجمة الفلسفية بترجمة النصوص الفلسفية اعتمادا على المناهج الفلسفية وبعض الحقائق التأملية الخاصة بالفلسفة.
وعلى مدى التاريخ كان هنالك دوما فلاسفة اشتغلوا في الترجمة، ومترجمين أثروا التنظير الفلسفي في الترجمة، ومن أشهر الفلاسفة المعاصرين الذين جمعوا بين الترجمة والفلسفة وقدموا نظريات مهمة الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير H.G.Gadamer 2002- 1900 الذي قدم نظريته في الترجمة في كتابه " الحقيقة والمنهج"، كما قدم أيضاً أفكاره حول الفهم والتأويل وكان متأثراً بالفلسفة اللغوية والتأويلية عند مواطنه الفيلسوف مارتن هيدغرMartin Heidegger(-19761889) الذي طرح أفكاره حول الترجمة في مواضع عديدة من مؤلفاته ومقالاته منها، كتاب "الكينونة والزمان" وكتاب "المدخل إلى الميتافيزيقا" حيث ميز هيدغر بين اللغة كألفاظ موضوعة وبين اللغة كحقيقة وجودية مستقلة، كما ميز بين المعنى الأصلي للمصطلح الفلسفي وبين معاني مقابلاته غير اليونانية. وبالاستناد إلى هذا التمييز طرح نظريته في الترجمة التحريفية التي تفصلنا عن الوجود المعبر عنه بالنص الأصلي وتؤدي إلى تعارض بين الفلسفة والترجمة، والترجمة التحقيقية التي تصلنا بالمعاني الأصلية وتتيح للغة القدرة على التكلم بذاتها. وأبرز فكرة هيدغرية تأثر بها غادامير هي فكرة "الدزاين" ومعناها عند هيدغر الوجود هنا، اي وجود الكائن في زمان ومكان محددين، فالوعي الأنطولوجي ميزة تخص الإنسان دون غيره في كل الأزمنة وجميع الأمكنة، لأنه الكائن الوحيد القادر على الفهم والتخيل والاهتمام بقضايا الوجود.
وقد أتفق كل من هيدغر وغادامير على مبدأ الكونية في الفهم، وأعتبر كلاهما التأويل فعالية عالمية كونية لا تقتصر على نصوص محددة، إنما تمتد لتشمل كل انواع النصوص التي أنتجها البشر، وبمختلف أنواعها فنية أو أدبية أو فلسفية وغيرها. فالهدف من التأويل هو تسليط الضوء على الزوايا المظلمة في ذهن المؤلف واكتشاف المعاني المختبئة في ذاته. لذلك قد يجد المترجم نفسه احياناً وكأنه في حوار حاد ومحتدم يقاوم فيه التعسف والسلطة وجميع الإكراهات المتوارية في ذهن المؤلف لحظة كتابته للنص.
والمثير للانتباه هنا هو أن غادامير قد وظف تأثره بهايدغر عن طريق تقديم مجموعة واسعة من المفاهيم التي بنى عليها تأويلاته، نذكر منها،" التأويل " و" الحقيقة " و" الحوار " و" التراث" و" الجدل" و"التاريخ" و"الاستحضار" و" القول" و" التوضيح" و" التأثير" و" الإحداث". ولبيان العلاقة الجوهرية بين الفلسفة والترجمة قدم مفهومان أساسيان هما: التأويل والحوار.
التأويل
رأى غادامير بداية أن كل فهم هو تأويل، والاهمية الرئيسية التي حازتها مشكلة اللغة في الفلسفة تقوم اساساً على حقيقة أن الفهم والتأويل هما شيء واحد، فالفهم برمته تأويل، والتأويل برمته يحدث وسط لغة ما ومثله مثل المحادثة، دائرة مغلقة لجدل السؤال والجواب. والتمكن من اللغة شرط اساسي لبلوغ الفهم، لكن غادامير لم يقصد بالتأويل استخراج معنى موضوعي خارجي يستقل به النص، إنما شبه التأويل بالدخول في محادثة خاصة يتجدد بها معنى النص، لأن من يقوم بالتأويل لا ينظر إلى النص نظراً مباشراً في رأيه، وإنما يستمع إليه استماعاً حياً من اجل الوصول إلى مرحلة الفهم المطلوبة. وغادامير يقدم اللغة بوصفها وسيطاً للتجربة التأويلية حيث رأى أن المحادثة لا تكتسب صفة الاصالة والحقيقية إلا حين يجد الطرفان أنفسهم قد سقطوا في المحادثة وتورطوا بها، فهم غير قادرين على التحكم في سيرها، كما لا يعرفون على وجه الدقة النتيجة التي سوف تنتهي إليها. وهذا يعني أن المحادثة كلما تمت بشكل غير مقصود وبطريقة تلقائية تتدفق فيها الكلمات كلمة بعد كلمة بمنتهى العفوية كلما كانت المحادثة أصيلة وحقيقية. وهذا هو ما يمنح المحادثة روحها الخاصة، كما أن اللغة التي تجري بها المحادثة تحمل أيضاً حقيقتها الخاصة وتتيح لشيء ما أن يتجلى عبر المحادثة، فاللغة هي الوسط الذي يحدث فيه الفهم والاتفاق الجوهريان بين أي طرفين في أية محادثة. واستنادا إلى ذلك على المترجم أن يفهم السياق الذي يحيا فيه المتكلم الآخر (صاحب النص الأصلي) لكي يتمكن من نقل المعنى وصيانته وجعله مفهوما في لغة جديدة في الوقت نفسه. وهكذا رأى غادامير " أن كل ترجمة هي في الوقت نفسه تأويل حتى اننا يمكن أن نقول أن الترجمة هي ذروة التأويل الذي يكونه المترجم للكلمات". ومن أجل ذلك حدد للتأويل خلال الترجمة مراحل ثلاث هي: الوعي التاريخي، صهر الآفاق، إقصاء الذات.
الوعي التاريخي
يركز غادامير هنا على الجهد الذي يحتاج أن يبذله المؤول لكي يتمكن من استيعاب كل اللحظات الزمنية التي عاش فيها المؤلف وخضع لسلطتها وتأثر بسحرها، فالمؤلف أو المبدع يتعامل مع احداث التاريخ كما يتعامل مع مفردات اللغة، فهو يختار من بينها ما يناسبه، لكن عملية الاختيار ليست سهلة وبسيطة، لأنها عملية فكرية تحتاج إلى مران وممارسة وخبرة. وكلما كان الجهد الذي يبذله المبدع كبيرا، وكلما كانت خبرته عميقة وطويلة، كلما كانت بالتالي مهمة المؤول شاقة وأكثر صعوبة. لأن النص عادة يثير دلالاته التاريخية الزمانية والمكانية التي تمت كتابته في أطارها، لذلك على المترجم الواعي بأصول التأويل وفنون الحوار مع النصوص أن يتجاهل هذه الدلالات ويعود إلى زمن أنتاج النص ليتمكن من الخروج بمعان منتجة.
صهر الآفاق
لجأ غادامير إلى صياغة هذا المصطلح ليقول أن صهر الآفاق واندماجها أثناء ترجمة النصوص الادبية والفلسفية لا يتم إلا عبر إدراك حقائق الماضي (التاريخ) الذي أنتجت فيه هذه النصوص، بالإضافة إلى الوعي بمعطيات الحاضر( الواقع) التي تسربت إليها، واندماج الاثنين معاً لا يتم إلا من خلال الفهم والحوار والنقد وصولاً إلى تشكيل وانتاج وعي جديد لا يظهر إلا من خلال اندماج تلك الآفاق. وكذلك ليشير إلى أن النص الابداعي من حيث البنية ومن حيث الحدث هو وجود عالمي كوني يتجاوز زمانه ومكانه الأصلي.
إقصاء الذات
الأبداع خلق حر وفضاء فكري وفني وجمالي، والنص بعد انتاجه يصبح قائماً بذاته ومعزولاً عن منتجه، فالنص كما الإنسان عند غادامير وجود تاريخي يصنع نفسه بنفسه بعد أن يتم أنتاجه وهو مشروع في حالة تغير وتجديد وخلق دائم. لذلك علينا الأخذ بنظر الاعتبار أن الترجمة مهما كانت أمينة لا يمكنها ردم الفجوة القائمة بين روح الكلمات الأصلية وإعادة انتاجها في لغة أخرى جديدة. الفجوة سوف تبقى قائمة ولا يمكن ردمها تماما باي حال من الاحوال. وكما يجري في أية محادثة عادية بين طرفين في الواقع وتكون هناك اختلافات لا يمكن تجسيرها، فيتم اللجوء إلى تحقيق تسوية في الحوار المتبادل بين الطرفين، كذلك يلجأ المترجم إلى أيجاد حل أمثل عن طريق تحويل نفسه تحويلاً تاماً إلى مؤلف النص الذي يترجمه. لذلك فان المترجم هو الوحيد الذي يعيد أبداع النص ويُحدث في اللغة الموضوع الذي يتناوله، فقد رأى غادامير أن (إعادة إدراك العملية الأصلية في عقل الكاتب، هي إعادة خلق جديدة للنص الذي توجهه طريقة فهم المترجم لما يقوله النص" وهذه إعادة أنتاج وأبداع لنص جديد عبر التأويل وعن طريق إيجاد لغة مناسبة للنص الأصلي. لذلك فان موقف المترجم وموقف المؤول هو موقف واحد، ومهمة المترجم في إعادة الانتاج هو عملية ابداعية تختلف بالدرجة فقط وليس في النوع عن المهمة التأويلية العامة التي يقدمها أي نص. وقد حدد غادامير ثلاث مستويات للتأويل هي: المستوى الجمالي، المستوى التاريخي، والمستوى اللغوي.
المستوى الجمالي
يتحرى المترجم في هذا المستوى عن الجوانب الجمالية في النص الذي بين يديه، فيبحث عن مقاصد المبدع وعن المعاني الجمالية الأصلية التي قصد المبدع إلى ترسيخها اثناء كتابته للنص. وهنا يبتكر غادامير مصطلح جديد هو " المسافة الجمالية " للدلالة على المسافة التي تنشأ عن التباعد الزمني والفرق بين زمن أنتاج النص وزمن عمل المترجم على النص، أي المسافة الزمنية بين المؤول (المترجم) والنص. وفي هذا المستوى على المترجم النظر إلى النص ضمن فضائه الثقافي الخاص وضمن الأطر الجمالية والقيم الفنية والفكرية والعادات والتقاليد والدين، فكل ذلك وأكثرسوف يكون حاضراً بشكل خفي أثناء كتابة المبدع للنص. وعلى المترجم إعادة انتاج النص من الناحية الجمالية على نحو مختلف فنياً في الشكل والصياغة والأسلوب ومتوافق جوهرياً مع المعنى الذي يتضمنه النص.
المستوى التاريخي
ليست غاية غادامير في الممارسة التأويلية تمثل تاريخ خاص، إنما تمثل تاريخ عام وكلي، فقد حاول أنسنة التاريخ وتصوره على أنه ذات تحاور وتجادل وتفرض وجودها . وتاريخ الادب والفن والفلسفة هو إرث عالمي كوني حتى وأن تم انتاجه الاول بصورة محلية، فهو منتج إنساني عالمي كوني يستحق منا الاهتمام والدراسة والفهم والتأويل في ضوء مفاهيم حداثوية عالمية وكونية.
المستوى اللغوي
نجد هنا المستوى التأويلي بامتياز، فاللغة هي المادة الاساسية لعمليات التأويل والفهم والتفاهم. وللقالب الفني وللصياغة اللغوية أثرها الكبير في عملية التأويل، والنصوص هي صورة ومادة في الوقت نفسه، ظاهر وباطن، لذلك يتضمن هذا المستوى عند غادامير عدة عناصر أهمها، "مواطن الصمت" أو ما يمكن أن نسميه بالصراع بين الغياب والتجلي، ذلك الصراع بين الكلام والواضح وبين المسكوت عنه داخل النص الابداعي، فهناك طبقات عدة للمعنى، منها السطحي المباشر، ومنها الضمني المتخفي الذي يكتشف عن طريق التحليل والتفكيك والربط والاستنتاج. كما تلعب " الأوجه الخطابية" و" الستراتيجيات النصية " دوراً مهماً في تعميق الفهم ومتابعة الاحتمالات المتعلقة بالنص، فلكلمات لها طاقتها الصوتية والعاطفية والتصويرية والنص هو المجال المناسب لاستثمار كل تلك الطاقات وما بداخلها وما تعنيه. وتقود " الاستراتيجيات النصية " إلى الاشتغال في حقل الدلالة، فمواقع اللاتحديد تعمل على تحويل كل موجود إلى علامة، إذ لا يمكن فهم ظاهرة بالعودة غلى سياقها الثقافي فقط، إنما يجب فهم أبعادها الكونية ودلالتها الاجتماعية والفكرية، لذلك غالباً ما يستعين المبدع بالرموز الفنية التي لا تقتصر على مجرد الدلالة، بل تضيف شحنة عاطفية في نفس المتلقي.
الحوار
وكما قرر غادامير " أن كل فهم تأويل " فقد قرر أيضاً أن كل تأويل هو ذو طبيعة لغوية معينة، فيكون لديه كل فهم لغوياً بالضرورة، فاللغة ليست مجرد وسيلة يتوسل بها الإنسان للتعبير عن أغراض خارجية، وإنما هي من حيث الاساس حقيقة حوارية يتواجه فيها عالمان لغويان مختلفان يصيران تدريجياً إلى التداخل فيما بينهما، فتنبثق من هذا التداخل لغة متجددة تحمل معاني جديدة وغير مسبوقة، وهذا هو المعنى المقصود من "صهر الآفاق"، أي تحول الفهم في النهاية إلى تفاهم.
وبناءً على هذين المفهومين جمع غادامير بين الفلسفة والترجمة على أساس أن كل واحدة منهما تقوم على فهم تأويلي، فالتأويل عند غادامير صفة شاملة للفلسفة، حيث وظيفتها الأساس تأويل نصوص الماضي، كما ان الترجمة في جوهرها تأويل، لأن المترجم لزاماً عليه حفظ المعنى الأصلي للنص ونقله كما هو إلى عالم لغوي آخر يختلف عن عالمه الأصل. وهنا قد يحتاج إلى التصريح بما هو ملمح إليه، أو العكس إلى اضمار ما هو ظاهر فيه. وإذن فالترجمة تأويل وعمل يعيد أنتاج النص من جديد .
إن كلاً من الفلسفة والترجمة يقوم على فهم حواري " تفاهم"، فالفلسفة هي فهم يجتمع فيه الفكر إلى الواقع أو إلى التراث، ولا فكر ولا واقع ولا تراث بمعزل عن اللغة. فالوجود الحقيقي للغة هو وجود حواري. والتحاور الفلسفي هو تواجه بين عالمين: عالم الواقع أو عالم النص التراثي مع عالم الفيلسوف، حيث يكون هذا التواجه عبر مقابلة السؤال بالجواب، إذ يضع المتفلسف السؤال الذي أثاره فيه الواقع أو التراث من خلال النص الذي بين يديه، منتظراً ان يتلقى جوابه من النص نفسه.
وأخيراً، فإن الفلسفة والترجمة عند غادامير تجتمعان من جهتين اساسيتين: الاولى تأويلية والثانية حوارية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن التأويل في الترجمة أظهر وأكثر منه في الفلسفة على اعتبار الفارق الذي يفصل بين اللغة الناقلة عن اللغة المنقولة، كذلك أن الحوار في الترجمة اكثر تعقيدا عما عليه في الفلسفة للبناء المزدوج الذي يقوم عليه والذي يدعو المترجم الى حفظ النص المنقول في كلتا طبقتيه. وعليه تكون الترجمة النموذج الأعلى لعمليات الفهم والتفاهم التي تتم في الفلسفة.
***
د. غيداء محمد حسن – أستاذة فلسفة إسلامية / جامعة بغداد
.......................
المصادر والمراجع
1. غادامير، هانز جورج: الحقيقة والمنهج، ترجمة:حسن ناظم، علي حاكم، مراجعة: جورج كتوره، دار أويا للطباعة والنشر، طرابلس 2007.
2. عبد الرحمن، طه: فقه اللغة (الفلسفة والترجمة)، المركز الثقافي العربي، بيروت 1995.
3. ألبرت، هانس: هايدغر والتحول التأويلي، ترجمة: عبد السلام حيدر، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط 2016.
4. هيدغر، مارتن: الكينونة والزمان، ترجمة وتقديم وتعليق: فتحي المسكيني، مراجعة: أسماعيل المصدق، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت 2012.
5. لزهر، فارس: التأويلية عند غادامير (قراءة في المرجعيات والمنظومات والآليات)، مجلة الفتوحات، العدد الثاني، تبسة2015.