أقلام فكرية
محمد يونس محمد: التفكير المجاور
تفريد الطباع
التوغل في النظرية الادبية يمنحنا طاقة كبيرة، لكن يسلبنا تلك الضفة الراسخة في التاريخ، وهنا سنقف حسب المنطق العلمي للأدب في الفراغ، وعندها سيكون الخيال مرحا في التجوال والانفلات في مجازات اللاوعي، ولسنا هنا ضد حرية الخيال، ولا نحن كليا مع الواقع في اصوله وتاريخه، بل لابد من أن يكون التفكير مرة مقيدا، ويكون في اخرى مفتوحا وحرا بشكل تام، لكن يكون يقف على تلك العتبة او الضفة، ولا يكون داخل النهر بلا مركب يواجه نزق الموجات، ولابد من تفكير مجاور يجمع ما بين التفكير المنغلق او الذي يكون بتمام الاستناد الى الذاكرة، والتي هي المصدر الاساس للبشرية والتاريخ، ولا ننكر هناك ذوق فني وجمالي من الممكن أن تحتكم اليه الذاكرة، ولكن قبالة ذلك هناك مجاور نشط الخيال، وهو التفكير المنفتح، والذي قد يمنح اللاوعي تحفيز وتنشيط المجاور المنغلق، واذا كان العقل الفلسفي يعتبر ارسطو هو الاكثر جدارة في التتبع النظري، ويكون تجاوزنا افلاطون امرا موضوعيا، فلا يعني ذلك إن الصدق في الخلق الفني يعتمد الافاق النظرية بشكل كامل وتام .
تشكل عملية الخلق الادبي عدة وجوه، فهناك وجه اول يعتبر المؤلف ليس بطاقة خلق بل شخص يسعى الى الكتابة الادبية عبر الممارسة والتجريب، وذلك الشخص لا يخرج من مدار وجوده، وهو يشكل الموجود الفعلي لذلك الوجود، ومن خلال التوصيف الماركسي بأن الفرد هو مجموعة اشخاص اخرين، لكن ليس كتفسير بأن الاسد هو مجموعة خراف، فهناك ثمة وجوه اختلاف ما بين فكرة واخرى، ولكن تلك الذات الشخصية في المجال الادبي هو تنطلق من التفكير المغلق الى التفكير المفتوح، لتكتسب القيم الفنية والجمالية، وهذا التحول النسبي الكبير من الشخصية او الذات الخارجي الى الوعي وذات الثقافة، وعملية التحول فيها تكتسب المادة المكتوبة نفسا اخر، فما كان يوصف بالمعنى الاجتماعي بعد التحول صار يوصف بالمعنى الادبي، ولكن الكيفية هي التي تشكل الاختلاف والتميز، واذا كانت سلطة النص هي التي توزع الادوار، فذلك امر سيكون ليس وقوع احداث مباشرة، بل هناك توقع وتصور حل بدل التحول المباشر، وذلك ما اعتمده التاريخ الادبي مستمدا الفكرة من ارسطو، والتي يرى فيها التحول ليس فعليا، بل هو ما يمكن وقوعه بعدما اهتمت ذات الوعي بعد التناظر مع الذات الشخصية، بل التفكير بأكثر جديدة بالأمر وجميع ابعاده المتعددة .
في تفسير العملية الادبية حسب التفكير الفلسفي، فذلك يحيلنا الى الاصول الفلسفي وتلك الطروحات التي شكلت المصدر الاساس، وهنا نقف على ناصية فكرة متفردة الطباع، حيث سقراط رسخ المبدأ وما تخلى عنه، والموت سما هو الصورة الادبية المثلى، التي تبناها دوستوفسكي داخليا، حتى بقي في كنيسة يومين كاملين، ليدرك كيفية بناء شخصية دينية، وهذا التعايش الروحي هو المعنى الاجدر الذي يمكن فهم الغاية الاقصى للأدب من خلاله، وما الذات الخارجي والذاكرة صراحة الا عوامل مساعدة، واذا لم تفرد طباعك في الكتابة ما تختلف عن الاخرين ابدا، وما الجدوى هنا من ما كتبت، فلابد أن يكون الاختلاف حقيقيا ومكتسبا بوعي وحس جمالي ايضا، ونحن لا ننكر هناك دور لمفهوم افلاطون المحاكاة، فالفن ينمو عبرها، ولكن ليس بتقوقع المؤلف داخل شخصه، بل يترك لوعيه وثقافته بكل ابعادها الدور الاساس، وصراحة اذا لم يكن هناك ثقافة عامة ووعي ادبي فالكتابة محض تجريب شخصي فاشل، وانت في شخصك لست النموذج الادبي بل ذاتك الورقية، والتي من الممكن أن تطوى بصيغ شتى ملاءمة للنص .
هناك فهم عام للكتابة من الجهة الاساس، وهناك فهم اجدر يقابله من الجهة الاخرى، وهو الفهم النوعي المخصوص، فعندما تخطط لكتابة نص، فأنت في هذه الحال صرت داخل اسوار ذلك النص، وهو يدعوك الى استثمار المقومات الفنية، فأنت بالأساس متربطا بها، ولكن نرى الكثير ممن يضعه همه في الافق العام، ولا يدرك في افق الفن يستدل على مقدرته وحدودها من جهة، ومن جهة اخرى يدرك ما تمكن من تحقيقه لخلق طبع ادبي متفرد، وانت بلا تفرد تشبه اي كاتب اخر يزاول مهنة الكتابة شخصيا، (والحق إن الممارسة تشتمل على الفهم التطبيقي الذي لا يشكل استدلالا محضا حسب بل يكون منفصلا عن الفعل بحد ذاته)1، وصراحة وعيك هو يخطط ويراقب وانت تنفذ فعل الكتابة، ومن الطبيعي نفصل ما بين وعي الكتابة وفعل الكتابة، فأداء الكتابة في البعد العضوي ليس هو الاحساس بها، والنص لست انت بالرغم من وجود اسمك عليه، واذا سمحت للوعي بمنحك طاقة الكتابة وتتبعت هوسه وتندره قد تصل الى نتيجة مرضية للتلقي وعملية القراءة، وبعكس ذلك تكون قد خسرت الرهان في منح شخصك القدرة الكلية، وانظر الى ارنست همنغواي اعادت الصفة الوعي الصفحة الاخيرة من رواية له تسعة وثلاثين مرة فقط .
الكتابة موهبة في الجانب الاساس، ومن يمتلك موهبة فرهانه خاسر، والمعنى الشيق في هذه الفكرة يستدعي أن تمتلك طباعا متفردة اثناء عملية الكتابة، كي تتمكن حتى من نقد اعتقادك دون المساس به بطريقة الايديولوجيا المعارضة، وفرودي يرى دوسوتفسكي ليس فقط وجه نقدا لاذعا للأب، بل وضعه في حرج كبير في رواية – الاخوة كارامازوف – وفي رواية – المغامر – وجه لنفسه ذات المستوى من النقد، ومن المؤسف أن نجد ادباء يمجدون اعتقادهم وهو فيه العديد من المثالب، وغيره يستنكر نقد اعراف رتيبة لا تبعد الذباب عن الهة التمر، واخر يقلب صورته الى حال ممتاز، ويجعل غيره يتحمل اللوم والادانة، ولا اعرف هل نحن في بازار تحسين الضمير ام في مجال ادبي، يستوجب تطوير المعنى الإنساني الى اقصى حد ممكن، عبر خلق مجازات واستعارات وجذب قيم التاريخ والجمال نحو بنية النص، ويقوم المؤلف بالمراهنة على تلك القيم، واذا وجدت في نفسه من الممكن أن يلم لها، واذا يخلو شخصه منها، فالنص يتيح له اكتساب تلك القيم، وهنا يكون قد حقق نوعا من الموازنة الجدير وذات اهمية واعتبار معتبر .
يحتاج التعبير الادبي من اعادة تفسير الذاكرة من جديد، هذا اذا كان هناك سلطة للنص على المؤلف، وهي من تمنحه طاقة اذا تحول الى كائن ورقي يتبادل الافكار مع الشخوص في الرواية والقصة، واما في الشعر المعاصر والقص القصير جدا، فثمة فسحة واسعة للتندر والغرابة وللامعقول ايضا، والعمل الادبي في حالة الفعل ليس هو نفسه في حالة المعنى، فالكينونة تختلف عن الماهية كما يختلف الوجود عن الموجود، والاثر هو ما يفسره التلقي، فيما الفعل هو الاداء العضوي الذي يسعى الى تفسير نفسه عبر ثقافة المؤلف إن وجدت ووعي تأهيل الكتابة، وكما يمكن فصل الأدب او الأدبية كمفهوم عن اي مادة ادبية مكتوبة، وعلى وجه الخصوص في الحال الذي تكون فيه بين دفتي كتاب، وهذا الفصل ليس بذات القصد الذي نفصل فيه بين وعي مغلق من جهة ووعي مفتوح من جهة اخرى، فالوعي المفتوح يتقبل القيام بدور تفرد الطباع، والقصد لينتج ذلك النص الذي يثير كل عملية قراءة بقيمة قضاياه، والتي سنكون في التلقي قد اكتشفناها من جديد بذهول وليس بسياق عابر، فالصيغ المتفردة هي عملية اكتشاف قام بها النص .
***
محمد يونس محمد
.................
1- الحلقة النقدية، ديفيد كوزنز هوي، ترجمة خالدة محمد، منشورات دار الجمل، ص 86