أقلام فكرية
انثروبولوجيا الدين وتغير المجتمع..
يعنى علم الانثروبولوجيا بدراسة كل ما له علاقة بطبيعة المجتمع البشري، هو من حيث الاصل مصطلح يوناني لكلمة من مقطعين علم وانسان فهو علم الانسان.. وهو علم قديم حديث.. قديم من حيث انصاف المعاصرين المشتغلين في هذا المجال لجهود الاقدمين فقد اطلق لقب "ابو الانثروبولوجيا" على هيرودوتس "ابو التاريخ" واطلق لقب "هيرودوتس العرب" على ابي الحسن المسعودي صاحب كتاب مروج الذهب، وذلك تقديراً لجهودهما في وصف طبيعة المجتمعات التي ارخوا لها..
يرى المؤرخون ان قدم علم الانثروبولوجيا يعود الى بدايات تأمل الانسان بطبيعة المجتمع، فهو اقدم العلوم.. وهو علم حديث من حيث دخوله الى الجامعة، فقد عيّن اول استاذ للانثروبولوجيا في جامعة اكسفورد عام 1884 وكان السير ادوارد تايلور، واول استاذ للانثروبولوجيا في جامعة كامبردج كان مستر هادن سنة 1900 وبذلك يرى المؤرخون ان افضل تاريخ حديث لعلم الانسان في نهاية او منتصف القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، حيث ظهرت مدارس وطبعت كتب في منتصف القرن التاسع عشر..
يشتمل علم الانثروبولوجياعلى علم الانسان الاجتماعي وعلم الانسان الثقافي وعلم الانسان الحياتي وعلم اللغة..
يدرس علم الانسان الاجتماعي العادات والممارسات والسلوك، ويتناول علم الانسان الثقافي ثقافات الشعوب على اختلاف الزمان والمكان ودورها ووظائفها الاجتماعية، وعلم اللغة يعنى بتأثير اللغة في الحياة الاجتماعية وعلم الانسان الحياتي يدرس منظومة جسم الانسان البايولوجية.. يرى اتباع المدرسة الامريكية ادراج علم الاثار ضمن الانثروبولوجيا كونه يعنى بدراسة ثقافات الشعوب القديمة بينما لا ترى المدرسة البريطانية ذلك حيث ترى ان علم الاثار علم مستقل كونه اقرب الى التاريخ منه الى الانثروبولوجيا..
نتناول الدين في بحثنا هذا من حيث هو هوية ثقافية، ومن حيث ما توصل اليه علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والانثروبولوجيا من حقيقتين:
الاولى: انه لا يوجد مجتمع الا وله دين او هو يبحث له عن دين.
والثانية : انه ما من شخص الا وله شعور ديني يختلف من شخص الى اخر فقد يكون متذيذباً او مخفياً او متخذا نمطا معينا وقد يظهر في فترة من عمر الانسان..
يرى المؤرخ الفرنسي ارنست رينان المشهور بترجمته للكتاب المقدس والداعي الى نقد مصادر الدين نقدا علميا وتاريخيا لكي يتم التمييز بين ما هو تاريخي وما هو اسطوري مما ورد في الكتاب المقدس، يرى انه " من الممكن ان يضمحل ويتلاشى كل شيء نحبه وكل شيء نعدّه من ملاذ الحياة ونعيمها ومن الممكن ان تبطل حرية استعمال العقل والعلم والصناعة ولكن يستحيل ان ينمحي التدين او يتلاشى بل سيبقى ابد الآباد حجة ناطقة على بطلان المذهب المادي"
يقول كارل غوستاف يونغ الطبيب وعالم النفس السويسري، مؤسس علم النفس التحليلي " من بين جميع المرضى الذين تعاملت معهم في النصف الثاني من حياتي لم اجد مريضاً واحداً لم تنته مشكلته في نهاية المطاف الى مشكلة العثور على رؤية للحياة ويمكن القول بكل ثقة ان هؤلاء جميعاً انما شعروا بالمرض بسبب فقدانهم الشيء الذي تقدمه الاديان الحية في كل عصر لاتباعها ولم يتماثل اي واحد منهم للشفاء الحقيقي قبل ان يعثر على رؤيته الدينية "..
تغير المجتمع هو التحولات التي تطرأ على المجتمع ووظائفه وهو صفة اساسية من صفات المجتمع ولا يختلف مجتمع عن اخر في ذلك الا في درجة التغير وعلى ذلك ينظر الى مجتمعات انها متأخرة واخرى متقدمة، اخذ بعض الباحثين هذا التفاوت في درجات التغير الاجتماعي وبحثوا في اسباب تأخر مجتمعاتنا العربية فعلقوا على الدين اسباب ذلك التأخر، فدعا بعضهم الى فصل الدين عن الدولة ودعا اخرون الى التدين الفردي حيث كل شخص حر في طريقة تدينه وله حرية وحق اظهار ذلك الشعور او عدم إظهاره، ودعا بعضهم الى إعادة تعريف الدين وفصله عن الهوية الثقافية الإجتماعية.. اننا نبحث في الدين من خلال علم الإجتماع الديني حيث علاقة الدين بالمجتمع وتأثير الدين في المجتمع وعلاقة الفرد بالدين وعلاقة الدين بالهوية وبناء الذات وتكوين الشخصية ولا نتطرق الى الدين من حيث هو علم فقه او علم كلام، ونتناول علاقة الفرد بالأسرة والأسرة بالمجتمع وعلاقة المشاكل الأسرية والفردية بطبيعة المجتمع وإرتباط ذلك بالهوية الثقافية للمجتمع..
يعتز مجتمعنا على اختلاف توجهات شرائحه بالهوية الدينية ويحرص كثير من الناس على اظهار الشعور الديني في مجالات الحياة العامة والخاصة، يدرس العلماء تغير المجتمع باهتمام من اجل مزيد من العدالة الإجتماعية والرفاهية الإقتصادية والتوازن الإجتماعي والتطور الثقافي، احاول في هذا البحث تسليط الضوء على ما يمكن من تأثيرات جانبية لتغير المجتمع يتوقع منها ان تلحق ضرراً بالهوية الثقافية الدينية الاجتماعية..
تعرض المجتمع العراقي في العقدين الأخيرين الى جملة ضغوطات واحداث القت بضلالها بشكل ملحوظ على تفاصيل الحياة اليومية ما بين تغيير نظام الحكم بدخول المحتل القادم بادوات تختلف عما كان عليه في السابق وما ترتب على ذلك من فوضى نتج عنها اضراب الامن وظهور العنف والارهاب والتطرف الديني وما ترتب عليه من اضطراب اقتصادي الحق الاذى بدخل الفرد فازداد اعداد الفقراء الى شرة ملايين على وفق احصاءات وظهرت حالات والبطالة والتردي التعليمي والتراجع الصحي وازدياد الفجوة بين السلطة والمجتمع الى الحد الذي اصيبت به الثقة بالأذى البليغ وتهددت الشخصية العراقية في توازنها واستقرارها واصبحت سنوات التغيير السياسي والإداري والإنفتاح العالمي مدعاة للقلق ومصدراً للخوف على سلامة مستقبل البلاد والمجتمع في ظل هكذا فوضى، علم الإنثروبولوجيا يأخذ هذه الأمور بنظرة شمولية تبدأ بمرحلة الوصف حيث يدون الباحث الإنثروبولوجي الحدث بزمانه ومكانه وتفاصيله في مرحلة يطلق عليها اثنوغرافي وتليها مرحلة التحليل والدراسة وهي مرحلة الإثنولوجي.
قد يبدو للقارى ان علم الإجتماع لا يختلف عن علم الانثروبولوجيا في تناولهما لطبيعة المجتمع لكن ما تجدر الإشارة اليه ان علم الإجتماع يعنى بجزئية من جزئيات الحياة الإجتماعية بالدراسة والتحليل كأن يدرس الدين في المجتمع او يدرس الطلاق أو العنف الأسري أو الإنتحار أو غيرها من مشاكل الحياة الإجتماعية أما علم الإنثروبولوجيا فإنه يتناول هذه القضايا بنظرة شمولية من خلال مباحثه في علم الانسان الإجتماعي والثقافي والحياتي وتأثير اللغة..
يستجيب المجتمع عادة للتيار الأقوى الغالب على طبيعة المشهد الحياتي للناس، ومن بين التيارات التي عصفت بالبلاد خلال العقدين الأخيرين يبرز تيار تيار الإنفتاح العالمي ومشاريع الإقتصاد الصناعي السياسي العالمي حيث الشركات العابرة للقوميات والمشاريع العملاقة التي تتجاوز اللغة والدين والجغرافية والسياسة وتتيح لكل شخص حرية دخول السوق العالمية من اجل التجارة والاستثمار، انه أمر لا يدعو في ظاهره الى القلق، لكن القلق يبدأ مع وجود جهود عالمية لدمج المجتمعات المتأخرة في النسيج العالمي، ذلك النسيج الذي تقف وراءه ثقافة غربية ولغة غريبة عن طبيعة مجتمعنا، وهو ما يمكن ان يعرض المجتمع الى للتغريب الثقافي..
تواجهنا مشكلة حرية التعبير وحرية التفكير وحرية الاعلام وحرية النشر التي وجدت مساحات مفتوحة في العالم الافتراضي لاحتوائها ودعمها بحيث بدأت تظهر محتويات هابطة لأشخاص غير مؤهلين لبلوغ مواقع الشهرة والوجاهة في المجتمع لأنهم دخلوا عالم الاتصالات والتواصل من اجل الكسب المادي فقدموا لذلك عروضا هابطة وتافهة حسبها انها لقيت اعجاب ومتابعة كثير من الناس الباحثين عن الغريب والمثير والساخر كي يخففوا عن انفسهم ثقل ضغوطات واقع الحياة الاجتماعية التي يعيشونها ولا يجدون فيها املا مشرقا في غد يزيح عنهم هذه الضغوط التي بلغت الحد المسموح به للتحمل من قبل كثير من الناس، لقد اخذت كثير من السلوكيات السيئة تظهر في الشارع وهي تتقاطع مع منظومة البناء الاجتماعي التي يجدها المجتمع معبرة عن طبيعته ولقيت امتعاض كثيرين عندما يخرج شاب الى الشارع بالبرمودا القصير فوق الركبة بينما تفرض العادات والقيم والدين ضوابط على خروج المرأة الى الشارع والشاب الذي يخرج الى الشارع بالبرمودا هو نفسه يرفض ويمنع خروج زوجته او اخته الى الشارع بدون حجاب..
لقد استثمرت كثير من منظمات حقوق الانسان ومؤسسات دعم الحريات الشخصية هذه السلوكيات وهذه الظروف ودخلت من باب الحريات والتحضر والتغير الاجتماعي ودعت الى رفع الحجاب عن المرأة من دون ان يأخذوا بنظر الاعتبار طبيعة الهوية الثقافية للمجتمع مما ادى الى ظهور تيارات متشنجة حد العنف ضد دعاة خلع الحجاب وظهرت تيارات اخرى تدعو الى اعادة النظر في الموروث الديني والاجتماعي والثقافي، ودعت جهة ثالثة الى ترك الامر في خانة التقدير الشخصي للفرد، وهنا تظهر مشكلة كبيرة جديدة وهي ان اغلب الناس في ظل ظروف البلاد في العقدين الاخيرين لم تتهيأ لهم فرص التأمل في طبيعتهم وحياتهم وظروفهم ولم تتهيأ لهم فرص القراءة ومتابعة تجارب الاقدمين وبالتالي فهم عرضة الى تشكيل هوياتهم الجديدة من خلال العالم الافتراضي ومواقع التواصل والبيئة الجديدة الخارجة من رحم الواقع المجهض والمنهك بسبب ظروف الحرب والارهاب والاحتلال والاضظراب الامني والاداري والاقتصادي والثقافي..
هل تراجع دور المجتمع التربوي والتوجيهي والاداري في العقدين الاخيرين؟
كان المجتمع ولا يزال الى حد بعيد مراقباً جيداً لنظام البناء الاجتماعي فيما يخص تبادل العلاقات بين ابناء المجتمع الواحد ومتابعة ما يظهر من حالات وسلوكيات تشذ عن الاطار العام للهوية الثقافية للمجتمع الاسلامي، لكن الفترة الاخيرة في حدود العقدين الماضيين اتسمت بظهور تحوير للمعنى او تغيير في حدود المعنى للمعنى لبعض المصطلحات ومن اهمها مصطلح الحرية الذي يأخذ بيد الشخص الى حيث مبتغاه وان كان ابعد من حدود الذوق العام وطبيعة المجتمع، يكفي ان يكون حراً بالقدر الذي لا يلحق ضرراً مباشراً آنياً بغيره، حتى وان ترتب على تلك الحرية الشخصية انماطا سلوكية لا تبعث على ارتياح الاخرين، كما ان التقنية المتطورة بمنتجاتها التي لم يعد بوسع اي شخص التخلي عنها في مجالات الحياة الاجتماعية ادلت بدلوها في احداث فجوة داخل الاسرة الواحدة بين الاباء والابناء عندما وجد الاباء تفوق قدرات ابنائهم على قدراتهم في التعاطي مع مخرجات المشاريع الصناعية الإقتصادية وتنوع سبل المعرفة وسهولة الوصول الى المعلومة، خصوصاًً وان لغة العالم الإفتراضي هي اللغة الإنكليزية التي لا يجيدها كثير من الآباء بالجودة التي حظي بها الابناء..
تأثير اللغة في الحياة الإجتماعية..
للغة تأثراتها على الحياة الاجتماعية فهي روح الهوية الثقافية، إذا تغيرت طبيعة تلك الروح من اللغة العربية الفصيحة الى لهجات ولغات دارجة اوجدتها الضرورة بحكم تراجع مستوى التعليم الى مهنية الوظيفة الروتينية مقابل العروض القوية التي يوفرها العالم المنفتح على بعضه اقتصادياً وثقافياً وتجارياً، الامر الذي يفرض على كثيرين تعلم تلك اللغات لمراعاة المصالح والمنافع والمكاسب، وهذا الوضع يجر باتجاه الابتعاد عن الهوية الثقافية لطبيعة المجتمع الاسلامي العربي، وما يدعو الى القلق ان كثيرين تقمصوا شخصيات قلقة تبدو في ظاهرها متوازنة لكنها في الواقع مجاملة اكثر منها واقعية، لأن المجاملات تهيء جواً من الهدوء يمكن من خلاله تمرير حالة اللاتوازن التي يعيشها كثير من الناس بسبب عدم التكافؤ بين طبيعة الهوية الثقافية للمجتمع بماضيه وحاضره مع عجلة الزمن الماضية باتجاه التغريب الثقافي في المستقبل خصوصاً جيل الأبناء الذين اخذوا يفتقرون الى الصلات التي كان الاسلاف يتمتعون بها مع اسرهم ومجتمعهم، جيل الأبناء اليوم يرتبط بمحيطه ارتباطاً بيولوجيا في اطار مجاملاتي في جو مستقر سرعان ما ينكشف وهنه مع أول احتكاك أو اصطدام تمليه المصلحة الشخصية وتفرضه ظروف الحياة المادية التي تلاعبت بالنسيج الاجتماعي ودفعت به الى تشكيلات وتجمعات بشرية يطلق عليها نظرياً - مجتمع - لكنها عملياً كتل متفرقة لكل منها نظامها الاجتماعي الذي تعبر به عن طبيعتها الجديدة في بيئة تعلو فيها لغة الارقام على سواها من اللغات الحية..
دعوات إحلال اللهجة العامية محل اللغة الأم..
اتسعت في العقدين الاخيرين دعوات اشاعة اللهجة العامية على اللغة الفصحى، واشاعة تسكين اواخر الكلمات على التمكن من سلامة مخارج الكلمات على وفق الضوابط اللغوية والقواعد، واشاعة دعوات تمرير الأخطاء على النقد البناء بحجة ان النطق مرهون بالقصد من سياق الكلام، فصار بمقدور كل من لا يمتلك ناصية الإجادة ان يظهر في محافل اجتماعية وثقافية ليتحدث واذا صادف ووجهت له انتقادات بخصوص تعثر اللغة على لسانه اعتذر مبررا تعثر لغته بعدم تخصصه في اللغة العربية ومضت كثير من اللقاءات والمحاضرات والخطابات على هذا الفقر الثقافي، وما يخشى منه في هذا الجو الملوث ان تضيع اللغة العربية في حياة العامة من الناس ويتحول المتمكنون من ادواتها الى اشخاص يحظون بالتقدير والاحترام اكثر من وجوب ادائهم دورهم النقدي البناء لتصويب السنة المتكلمين بالعربية من الشعور بمسؤولية حمايتها لما تمثله من روح للهوية العربية الاسلامية لكي لا تحل اللغة المسموعة محل اللغة المكتوبة لما تخفيه اللغة المسموعة من قبح في شكل الكلمات تفضحه اللغة المكتوبة، ولعل وسائل التواصل الاجتماعي تكشف هذا الخطر المحدق بسلامة اللغة عندما يتخاطب المستخدمون في مراسلاتهم بنصوص تكتب بلا ضوابط هي اقرب الى التصور الشخصي لنطقها منها الى المعيار اللغوي لها فجاءت كلمة شكراً بالنون بدل تنوين الفتح وما الى ذلك، مما يهدد سلامة التفكير في تحديث البناء الاجتماعي واقتصاره على التكرار والتشابه في الخطوط العامة كما هو حال المجتمع خلال العقدين الماضيين ماضياً باتجاه لا يفضي الى ضوء في اخر الطريق، يشمل هذا الواقع تفاصيل حياتنا من مأكل وملبس وعادات وسلوكيات وامنيات وعثرات، لا شك ان لهذا الواقع حضوره في المعتقدات والاخلاق والتفكير والعبادات والعادات، يمضي هذا الواقع اليومي باتجاه تعويد الناس على القبول به واقعا اعتيادياً بما له وما عليه، وهذا الاعتياد سيتحول الى تصورات مقبولة عند الاجيالل الناشئة وبالتالي فهو يهدد المجتمع بالركود والخمول وهو خلاف ما يدعو اليه الدين الذي يقضي بتطور الانسان وتحضره وترقية التكوين الانساني في الذات البشرية، وسيغدو التفكير بتغيير الواقع امراً صعباً او غريباً او لا ضرورة له بعد ان تهيمن مشاهد الحياة الاجتماعية على طبيعة الناس وتجعلهم الى التغريب الثقافي اقرب منهم الى انعاش هويتهم الثقافية خصوصاً وان منتجات التقنية المتطورة توفر كثيراً من دعوات القبول بالجاهز في كل شيء في الطعام والشراب والتفكير، فما يندرج ضمن العروض التجارية التي توفر خدمات مريحة تختصر جهد المرأة في اعداد اطباق الطعام التي كانت تضفي على جو الاسرة تقارباً والفة ينمو فيها الحس والتقدير والمحبة التي غابت عن كثير من الأسر بظهور المعلبات والاطباق الجاهزة والاكلات السريعة وما ترتب على ذلك من انصراف الناس الى امور اخرى هي اقرب الى التمتع واللهو والرغبة منها الى الجد وعمق التفكير فأصيبت الهمة بالضعف وصار الناس اكثر استعداداً لقبول الحلول العاجلة على الحلول الصحيحة، يكفي انها حلول تنهي هذه المشكلة..
وسط هذا الكم الكبير والخانق من ضغوطات الحياة اليومية الجديدة في بدايات القرن الحادي والعشرين وبدافع من الحراك الاجتماعي في ظل الهوية الدينية الثقافية يبحث كثير من الناس عن اماكن يستشعرون معها الهدوء والطمأنينة من اجل الخروج بالنفس من دائرة الضغوطات وحالات الشد والتوتر، وقد امتازت بلادنا بوجود مراقد انبياء وائمة اهل البيت عليهم السلام وكان لوجودها الاثر الكبير في تخفيف حدة التأزم التي فرضتها على المجتمع مجريات الامور على اختلافها مابين سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية فضلا على ان وجودها عزز ووثق اهمية الهوية الدينية في ثقافة المجتمع اوقات الازمات والشدائد وكانت كثيرة خلال العقدين الاخيرين ابرزها موجة الارهاب التي ضربت الحياة الاجتماعية للناس وهددت النسيج الاجتماعي بالتمزق..
اظهر بعضهم التزامه الاجتماعي باداب زيارة المراقد والمساجد من حيث حاجته الى الراحة النفسية التي يعلم مسبقا ان الجو الديني يوفرها مع استمراره في حياته المادية والمهنية التي قد يفرغ محتواها احيانا من اي التزام حقيقي ومن شأن ذلك ان يقصر الهوية الدينية على الجانب المعنوي دون جوانب الحياة الاجتماعية العملية الاخرى فقد سجلت المشاهدات الحية مداراة بعض الناس للذوق العام فقد ظهرت سيدة متعملة وهي بكامل حجابها في احد المزارات الدينية كما شوهدت في وقت اخر في مكان ترفيهي عائلي وهي بكامل اناقتها وتبرجها وعلى مقربة من شخصيتها بدت غير مضطربة فكرياً او سلوكياً او نفسياً لكنها كانت تلبي احتياجاتها النفسية البيولوجية فعندما شعرت بحاجتها الى الهدوء والسكينة قصدت احد المزارات الدينية ووجدت انها تراعي الذوق العام وتعطي المكان زياً يناسب ظهورها فيه كي لا تكون موضع انتقاد ذاتها والاخرين فارتدت الحجاب وقضت ما رأته وقتا كافياً للراحة وصفاء الروح وهدوء النفس والخشوع، وعندما احتاجت الى الترفيه قصدت مكانا يتلائم مع حاجتها في اطار اجتماعي اخلاقي متمدن فدخلت منتزها‘ او منتجعاً عاماً ووجدت ان تظهر بما يناسب المكان وما يبعث في نفسها البهجة والسرور والظهور فهي تجد نفسها موفقة في اختيارها الزي المحتشم لتلائمه مع طبيعة المكان الذي تقصده كما انها كانت موفقة في اختيار نوع الملابس والهيأة التي تظهر بها في مكان عائلي ترفيهي..
تأثير الوضع الاقتصادي في الهوية الثقافية الدينية للمجتمع..
يسهم الوضع الإقتصادي في فرض اوضاع قد تبدو غريبة او مريبة او مقلقة او تدعو للشفقة واحياناً قد تدعو للقلق خصوصا عندما يمر المجتمع بظروف تغيير يسهم تردي الحال الاداري للبلاد في ترسيخه في الحياة الإجتماعية فعندما لم توفق ادارة البلاد الى النظر الى واقع المجتمع من خلال طبيعته وهويته اشتدت على الناس ظروف الحياة الجديدة اقتصادياً وثقافياً فقد فرضت ظروف العيش من جهة والنمو السكاني من جهة اخرى واحتياجات المنظومة البيولوجية للجسم من جهة ثالثة، فرضت هذه الظروف مجتمعة نمطا من انماط العيش يقتضي بموجبه وجود اكثر من عائلة في بيت واحد، فالاولاد يكبرون ولا يمكن بحال من الاحوال تجاهل احتياجات منظوماتهم الجسمية والنفسية وربما يمكن تأجيلها لكن بلا شك تفرض نفسها وتلح في فترة من الفترات ولأننا مجتمع ديني فهو يجتهد لكي لا يفلت زمام الامور ويخرج بعيدا عن الإطار الأخلاقي الديني الذي ترتضيه الأعراف والتقالبيد والأخلاق فقد كان الأخوة يتزوجون في ذات البيت ولكون الحال لا يعطي املا قريباً في انفراج يحدث معه استقلال كل اسرة على حدة فقد واجهت كثير من الأسر مشكلة الإلتزام الديني بحجاب زوجة الإبن من اخوة زوجها، فمن جهة تبذل الأسرة كل جهدها كي تبقى هويتها الدينية فاعلة في ثقافتها الإجتماعية ومن جهة لا تريد لهذه الهوية الدينية ان تتحول الى إلزام مفروض مراعاة لمشاعر زوجة الإبن التي من حقها ان تتحرك داخل البيت بحرية ادبية كافية لمنع الضغط النفسي فعندما يفرض التشريع الديني على المرأة ان تتحجب من اخوة زوجها ويفرض واقع الأسرة المعاشي ان يعيش الاخوة مع بعضهم وما يترتب على هذا الجو الأسري من مراعاة ومداراة لنفوس الموجودين في البيت لتحاشي وقوع المشاكل ومضاعفات التقيد فقد اجازت بعض الاسر لزوجة الابن ان تخلع حجابها امام اخوة زوجها كونهم اخوتها بحكم الواقع الذي تعيشه الاسرة، مع الإبقاء على حجابها خارج المنزل، فهل يترك ذلك اثره السلبي على الهوية الدينية؟ وهل يؤثر ذلك سلبا على بناء الشخصية؟ وماذا عن التعبير الذاتي للفرد عن هويته وطبيعته الجديدة؟ هل يشعر بثقل الهوية الدينية او انه يشعر بحاجته الى اعادة صياغة الهوية الدينية في ظل ظروف الواقع الحياتي الذي افرزته التغييرات التي طرأت على المجتمع؟
على كثرة ما الم بالمجتمع العراقي من صعوبات وشدائد ومعاناة ترتبت على دخول منتجات تقنية متطورة بعيداً عن التوجيه والإرشاد وثقافة الاستخدام لتلك المنتوجات التي شدّت اليها جيل الشباب واصبحت ضرورة ملحة في حياتهم ومكمن خطورتها في انها صارت مصدر تزويدهم بما يحتاجونه لبناء الشخصية من لغة تخاطب ومن اداب تعامل، لذا وجب تحريك هويتنا الثقافية القائمة على اركان اخلاقية ودينية وانسانية واعية لتحريك نهضة المجتمع باتجاه الحفاظ على الهوية الدينية التي هي ضرورة وحاجة اساسية تتطلبها حياة الفرد والمجتمع في مرحلة او مراحل الحياة الهادفة، ولعل من الخطأ اعتقاد بعض الناس ان السعادة والفرح هدف او غاية يسعون اليها في حياتهم وفي الحقيقة العلمية فان العالم المادي عالم ميكانيكي حركي استهلاكي، وهو عالم متعب ولا تلتقي الراحة بالتعب الا من خلال الدين بروحه التي تحل في الابدان فتحركها صوب الهدف المرجو من الجسم البشري كوسيلة.
ما مدى قدرة الدين على الاقتراب من واقع الناس وتفاصيل حياتهم اليومية التي لم يعد ممكناً فيها تجاوز المعاناة المستمرة والمتراكمة وتعقيداتها التي تزداد مع ازدياد النمو السكاني ونقصان الموارد وفرص العمل؟
هل يستطيع الدين انقاذ المجتمع من الوعي السلبي المضطرب الذي تفرضه على واقعه ضرورات الحياة اليومية؟
هل سيؤثر التكرار اليومي للمشاكل على علاقة الدين بالمجتمع؟ ما هو شكل ذلك التأثير مستقبلاً؟
ماذا لو تمكن المجتمع من اعتياد عدم التزامه ببعض الثوابت الدينية والتشريعات.. هل سيؤثر هذا في تفاصيل الهوية الدينية الثقافية للمجتمع والفرد؟
هل اننا مقبلون على نظام جديد للهوية الدينية الاجتماعية يراعي ظروف الحياة المعيشية والمعرفية والإدراكية للفرد؟ ويقدم حلولاً مقبولة وان كانت تفتقر الى الاصول والمنطق والصواب.. واذا حدث هذا هل يعد تغييراً دينياً ام تنازلاً؟
ماذا لو فرض واقع الحال نفسه على الهوية الدينية واجاز بعض الممنوعات دينياً باسم الضرورة الحياتية؟
هل تسهم الضغوط الحياة الإجتماعية والإقتصادية والشخصية في دفع الناس الى قبول العروض الآنية السيئة من اجل تجنب الوقوع في الأسوأ؟
***
د. عدي عدنان البلداوي